16-نوفمبر-2020

تمثال المفكر لرودان

منذ أن هاجر عقل ابن رشد إلى أوروبا، وأسّس الأوروبيون، على شرفه، مرحلة تاريخية ومعرفية كاملة أسموها: "الرشدية اللاتينية"، ومنذ أن توقف ابن عربي وابن رشد عن الجدال بينهما حول تعريف العقل من حيث أن ابن عربي كان يرى إلى مفهوم "العقل" الذي أراده ابن رشد أنه قاصر وغير ذي جدوى، لأن من شأنه أن يدّعي امتلاك الحقيقة، الأمر الذي يعني تحوله إلى سلطة غير مضمونة النتائج في تعاطيها مع المعارف، وأحلّ  الذوق والإشراق والقلب محل العقل، ومنذ أن جعل ابن رشد وابن عربي -كلاهما- المهتمين بهذا الشأن ينقسمون إلى اتجاهين: عقليين يمثلهم ابن رشد، وذوقيين يمثلهم ابن عربي... منذ ذلك الوقت كفَّت الثقافة العربية عن إنتاج خطاب مخصوص عن العقل: مدحًا أو ذمًا، تمجيدًا أو نقدًا حتى مشارف الزمن الحديث والمعاصر مع صادق جلال العظم والطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري وعبدلله العروي وغيرهم.

نحن نعرف أن الثقافة كما تنبني على العقل فإنها، أيضًا، تنبني على "اللاعقل" إذا صح التعبير

ذلك رغم أن مفهوم العقل اتخذ، منذ سقراط، وعلى الدوام، طابعًا إشكاليًا، لم يتوقف الفلاسفة والمفكرون عن محاولات حلِّه. لقد ميَّز لالاند بين مفهومي: العقل المكوَّن (بفتح الواو) والعقل المكوِّن (بكسر الواو)، وانحازت مدرسة فرانكفورت إلى ما سمته (العقلانية النقدية) موجهة ضربات متلاحقة إلى العقل الأداتي، وانقسمت الأبستمولوجيا المعاصرة بشدة بين المدافع عن العقل، وبين المشكك إزاءه... إلخ، وانبنت على ذلك أهرامات من المعارف الدقيقة والصارمة. ثمة رؤيتان متمايزتان للعقل والعقلانية، طبعتا الفكر الحديث بطابعهما:

اقرأ/ي أيضًا: الحداثة السائلة.. هشاشة الروابط الإنسانية والخوف من المجهول

الأولى بدأت مع النهضة الأوروبية والتي كان لابن رشد فيها، فيما عرف بالرشدية اللاتينية، حضورًا مرموقًا- شرفيًا وحاسمًا. ‏واستمرت بعد أن أقام ديكارت معبدًا مقدسًا للعقل، سرعان ما أقام طقوس تعبده ونظمها لوك وكانط و"قرن الأنوار" (القرن الثامن عشر)، وصولًا إلى هيغل وماكس فيبر (القرن التاسع عشر) حتى هابرماس ومدرسة فرانكفوت وتيار العقلانية النقدية (القرن العشرين).

فيما تمثلت الرؤية الثانية بالتشكيك إزاء العقل ومناهضته والتي تعود إلى التفكير الصوفي والعرفاني والتي طورها فيما بعد، نيتشه، وتجلت عبر نقده الجذري للعقل، بوصفه مفهومًا سلطويًا. أدى مشروع نيتشه إلى بزوغ تيارين كبيرين: تيار نقد السلطة الذي يمتد من جورج باتاي حتى ميشيل فوكو، والثاني تيار نقد الميتافيزيقيا كما تجلى عند هيدغر وديريدا.

وقد صُنف هذان التياران ضمن مشرعي: الحداثة وما بعدها... بات معروفًا أن الحداثة ترتكز على العقل بصفة رئيسة، الأمر الذي جعلها تبدو صنوًا للعقلانية، ما دفع آلان تورين لأن يعتبر العدول عن إحدى الفكرتين نبذًا للأخرى. لكن تاريخ العقلانية ليس مجرد نزع السحر والقداسة عن العالم فحسب، وليس تاريخ اكتشاف موقع الإنسان في العالم، وموقع الأرض في الكون فحسب، ليس تاريخ نيوتن وكوبرنيكوس وآينشتاين والثورات الصناعية والتقنية والمعلوماتية فحسب... بل هو، أيضًا، تاريخ تأليه العقل وعبادته، فالأنوار سفَّه الأسطوري والثيولوجي، وأقامت الثورة الفرنسية (اليعقوبية خاصة) معابد للعقل في الكنائس، ولم يفعل روبسبير في محاولته منع عبادة العقل، سوى أنه أرسل الكهنة "العقلانيين" من رفاقه إلى المقصلة، ورفع شعار الكائن الأسمى، ورفع، في الوقت نفسه، شعار عبادته!

وهكذا بنى أنصار العقل المطلق أيديولوجيا خاصة للعقل، شديدة التماسك والجاذبية، فحلت هذه الأيديولوجيا محل العقل، إذ من صفات هذه الأخيرة أن تحل محل الشيء الذي تمثله، الأمر الذي أدى إلى أن تحول العقل إلى عقل أداتي يضع نفسه في خدمة غايات السيطرة والاستعباد. وحين تكشفت صيغ ما بعد الحداثة، ممثلة بكاهنها الأكبر: فرانسوا ليوتار، على نقد جذري للعقل، قوي أيضًا، ذهب هابرماس -آخر ورثة مدرسة فرانكفورت النقدية الأشداء- بوصفه المدافع الأكبر عن العقلانية والحداثة التي هي، كما يرى، "مشروع لم ينجز بعد"، يمينًا وشمالًا، يدافع عن العقل، بما يعني ذلك من دفاع عن الحداثة، إذ إنه لو اجتمع مفكرو الأرض ليفصلوا بين الحداثة والعقلانية، لن يفصل بينهما، وراح يبين أي عقل يمكن أن توجه له تلك الانتقادات القوية. فاعتبر أن مشروع نقد العقل قد بدأ مع كانط الذي نقد العقل الأداتي، وأن هيغل نقد فكرة الإدراك الجزئي المحدودة الإمكانيات التي تقدمت على أنها المطلق. بمعنى آخر: اعتبر هابرماس أن هذا النقد موجه، أساسيًا، إلى العقل المؤسس على مبدأ الذاتية، وهذا العقل لا يمت بصلة قربى، مهما كان نوعها أو حجمها، للعقلانية. إن العقلانية التي لا يكف هابرماس وأنصار مدرسة فرانكفورت عن الدفاع عنها، هي العقلانية النقدية التي تقوم على مواجهة النزعة الوضعية في مصالحة الواقع، والتي هي، أيضًا، عبر نزعتها للتحرر من تراث فلسفي عدمي ولاعقلاني، عقلانية تحررية. وهكذا يمكن لمشروع العقلانية الذي تجلى باسم الحداثة أن ينجز، كما يريد هابرماس، استنادًا للعقلانية النقدية التحررية.

مع هذا، وضده أيضًا، نحن نعرف أن الثقافة كما تنبني على العقل فإنها، أيضًا، تنبني على "اللاعقل" إذا صح التعبير. إن البشرية تكونت على الأسطوري قبل أن تتعرف على العقل، وعلى الخرافة قبل الحقيقة العلمية. وما يوجد في العقل البشري، الفاعل أيضًا، من الأسطورة أكثر مما يوجد من العقل. لن يقودنا هذا التفكير إلى أي نوع من المفاضلة بين العقل والأسطورة، فهذه الأخيرة وجه من وجوه الأول، لا يقع في القفا منه، بل هو بعد من أبعاده، إنما يقودنا إلى إلغاء المسافة بينهما. لقد قدمت الدراسات الأنثروبولوجية أدلة محكمة على ذلك، يمكن مراجعة ليفي شترواس في تفنيده الإنسان الأول، البدائي كما أسمته الثقافة المتعالية .

تكونت البشرية على الأسطوري قبل أن تتعرف على العقل، وعلى الخرافة قبل الحقيقة العلمية

ربما تكون أولى الدراسات التي تبين مقدار التجاور بين الأسطوري والخرافي من جهة، وبين العقلاني من جهة أخرى، هي المتصلة بالثقافة الشعبية التي يمكن أن اعتبرها التجلي الأول، وربما الأخير، للعقل الشعبي ببعديه العقلاني واللاعقلاني.

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة ما بعد الكولونيالية

هكذا، ما تاريخ العقل إلا تاريخ نقده، وتاريخ العقلانية هو تاريخ نقدها أيضًا، ولم توجد في التاريخ، ولا مرة، قوة معرفية مجَّدت العقل، إلا وجدت مقابلها قوة تنقدها، ليتأسس، عبر العقل ونقائضه، تاريخه، وتاريخ أيديولوجيته، وتحوله إلى عقل أداتي... إلخ.

هذه المقالة اكتفت بنظرة الثقافة الغربية إلى مفهوم العقل، ولا بد من أخرى تُخصص لنظرة الثقافة العربية إليه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معركة الثّقافة.. في ممارساتِ السلطة ونخبها

كيف خلق الفن صورًا نمطية عن العرب؟