12-مارس-2023
لوحة لـ فابيان فيردييه/ فرنسا

لوحة لـ فابيان فيردييه/ فرنسا

هل يمكن تسمية القصيدة الغنائية، القصيدة المحافظة، أو بالأحرى الوفية لاستمرار الشعر الفرنسي، في عاطفيته وانفعاليته، الممتدة من القرنين الخامس عشر والسادس عشر، مع فيلون ودوبيليه ورونسار، ومرورًا بالرومانطيقيين الكبار، ومن ثم ورثتهم في القرنين التاسع عشر والعشرين كبودلير ورمبو وكلوديل وسان جون برس وبيار جان جوف؟

إذا كانت الغنائية قد استمرت، ربما وحدها، منذ الخمسينيات حتى اليوم، في تحمل عبء "الشعر" الفرنسي، في حضور التمارين اللغوية والثرثرة البيزنطية مع جماعة "تل كل" وسواهم، وفي حضور القصيدة – المنشور التي ظهرت ضمن "الواقعية الجديدة" بعد 1968 متأثرة في بعض وجوهها بالغناء الأمريكي وبشعر بعض المغنين. إذا كانت الغنائية قد تولت من خلال شعرائها في فرنسا المحافظة على الروح، وعلى التجربة الداخلية في مفهوم القصيدة المعاصرة، فهل استطاعت تطوير المنحى الغنائي هذا بعدما ترك فيع كباره بصمات وآثارًا عميقة؟

الغنائية الحديثة لم تطرح، هاجسًا، تحاول أن تتجاوز به باللغة أو بالمضمون، بنية وتركيب ولغة القصيدة الغنائية المعروفة، وإنّما على العكس، فإنها تجد شرعيتها مستمدة من ماضيها لا من مستقبلها.

يمكننا القول إنّ الغنائية الحديثة لم تطرح، هاجسًا، تحاول أن تتجاوز به باللغة أو بالمضمون، بنية وتركيب ولغة القصيدة الغنائية المعروفة، وإنّما على العكس، فإنها تجد شرعيتها مستمدة من ماضيها لا من مستقبلها. نعني، أنها، من ضمن الإرث المتشعب والمتشابك، لا تريد هذه الغنائية أكثر من أن تتنفس في حقيقة الهاجس والهموم والمشاعر الداخلية. أي في حقيقتها، في حالتها، في قلقها الإنساني والوجودي والديني والميتافيزيقي والفلسفي. من هنا إنها لا تريد لنفسها أكثر من قول ذاتها قولًا شعريًا، بعيدًا عن الفذلكات اللغوية، والبلهوانيات اللفظية، لتحقيق "جديد" ما أو "تجاوز"، أو "لعبة" ما، تتم في مختبرات تفوح منها رائحة المستحضرات، أو في معامل ومصانع تسيرها آلات الكمبيوتر.

بهذا المعنى، ما أعطت، المتجاوز. وما أعطت الجديد. حافظت على الإرث القديم، ورسمت على مساحته دوائر قلقها. وبهذا المعنى أيضًا لم تعط جديدًا، لأنّها بنت من اللغة الموجودة أصلًا، لغتها الجديدة، من ضمن تنوع توجهاتها الداخلية.

إن تنوع هذه التوجهات الغنائية، تمتد من أنواع القلق الروحي، بتمزقاته التاريخية أو همومه الميتافيزيقية، كما نجد عند بيار ايمانويل وجان كايرول ولوك استانغ وباتريك دولاتور دي بان، إلى نوع من التفتح الإنساني والكوني كما نجد عند أندريه فرينو وجان تارديو، إلى نوع من الحساسية التأملية والساخرة والحميمة، كما نجد عند فيليب جاكوتيت، وغيفيك وجان فولان...)، أو إلى تجريد تغتذي جذوره من معاناة إنسانية شاملة ومطلقة كما في شعر إيف بونفوا وجان تورتيل، أو على غنائية تفوح منها رائحة توراتية كما هي الحال عند جان كلود رينار وجان كروجان وهنري ميشونيك، إلى غنائية مكثفة، مغلقة، موجزة، مثقلة كما في شعر جاك ريدا وجاك دوبان.

هذه التنوعات في الأصوات الغنائية، تكشف إلى أي مدى اتسع افق الغنائية وتعمق قرارها، وتعددت إطلالاتها، سواء على صعيد الرؤيا الإنسانية والاجتماعية والكونية أو على صعيد اللغة المعبر عنها.

هذا التعدد وهذه الغزارة، لم يحولا دون وقوع جزء كبير منها، في القول المسطّح وفي المناخ المكرّر، خصوصًا عند الذين أرادوا أن يكون من طموحاتهم الشعرية، نزعة نحو الملحمية والصوت العالي، وذلك واضح في شعر بيار إيمانويل وأندره فرينو وده لاتور دو بان، مما أدّى إلى ثرثرة  مزعجة ورتيبة وإلى رغبة في التبشير عن طريق الرؤيا الشعرية، مما يسقط قسما كبيرًا وكبيرًا جدًا من نتاجهم، في لفظية خطابية لا تسعفهما كثيرًا النبرة المرتفعة.

هذا يعني، أن غنائية هؤلاء تغرق في مضامينها، فيضعف مداها، ويخبو ألق توهجها، وتنحو بعض مطولاتها، منحى لمقامة العربية، في برودتها وجفافها. لكن، بعض الشعراء وخصوصًا الجدد، أنقذ هذه الغنائية من مدها اللفظي، ومن اجترارها للأرث الغنائي السائد في العشرينيات والأربعينيات، وحاول تقديم غنائية، هي إلى كثافتها اللغوية، وبنيتها الممتلئة، تكتنز شفافية، وعمقا، وهنا لا بد من ذكر جاك دوبان متأثرًا برينه شار، وايف بونفوا متأثرًا ببيار جان جوف، وبيار أوستر، ومارك شولودنكو متأثرين بالشعر الأمريكي، وهنري ميشونيك ساحبًا النبرة التوراتية إلى شعره، وأندريه دو بوشيه مستفيدًا من لعبة المسافة على البياض، ومن مساحة الفراغ حيث نجد حوارًا بين البياض أو الفراغ وبين الكلمة أو الشكل، كأنما، ينتزع شعره من الصّمت، من السّكوت، ومن السر.

تردّدت الغنائية الفرنسية بين الحنين إلى الأشكال الماضية، بروحها ولغتها، وبين الرغبة في التجديد. لكن هذا التجديد يلقي عنه، هوس اللغة، ليستمد حركته من كيميائية، غير مخبرية وغير اختبارية

الغنائية الفرنسية، في السنوات الثلاثين الأخيرة، تردّدت بين الحنين إلى الأشكال الماضية، بروحها ولغتها، وبين الرغبة في التجديد. لكن هذا التجديد يلقي عنه، هوس اللغة، ليستمد حركته من كيميائية، غير مخبرية وغير اختبارية، قدر ما هي كيميائية شعورية، ووجدانية، خالصة. من هنا، إنّ تحقيق التجديد، بدا في معظم النتاج الغنائي، أبعد من ذاته، وأبعد من مجانيته، جاء ملازما لحاجة التعبير/ كحاجة نفسية وإنسانية واجتماعية وسياسية ودينية، ضمن هذا الاطار تخلى معظم الشعراء الغنائيين، عما يسمى التجريبية الخاضعة خضوعًا مسبقًا لإرادة البحث والاكتشاف والتجاوز.

فيبقى السؤال عندهم، له طابع سري، ميتافيزيقي، وجودي، لا يلقى جوابه الأخير في اللغة، كهدف ومصب. السؤال يبقى كيانيًّا، والغنائيون الفرنسيون، في هذا، لم يحيدوا كثيرًا عن طبيعة السؤال الذي طرحه الشعر الرومانطيقي بمشتقاته: الغنائية والرمزية وحتى السريالية في الربع الأول من القرن الحالي. سواء كانت الرومانطيقية فرنسية أم ألمانية... إنّها القصيدة الكيانية، المتداخلة، في عمق القلق الإنساني، وفي عمق الحالات وأشكال المعاناة الإنسانية. إنه بحث عن مطلق وجودي، دائب، ومستمر، يكرر السؤال الأبدي بين الواقع والمطلق، بين الزماني واللازماني، بين الحرية وحدودها ومظاهرها وتجلياتها.