28-يوليو-2019

يغذي ترامب الشعبويات في أوروبا الشرقية (The Week)

في مقابلة أجراها عضو البرلمان الأوروبي أندرياس شواب مع دويتشه فيله، انتقد شواب تأثير شرق أوروبا على اختيار رئيس البرلمان الأوروبي، إذ قال إن دول حلف فيشغراد - بولندا والمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا - نجحت لأنها تمكنت من منع  وضع بعض المرشحين على قائمة الاختيار ومنهم الفرنسي فرانس تيمرمان. في نفس السياق أكد شواب أن دول أوروبا الشرقية "تجتمع من جديد تحت لواء الأفكار الوطنية  الشعبوية بدلاً من الأفكار الأوروبية" التي وصفها بأنها مشكلة.

يمكن للمتابع للطريقة التي تعمل بها الأجندة السياسية الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، أن يفهم ببساطة كيف أنها قسمت أوروبا إلى أوروبتين، واحدة تسمى بأوروبا الديمقراطيات الغربية العتيقة، وهي تلك التي تشمل دولاً ذات ثقل سياسي مثل ألمانيا وفرنسا، وأوروبا أخرى هي أوروبا الشرقية، أو أوروبا الجديدة في مقابل أوروبا القديمة.

في أوروبا الغربية، المتغنية بديمقراطياتها، لا يحظى ترامب بذات الشعبية، بل بالعكس، لا يُرى ترامب أصلاً على أنه شريك سياسي جيد يمكن الاعتماد عليه

في أوروبا الغربية، المتغنية بديمقراطياتها، لا يحظى ترامب بذات الشعبية، بل بالعكس، لا يُرى ترامب أصلاً على أنه شريك سياسي جيد، يمكن الاعتماد عليه، وذلك ما تقوله دراسة لمركز بيو للأبحاث يمكن من خلالها قياس "فكرة عامة" عن شكوك الأوروبيين الغربيين إزاء أمريكا.

وجدت الدراسة أن 30% فقط من الألمان و38% من الفرنسيين لديهم صورة إيجابية عن الولايات المتحدة - مقارنة بـ 70% من البولنديين و63% من الهنغاريين. اللافت للنظر أنه إذا استبدلنا الولايات المتحدة بالصين في هذه المعادلة، فسيبدو الأمر وكأنه تناقض صريح، حيث يفضل 54% بكين الشيوعية ذات الاتجاهات الشمولية مقارنة بأميركا الديمقراطية. أما بولندا فإن هناك 86% يريدون أن تكون الولايات المتحدة القوة الرائدة، و6% فقط يريدون الصين في المقدمة. ووفقاً لذات الدراسة ترتفع في أوروبا الشرقية الثقة في ترامب لتصل إلى 35% عنها في الغربية التي لا تتجاوز 10%. 

لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى!

في الشرق تحاول أوروبا قراءة علاقاتها الخارجية- خاصة تلك التي مع الاتحاد الأوروبي وما تمثله بروكسل والولايات المتحدة الأمريكية- من منظور براغماتي بحت، هل الحرب التجارية التي يشنها ترامب ضد الاتحاد الأوروبي من وقت لآخر تضرهم؟ نعم هي بالفعل كذلك كونها تابعة لبروكسل، وبالنسبة للانتقادات السياسية، فهم مستفيدون بشكل ما، حيث تضع تلك الانتقادات بعض العبء الضاغط على بروكسل خاصة في ظل العقوبات التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على بولندا والمجر المثيرتين لحفيظة الاتحاد فيما يتعلق بالمهاجرين والحريات.

في شباط/فبراير الماضي على سبيل المثال حذر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بصراحة من تهديدات أمنية من روسيا والصين، لكنه لم ينتقد علانية الاعتداء على الديمقراطية من قبل رئيس الوزراء فيكتور أوربان من المجر، الذي جرد بشكل منهجي المحاكم ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية من استقلالهم.

اقرأ/ي أيضًا: نتائج ودلالات انتخابات البرلمان الأوروبي

من المهم الإشارة إلى أن وارسو تحت حكم فيكتور أوربان هي الأنموذج المفضل الذي يحبذه ترامب، ولعل أحدث صيحة قمعية يقوم بها كانت وضع منظمة الأبحاث العلمية الشاملة في البلاد تحت سيطرة السلطات الهنغارية بشكل رسمي، فيما اعتبر أنه تدخل غير مسبوق في حريات البحث العلمي.

حكومة فيكتور أوربان اليمينة المتطرفة سعت منذ وصولها إلى الحكم في 2010 إلى زيادة سيطرتها على العديد من قطاعات المجتمع ، بما في ذلك الضغط المالي على وسائل الإعلام المستقلة ومضايقة وفرض الضرائب على المنظمات غير الحكومية التي تعمل في قضايا مثل الهجرة، أما الأكاديمية العلمية التي سعى إلى وضعها تماماً تحت السيطرة الحكومية (جامعة أوروبا الوسطى) وهي مؤسسة أنشأها الأمريكي الهنغاري جورج سوروس، هذا فضلاً عن أنها تتكون من مجتمع من العلماء والمثقفين المتميزين ، إلى جانب شبكة بحثية واسعة تضم 15 معهدًا و 150 مجموعة بحثية تضم حوالي 3000 باحث علمي.

كان لازلو بالكوفيتش، وزير التجارة والصناعة في المجر، قد انتقد الأكاديمية في السابق بسبب ما أسماه "خوضاً في السياسة" تقوم به الجامعة، وقال في مقابلة مع بوابة إلكترونية مؤيدة للحكومة العام الماضي: "إن مهمتهم هي تقديم المشورة والتوصيات العلمية، إلا أنها مالت نحو أن تكون ناشطة سياسياً وليست هذه هي مهمتها". لازلو الذي هو بالمناسبة عالم الرياضيات ورئيس الجامعة قال موضحاً: "يمكن أن يكون للبحث في علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية انتقادات فيما يتعلق بسياسات معينة، وأعتقد أنه من المعقول أن تستمع الحكومة إلى هذا النقد".

إنهم قادمون من القمر !

وبالعودة إلى وارسو لا يبدو الأمر أكثر إشراقاً ، حيث بينت الرحلات التي قام بها بومبيو وزير الخارجية الأمريكي وبينس نائب الرئيس و تصريحاتهما في كلا البلدين التي تجنبت كثيراً انتقاد تآكل الحريات والديمقراطية ، إلى الدرجة التي جعلت رومان كوزنيار ، الأستاذ بجامعة وارسو ومستشار السياسة الخارجية للرئيس البولندي السابق برونيسلاف كوموروفسكي يقول "نعرف جيدًا أن إدارة ترامب ليست مهتمة بهذا الموضوع". إنهم قادمون من كوكب آخر، من القمر ربما! إنهم ليسوا جزءًا من الحركة العالمية المؤيدة للديمقراطية".

لعل تلك الرحلة التي كانت في شباط/ فبراير الماضي، والتي قيل أنه من أهدافها على الأجندة الأمريكية، إعادة تأكيد دور الولايات المتحدة في المنطقة، جزئياً لمواجهة النفوذ الصيني والروسي ، وذلك من خلال إبراز التعاون العسكري والصفقات التجارية بشكل أساسي، لعلها كانت مقدمة لما حدث منذ عدة أيام حيث أعلن ترامب نشر ألف جندي في بولندا  في مؤتمر صحفي مشترك مع الرئيس البولندي أندجي دودا في البيت الأبيض ، بعد وقت قصير من توقيع الزعيمين إعلانًا مشتركًا يؤكد التعاون في مجال الدفاع.

اقرأ/ي أيضًا: مجتمع جورج سوروس المفتوح.. أوتوبيا رأس المال المعاقة

دودا، الذي يفكر في تسمية المنشأة الأمريكية "فورت ترامب"، قال معلقًا على نشر القوات في بلاده " إن التدفق الجديد للقوات ضروري لردع  أي عدوان لموسكو على بولندا وللمساعدة في توطيد علاقات بلاده بالغرب." في هذا السياق كان ترامب قد ذكر فى وقت سابق أن الوحدة العسكرية يمكن أن تأتي من القوة الأمريكية فى ألمانيا، التى اتهمها بدفع القليل جدًا للدفاع المشترك لحلف الناتو.

يريد ترامب أن يلعب تلك اللعبة دون أن يثير حفيظة الدب الروسي حيث قال: "آمل أن يكون لبولندا علاقة كبيرة مع روسيا". وأضاف "آمل أن تكون لدينا علاقة كبيرة مع روسيا". من المهم ذكر أن للولايات المتحدة بالفعل قوات في بولندا كجزء من اتفاق عام 2016 مع حلف الناتو العسكري ردًا على ضم موسكو لشبه جزيرة القرم من أوكرانيا المجاورة لدول شرق بولندا في عام 2014.

يحصل ترامب على جو دافئ و علاقات حميمة في وارسو التي أنشد فيها الحشد "عيد ميلاد سعيد " أثناء المؤتمر الصحفي الخاص بالإعلان عن نشر القوات ،حيث يتم الرئيس الأمريكي الثالثة والسبعين من عمره!

واقع أوروبا المعقد يمهد الطريق لترامب

عدة نظريات يمكن أن تفسر سر الطريق الممهد لترامب في أوروبا الشرقية كساحة للسيطرة الأمريكية أوروبا. بالنظر إلى تاريخ بولندا الكئيب مثلا في ظل الإمبريالية الروسية، وبالنظرإلى تاريخ "أوروبا الشيوعية بشكل عام، فهي تبدو حساسة لأي شيء قد يؤثر على هويتها الوطنية، لذا يبدو التكامل مع أوروبا، التي تأتي إملائاتها من بروكسل أمراً يعيق مفهومها عن التعددية الثقافية . ترامب لعب على هذا الوتر كثيراً و بنجاح منقطع النظير حتى الآن ، فهو على سبيل المثال يحب مناجم الفحم التي تمتلىء بها بولندا و تهددها سياسات المناخ في الاتحاد الأوروبي، بينما لم يعد يهدده هو التزام ما بعد انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ .

سلوفاكيا هي أيضاً واحدة من ملاعب ترامب في أوروبا الشرقية التي تعاني واقعاً لا يختلف كثيراً عن باقي نظرائها من الدول .

في العام الماضي عاشت البلاد حالة من الغضب بعد مقتل ان كوتشياك ، الصحفي الذي كان يحقق في العلاقات بين السياسيين وشخصيات المافيا ، وخطيبته ، مارتينا كوسنيروفا. بعد أن خرج مئات الآلاف من الناس إلى الشوارع للاحتجاج على عمليات القتل - التي ينظر إليها على نطاق واسع على أنها وسيلة لإسكات السيد كوتشياك - وما اعتبروه استجابة حكومية ضعيفة ، وفي النهاية ، أجبر رئيس الوزراء روبرت فيكو على ترك منصبه. وفي زيارة بومبيو السابقة للمنطقة،  لم يشر إلى أي من تلك الأحداث التي هزت البلاد وبدلاً من ذلك ، ركز على تشكيل تحالف عسكري أعمق ، مشيدًا بالدولة للعمل من أجل الوفاء بالتزامات الإنفاق الدفاعي لحلف الناتو.

يمسك ترامب الواقع من الطرفين ، كلاعب وسط يحاول تمرير الكرات يمينا و يساراً دون أن يؤثر ذلك على انحيازاته الكبرى

في العام الماضي، اتخذت سلوفاكيا خطوة كبيرة نحو هذا الهدف من خلال شراء 14 من أحدث الطائرات المقاتلة من طراز F-16 من الولايات المتحدة لتحل محل أسطولها القديم من الطائرات السوفيتية، حسبما أوردت الأسوشيتيد برس.

يمسك ترامب الواقع من الطرفين، كلاعب وسط يحاول تمرير الكرات يمينا و يساراً دون أن يؤثر ذلك على انحيازاته الكبرى، فهو يبحث عن حلفاء داخل بروكسل يريدون الانقضاض على بروكسل نفسها وتحويل هويتها و شخصيتها إلى ما يميل إليه ويفضله من لعب على أوتار الشعارات القومية الشعبوية التي تنشغل بالشحن العاطفي ضد المهاجرين، وإعادة "البلاد عظيمة مرة أخرى" وتوافقه بعض دول أوروبا الشرقية و تعتبره داعم خلفي له في وجه ما قد لا يعجبها من التكامل الأوروبي لمنطقة اليورو. 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عزمي بشارة محللًا صعود اليمين الشعبوي

حصاد انتخابات البرلمان الأوروبي: ماذا تغير على القارة العجوز؟