18-يوليو-2016

الجامعة الأمريكية في القاهرة(فيسبوك)

الثانوية العامة/ التوجيهية/ البكالوريا، مرحلة صعبة من حياة أي طالب، هي أشبه بمجموعة من الحلقات كلما انتهيت من حلقة دخلت إلى حلقة أصعب، تكون البداية مع الحيرة التي يقع فيها الطالب وهو يفكر في الالتحاق بأي من الشعبتين، الأدبية أو العلمية، ثمّ الدراسة، التي يمرون فيها بأصعب فترة في حياتهم، وهي التي تكون عادة محملة بالضغوط والأعباء النفسية والجسدية الكبيرة، وفترة الامتحانات، والتي تعد الفترة الأصعب على الإطلاق فهي ثمرة جهد الحلقتين السابقتين ونتاجًا لحلقات أخرى قادمة، وهي حلقة ظهور النتيجة.

الطلاب اليوم يدخلون "وسايا" الجامعات الخاصة بكامل إرادتهم، بل ويدفعون ثمن ذلك باهظًا جدًا

يدخل الطلاب، إثر ذلك، في دوامة حلقة التنسيق وهي التي تكلل جهود كل الحلقات السابقة، فمن الطلاب من يصل إلى الكلية التي كان يطمح لها، ومنهم من لا يصل لقصور أو إهمال منه تجاه الدراسة، وبين هذين النوعين هناك طلاب لعب القدر لعبته معهم، فحُرم من الكلية التي كان يتمناها بسبب فارق بسيط في الدرجات، هنا يلجأ هؤلاء الطلاب إلى الحل البديل المتمثل في الجامعات الخاصة، وهي تجربة ظهرت في أواخر القرن المنصرم، وكانت الحل بالنسبة للطلاب وأولياء الأمور للخروج من أزمة المجموع، وكانت أيضًا بمثابة المشروع الاستثماري الكبير لرجال الأعمال.

اقرأ/ي أيضًا: مستوى الجامعات السورية بعد الحرب.. إلى أين؟

"وسايا الخواجات" والجامعات الخاصة .. ما الرابط؟

كي نقف على العبارة الأولى أو أبعاد المشكلة ككل، سيحتم علينا أن نسحب خيوط الكلام إلى الوراء كثيرًا، وبالأخص إلى فترة الحكم الملكي في مصر، تحديدًا في إحدى مدارس مدينة الزقازيق التابعة لمحافظة الشرقية، حيث يجلس في المقعد الأمامي طالب يدعى "خليل حسن خليل"، الذي حصل على المركز الأول في المرحلة الابتدائية على مستوى المحافظة، بعدها انتقل إلى الزقازيق كي يستكمل دراسته الثانوية، مرّت على الطالب شهور بذل فيها قصارى جهده كي يظل محتفظًا بالصدارة ويحصل كذلك على مجانية التعليم.

وبالفعل في امتحانات الشهر، كان يحصل على المركز الأول كما اعتاد دائمًا، وذات يوم، فوجئ باستدعاء من ناظر المدرسة، وعندما ذهب أخبره الناظر أن عليه تسديد المصروفات البالغ قدرها 5 جنيهات، ولأنه فقير معدم، والحق أنه لم يكن كذلك فوالده كان من أعيان بلده لكن القدر أراد أن تذهب كل أمواله ليجد نفسه يعاني شظف العيش، فلما عجز عن دفع الخمسة جنيهات، صدر قرار بفصله من المدرسة ليلتحق بعدها مباشرة بإحدى "الإقطاعيات" المملوكة لرجل يوناني أو "خواجة"، كما اعتاد المصريون مناداته، وهذه الإقطاعيات الضخمة كانت تسمى "الوسايا"، وفيها تعرف على مجتمع جديد لم يألفه قبلاً، مجتمع مليء بالاستغلال من صاحب "الوسية" لهؤلاء الفلاحين الذين يعملون من شروق الشمس إلى غروبها، ومع ذلك لا يعطيهم حقهم، وهنا تكونت في ذهن صاحبنا صورة لمجتمع يعج بالظلم والقهر والاستبداد.

السبب القوي الذي حرم هذا الطفل من حق التعليم، هو أنه عاش زمنًا كان فيه وزير المعارف أشبه بـ"الخواجة"، الذي يتربع على قمة الوزارة، وربما قد أخذ على عاتقه في تلك الفترة أن يشيع الجهل حتى يكتمل بذلك الثالوث الذي يتصدر المشهد فى مصر آنذاك من الفقر، الجهل والقهر.

بعد هذا العرض السريع لمجتمع "الوسايا"، الذي كان يتصدر المشهد في المجتمع المصري قديمًا وبالأخص على نظام التعليم، أظن أن القصد من مدلول الكلام بدأ يتبلور في ذهن القارئ، في الربط بين "وسية" التعليم في مدارس الملكية قديمًا وبين ما تقوم به الجامعات الخاصة الآن، إذ إن الفرق طفيف بين هذا وذاك، فـ"خواجات" مجتمع "الوسية" قديمًا، الذين كانوا ينهبون حقوق الفلاحين بالاحتيال والسرقة، لا زالوا موجودين اليوم لكن في ثوب رجال الأعمال والمستثمرين، وتلك الإقطاعيات الكبيرة التي كانوا يملكونها كي يمارسوا من خلالها الظلم والاستغلال، هي نفسها تلك المباني الجميلة المطلية بدهان فاخر والمحاطة بالحدائق و"الكافيتيريات".

الفارق الوحيد بين "وسايا" الخواجات قديمًا و"وسايا" الجامعات الخاصة اليوم، هو أن الفلاحين قديمًا عندما دخلوا الوسية، كانوا مرغمين، إذ وجدوا أن الملك قد فرط في الأرض بسهولة للأجانب فكان الأمر واقعًا لابد وأن يتعاملوا معه، وبداخلهم بركان من السخط والغضب كان يتجسد من حين إلى آخر في شكل ثورة على "الخواجات" سرعان ما تنجح الدولة فى كبح جماحها،. الطلاب اليوم يدخلون "وسايا" الجامعات الخاصة بكامل إرادتهم، بل ويدفعون ثمن ذلك باهظًا جدًا، هذا إن أهملنا الفارق بين فلاحي "الوسية" أصحاب الثياب الرثة والوجوه التي طبعت عليها الشمس طبقة من السمرة الكالحة، وطلاب الجامعات الخاصة والعامة أيضًا أصحاب الزي "المهندم"، أما أصحاب "الوسية" فمظهرهم واحد لم يتغير، يرفلون في أثواب النعيم بأموال المضحوك عليهم قديمًا والمغرر بهم حديثًا.

اقرأ/ي أيضًا: لا جامعات خاصة في الجزائر!

مصروفات أعلى وتعليم أقل

جاء في استطلاع أجرته جريدة "الوفد" المصرية عن أوضاع التعليم داخل الجامعات الخاصة، أن المصروفات تزيد في هذه الجامعات كل سنة بنسبة حوالي 10 %

جاء في استطلاع أجرته جريدة "الوفد" المصرية عن أوضاع التعليم داخل الجامعات الخاصة، أن المصروفات تزيد في هذه الجامعات كل سنة بنسبة حوالي 10%، هذا بالإضافة إلى أن أغلب القائمين بالتدريس فيها من الأساتذة الذين لم يحصلوا على الدكتوراه بعد، ولا توفر لطلابها الدراسات العليا، الأمر الذي دفع مالكي تلك الجامعات إلى التفكير في أن يوفروا للطلاب هذا القسم، وهذا بدوره يمثل خطرًا حقيقيًا يهدد النظام التعليمي في مصر برمته.

صارت الجامعات الخاصة بمثابة الامتداد الحقيقي لمجتمع "الوسية"، ذلك المجتمع القائم على الاستغلال والهدف الأول والأخير فيه جمع المال والذي يكون فى الغالب مقدمًا على مصلحة الطلاب بدليل أن الكثير من رجال أعمال قاموا بببناء تلك الجامعات لا لشيء إلا أنهم وجدوا الأمر مربحًا، والمجلس الأعلى للجامعات يقف حيال كل ذلك صامتًا دون حراك، كأن الأمر لا يعنيه أو أنه لا يمثل خطرًا حقيقيًا يهدد المنظومة التعليمية بأكلمها ليحولها إلى منظومة استغلالية، ويجعل من التعليم، الذي بإمكانه أن ينقل هذا البلد مائة خطوة إلى الأمام، ليصير لعبة في يد رجال الأعمال ويتحول مع الوقت إلى تجارة فاسدة، والنتيجة هي أن تلك الجامعات لم تقدم شيئًا على مدار السنوات التي ظهرت فيها، فلا يكفيها كمية العاطلين التي "تشحنها" الجامعات الحكومية كل عام، بل تطوعت هي الأخرى كي تزيد منها، لتتحول البلد مع الوقت إلى مأوى كبير للعاطلين عن العمل.

"بفلوسنا يا جامعة"

ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أنني أقصد بهذا العنوان الفرعي، ما جاء في مسرحية "تخاريف الدكتاتور والشعب" لمحمد صبحي، عندما وجد رد فعل ينم عن امتعاض بعض أعوانه فقال لهم عبارته المشهورة "بفلوسى يا كلاب"، لا أقصد العبارة بشكلها المباشر بقدر ما قصدت المعنى والمدلول الذي ترمز إليه أو بالأحرى المنطق الذي تعامل به محمد صبحي تجاه من هم تحت يديه عندما وجد منهم غير ما يسره، فذكرهم بالشيء الذي يكمم أفواههم به وهو المال الذي يدفعه لهم، ربما كان هذا أيضًا أشد الانتقادات التي وجهت إلى الرأسمالية والتي تقوم بدورها باستغلال عمالها وتطالبهم بجهد مضاعف نظير أجور زهيدة، هي أيضًا تفعل ذلك بمنطق أنها تدفع لهم أموالًا.

هكذا نلاحظ أن المال دائمًا ما يكون هو الثغرة الكبيرة في أي نظام، وخصوصًا نظام التعليم لو تعامل فيه الطلاب مع الجامعة بمنطق أنهم هم الذين يكممون أفواهها، ويدفعون من جيوبهم أجر العميد الجالس في مكتبه المدفوع حسابه أيضًا من جيوبهم، وهم بذلك يقفون موقف المستغل، بكسر الغين، لكن الحقيقة أن كليهما في نفس الموقف. اتضح أن مجتمع "الوسية" لم ينته، بل صار موجودًا الآن في شكل جامعات خاصة، والتي يسود فيها قانون الغابة فى البقاء للأقوى وكي نكون أكثر دقة، البقاء للأغنى والأقوى.

المال دائمًا ما يكون هو الثغرة الكبيرة في أي نظام، وخصوصًا نظام التعليم لو تعامل فيه الطلاب مع الجامعة بمنطق أنهم هم الذين يكممون أفواهها

لكن بما أن الحاجز بين الجامعة والطالب قد كسر، بعد أن صار الطالب هو مصدر الرزق الوحيد لصاحب "الوسية"، أقصد الجامعة، فكان لابد وأن يكسر هذا بداخله حاجز الرهبة والخوف، ويتعامل مع كل خطر يهدده بلامبالاة وبواقع أن الجامعة هي التي تحتاج إليه أكثر من حاجته هو إليها. فصار الكثير من طلاب تلك الجامعات يرفعون شعار "بفلوسي يا جامعة".

الكثير من الطلبة لا يهابون أحدًا لا الكلية ولا الإدارة ولا حتى الأساتذة الذين يملكون مصيرهم والذين بدورهم، ساهموا من خلال تدريسهم في تلك الجامعات في إعطائها شرعية أكثر مما تستحق. حدثني أحدهم، طالب بجامعة خاصة، أنه تعرض لمشكلة ما، الأمر الذي اقتضى أن يذهب إلى عميد الكلية، وعندما وجد الطالب تحيزًا من العميد ضده ما كان منه إلا أن رفع صوته في مكتب العميد، وعندما خرج ضرب بهاتفه الباب، الأمر الذي لا يجرؤ طالب في أي جامعة حكومية أن يقوم به، لأنه يعلم أن لو سولت له نفسه القيام بمثل هذا التصرف فسيكون مصيره في الأغلب الحرمان من الدخول إلى أي جامعة فى مصر إلى أن يشاء الله.

ما الفارق بين الحالتين ، الفارق هي الرهبة التي استطاعت الجامعة أن تغرسها في قلوب الطلاب على ما تتمتع به من فراغ المحتوى الدراسي من أي شيء يشجع على ارتقاء العقول، بالإضافة إلى أن طلاب الجامعات الحكومية هم الذين في حاجة إلى الجامعة وليس العكس، كما أن حدود ثورتهم على تلك الأوضاع لا تتجاوز حدود المناقشات الجانبية مع الأصدقاء، أما عندما يقتضي المقام أن يقف هذا الطالب أمام أحد إداريي الكلية أو أي أستاذ، تجد آيات المدح والثناء تنساب من ذات اللسان الذي كان منذ دقائق يسبهم.

أي تعليم تنشده تلك الجامعات من طلبة لا تعطيها الاحترام الكافي، للأسف تلك الكليات صارت متناسقة مع دورها فى مجتمع "الوسية" الكبير الذي نعيش فيه، وقد أخلصت مهمتها كممثلة للوسية العلمية، فأجبرت الأغنياء من ذوي الطبقة الأرستقراطية أو الذين خيبتهم الآمال في الالتحاق بجامعات حكومية، على تسجيل ذلك كله في وثيقة رسمية بطابع جامعة خاصة، تمامًا كما يشهر المالكون ملكيتهم في الشهر العقاري.

قد أبدو في نظر البعض بصدد تسجيل موقف متحامل على طلاب ومالكي الجامعات الخاصة، إنما هو اعتراض على تلك المنظومة الفاسدة التي صارت لعبة في أيدي رجال الأعمال، يتعاملون معها كما لو كانت مشروعًا استثماريًا، إن لم يكن كذلك بالفعل، ويحاولون بذلك أن يعيدونا مرة أخرى إلى عهد "الوسايا" العلمية.

اقرأ/ي أيضًا: 

طلاب تونس وحلم الجامعة الخاصة

الجامعات الخاصة في المغرب.. قنبلة الغلاء