10-يوليو-2019

لم يشمل العفو الملكي كافة معتقلي الريف إلى الآن، ما يثير جدلًا حوله (تويتر)

لا تمر بعض المناسبات الدينية أو الوطنية في المغرب دون أن يصدر ملك البلاد عفوه على مساجين المملكة، من معتقلي الحق العام، والمسجونين على خلفية قضايا سياسية، وحراكات اجتماعية تشهدها البلاد، وذلك وفق نص الفصل 53 من الدستور الذي يعطي للملك صلاحية حصرية، واسعة ومتفردة لتنعيم السجناء بعفو يُسقط العقوبة كليًا أو جزئيًا، أو يتم استبدالها بعقوبة أخف، ويمكن أن يكون هذا العفو فرديًا أو جماعيًا.

يضل العفو الملكي الأمل الوحيد لكثيرين في المغرب، يُنهي معاناة، ويُضمد جراح أسر، لكنه في نفس الوقت، يقوم من خلال الشروط التي يفرضها، ومسارات "التأهيل" والإصلاح، بعملية ضبط اجتماعي وسياسي واسعة النطاق

تُعطي الدساتير في العالم لرؤساء الدول الحق الكامل أو الجزئي في إصدار العفو على المعتقلين السياسيين، وأيضًا الحق العام، والجواسيس، ومواطنين من دول أجنبية وذلك لأسباب إنسانية، واجتماعية وسياسية، ودبلوماسية، وأيضًا يأتي العفو لتصحيح سوء تقدير قضاة أو من أجل تفعيل مصالحة وطنية.

اقرأ/ي أيضًا: حراك الريف في المغرب.. الملك يشيد بالشرطة رغم الانتهاكات!

يصدر العفو الملكي في المغرب في ثماني مناسبات دينية ووطنية، وهي: عيدا الفطر والأضحى، والمولد النبوي، وفي عيد العرش، وذكرى المسيرة الخضراء، وذكرى ثورة الملك والشعب، وعيد الاستقلال، وفي ذكرى 11 يناير. حينها تُعد لائحة تُشرف عليها لجنة الشؤون الجنائية والعفو، يترأسها وزير العدل إلى جانب مدير الديوان الملكي، وهي اللجنة المكلفة بتنظيم جولات على السجون لانتقاء سجناء "يستحقون" العفو الملكي بالاستناد إلى تقارير تُرصد سلوكهم داخل المؤسسة السجنية.

إخماد للصراعات

طالما كان العفو الملكي بمثابة ماء تُخمد بها صراعات الماضي وتطوى به الصفحات المشؤومة في التاريخ الحقوقي للبلاد. فالملك الراحل الحسن الثاني عفا عن مجموعة من النشطاء السياسيين لتخفيف الصراع والاحتقان بين المؤسسة الملكية والمعارضة في القرن الماضي.

أيضًا، للعفو الملكي أهداف سياسية وأخرى تنظيمية فالملك يتدخل لوضع حد للاحتقان السياسي الذي يعرفه الشارع مثلما وقع في الحراكين الاجتماعيين بالريف وجرادة، أو الانتفاضات الشعبية التي عرفها عهد الملك الحسن الثاني، أيضًا العفو على معتقلي سجن "تازمامارت" المتهمين بقيادة انقلاب ملكي على الحسن الثاني.

العفو.. الشرعية الكاملة للملك

على الرغم من أن العفو حق دستوري مكفول أيضًا للبرلمان المغربي، والذي له صلاحية إصدار عفو شامل على السجناء والمعتقلين السياسيين، وفق مشروع قانون يتم اقتراحه والمصادقة عليه إلا أنه لم يجرؤ أي برلماني على ممارسة حقه الدستوري الذي ضل محفوظًا للمؤسسة الملكية منذ استقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي سنة 1956.

تبقى شرعية إصدار العفو في المغرب خاصة بشكل حصري وسري بالملك، فهو الذي له الحق الكامل في تحديد عدد المعفو عنهم، على عكس باقي الدول التي يكون فيها العفو من صلاحيات البرلمان أو المؤسسات التشريعية، إلا أن الملك يُبقي باب التعديلات عن القانون المنظم للعفو مفتوحًا، وفي أكثر من مناسبة عدل ملوك المغرب الظهير الخاص بالعفو استجابة لصوت الشارع، أو لوضع حد للقضايا خصوصًا الاجتماعية، بعد أن بدأت تأخذ أبعادا تؤثر عن الصورة الحقوقية للبلد.

أيضًا يستعمل ملك البلاد حقه في إصدار العفو محاولة منه لتنفيس الحياة السياسية، فمثلًا، في سبعينات القرن الماضي، أعفى الملك الحسن الثاني على عبد السلام ياسين، مرشد جماعة العدل والإحسان المعارضة، لأن الملك كان بحاجة إلى أصوات داعمة، ولَم يكن راغبًا في الصراعات السياسية.

الشرعية الحصرية الخاصة بالملك والتي تُعطيه الحق في العفو عن المساجين، أيضًا، تطرق باب المصالحة مع الأصوات "المزعجة" التي أعطت إشارة "المراجعة" الفكرية، الأمر الذي تستجيب له الدولة لضم هؤلاء إلى فضائها، وتُترجم هذه "الاستجابة" بعفو ملكي يقول "أهلا وسهلا بالمتراجعين".

تاريخ العفو الملكي

أُصدر أول عفو على المساجين في المغرب في 19 نيسان/أبريل سنة 1956، عشية حصول المغرب على استقلاله السياسي عن فرنسا. حينها أصدر ظهير 1.56.091 والذي قضى بإحداث لجنة "لمراجعة الأحكام الجنائية والعفو" بهدف إصدار عفو شامل عن كل الجرائم ذات الصبغة السياسية أو الوطنية خلال فترة الاستعمار، وكان هذا أول وآخر عفو مارسه البرلمان المغربي، قبل أن تفردت المؤسسة الملكية بهذا الحق.

مع توالي السنين تعددت التعديلات على الظهير المنظم للعفو الملكي آخرها تعديل 26 تشرين الأول/أكتوبر 2011، بعد فضيحة العفو عن مغتصب الأطفال دانييل كالفان وهو مواطن إسباني مدان بثلاثين سنة سجنًا نافذًا بتهمة اغتصاب العشرات، تفجرت قصته قبل ست سنوات حين استفاد من عفو ملكي أقام الدنيا فخرجت العشرات من المسيرات والوقفات الاحتجاجية في الشارع المغربي، مباشرة استجاب الملك لصوت الشعب، وأعاد كالفان إلى السجن وأعطى تعليمات صارمة لوزارة العدل من أجل اقتراح إجراءات من شأنها قوننة شروط منح العفو في مختلف مراحله، بعدها صدرت تعديلات في ظهير العفو.

نظم المشرع المغربي العفو وكيفية الاستفادة منه ومن له الحق في طلبه في الفصل 51 من القانون الجنائي والذي جاء فيه أن العفو الملكي يمكن أن يصدر قبل تحريك الدعوى العمومية أو خلال ممارستها، وهذا ما يشكل علاجًا ناجعًا لوضعيات شاذة قد تنشأ في هذه المراحل من الدعوى العمومية في الوقت الذي تم فيه استثناء بعض الجرائم لا يتم العفو فيها، رغم عدم النص عليها في ظهير العفو أو قانون القانون الجنائي من بينها جرائم المخدرات والاتجار فيها، وجرائم الاغتصاب والاتجار في البشر، أي كل ما يخص حقوق الغير.

العفو الملكي.. من له الحق؟

قسم الدستور المغربي العفو إلى نوعين الأول شامل يعني عام، ويكون بنص تشريعي يمحي الصفة الإجرامية فيصبح في حكم المباح، ويمحو الدعوى العمومية ويمكن أن يصدر قبل أو أثناء إقامة الدعوى العمومية أو بعد صدور الحكم فيها، وهو غالبًا ما يتعلق بوقائع إجرامية معينة وقعت في زمان ومكان معين ويُستفاد منه بطلب من السجين أو من أقاربه أو أصدقائه، أو من النيابة العامة أو من المندوب العام لإدارة السجون وإعادة الإدماج.

أما النوع الثاني، وهو العفو الخاص، فهو بمثابة منحة أو قرار صادر عن ملك البلاد لفائدة المحكوم عليه، ويكون شخصًا بعينه، فيكون جماعيًا، يصدر في مناسبات دينية أو وطنية، وتدرس ملتمسات العفو لجنة خاصة يترأسها وزير العدل.

أيضًا، يمكن أن تلتمس العفو لجنة إقليمية منصوص عليها في المادة 620 من قانون المسطرة الجنائية، وهي لجنة تتكلف بمراقبة المحكوم عليهم داخل المؤسسات السجنية ويمكن أن تتقدم اللجنة المذكورة إلى لجنة العفو التي يترأسها وزير العدل بتوصية لصالح بعض المعتقلين الذي يظهر لها استحقاقه للعفو.

النقاش حول تمتيع الملك للسجناء بالعفو الملكي قسم الرأي المغربي إلى جهتين، الأولى تطالب بقوننة حق العفو الذي يبقى حقًا حصريًا للمؤسسة الملكية وللدولة ومؤسساتها ليشمل أيضًا البرلمان، وتنظيم غايات استخدامه، في الوقت الذي طالبت فيه فئة أخرى تعتبر العفو الملكي أمرًا نبيلًا يصحح مسار العديد من القضايا السياسية ويرد المظالم إلى أهلها، باستمرار العفو الملكي لكن بقيود قانونية حتى لا يشوب عمليات العفو من اختلالات أو محسوبية. وفي حين يرى البعض العفو كأداة لنشر التسامح، يعتبره آخرون أداة للضبط الاجتماعي، وصياغة نوع من التسوية بين السلطة والحراكات القائمة ضدها.

لحبيب القانوني، محامٍ فسر لـ"ألترا صوت" أن الدستور لم يحدد معايير وشروط الاستفادة من العفو، فإلى جانب الصلاحية الحصرية للملك تبقى المنهجية المعتمدة سرية وغامضة الأمر الذي يرسم دائما صورة غير شفافة عن الطريقة التي تعمل بها اللجنة المخول لها اختيار المستفيدين، والتي تعمل تحت أمر السلطة التنفيذية للبلاد.

وأضاف المتحدث أن العفو الملكي تطبعه السرية في المغرب لأنه ليس واجبًا بل هو منحة تُعطى حسب الأعراف المخزنية وتبقى محفوظة للمؤسسة الملكية، لذلك لا ينبغي لأي كان أن يطلع على تفاصيلها.

العفو.. شعاع الأمل

يلعب العفو الملكي دورًا مهمًا في إخماد الاحتقان السياسي إذا تعلق الأمر بقضية سجناء حراك اجتماعي، أيضًا يشكل شعاع الأمل لمعتقلي الرأي العام المدانين بعقوبات سجنية طويلة، فيلتجئ السجين داخل المؤسسة إلى "ترميم سلوكه" عبر الانخراط في برامج "التأهيل" والدورات التكوينية داخل المؤسسة، الأمر الذي يساعد في إدراج اسمه في لائحة العفو. لكن هذا العملية تبقى خاضعة لأسئلة عديدة، خاصة فيما يتعلق بمساهمتها في تحييد المعارضين عن الشأن العام، تحت عنوان تأهيلهم.

أيضًا، يلعب العفو دورًا في التخفيف من الاكتضاض داخل المؤسسات السجنية الذي أعلنت عنه المندوبية العامة لإدارة السجون، لهذه يكون العفو العام شاملًا وغالبًا ما يستفيد منه المئات من الأشخاص إذا لم يكن الآلاف مثلما حصل في مناسبة ذكرى المسيرة الخضراء، إذ استفاد من العفو الملكي 4000 شخص.

في عيد الفطر الماضي مثلًا، أصدر الملك محمد السادس عفوه على 713 شخصًا. وهو ما يرى مواطنون مغربيون أنه ضمد جراح العشرات من العائلات، وأعاد الأمل إلى الشارع المغربي بشكل عام وإلى الأسرة الحقوقية، خصوصًا أنه شمل 60 معتقلًا على خلفية الحراك الاجتماعي بالريف وأيضًا معتقلي السلفية المحكومين بتهم متعلقة بالإرهاب منذ سنة 2003، في الوقت الذي أُفرج فيه عن جميع معتقلي حراك جرادة، وبالتالي تم طي ملف ساخن مرة وللأبد.

وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان ثمن العفو الملكي على مجموعة من المعتقلين في تدوينة نشرها على حسابه الخاص في فيسبوك تغنى من خلالها بـ"الحكمة المغربية في التعامل مع القضايا المتعلقة بالتوثرات الاجتماعية، والقضايا ذات الطبيعة السياسية"، معتبرًا أن العفو الملكي "طريقة مغربية راشدة ومفيدة في التعاطي مع الأحداث الصعبة لتخليص البلاد من بعض المشاكل المفتعلة".

كما طلب الوزير الوصي على حقوق الإنسان بشكل مباشر، من باقي معتقلي حراك الريف بما فيهم زعمائه، تهييء الظروف ليتحقق العفو الملكي في القريب العاجل على الجميع، لأن العفو الملكي يقتضي شروطًا للاستجابة الملكية وقول كلمة الفصل في قضايا قالت فيها المحكمة كلمتها الأخيرة. وهي لغة غامضة، وغير مفهومة، من ناحية الحديث عن معتقلي رأي، أدانت معظم المنظمات الحقوقية العالمية اعتقالهم والحكم عليهم.

عبد الرحمان بلكبير، أستاذ القانون الدستوري قال في تصريح لـ"ألترا صوت" إن العفو عن معتقلي حراك الريف سيأتي تدريجيًا، ففي عيد الأضحى الماضي تم الإفراج عن مجموعة من المعتقلين وفي عيد الفطر أيضًا الأمر الذي يعطي إشارة إلى أن السلطة العليا في البلاد لها رغبة في طي الملف الذي كانت له تداعيات على الصورة الحقوقية للبلد بالخارج، خصوصًا أن المعتقلين خرجوا لأسباب اجتماعية.

اقرأ/ي أيضًا: حراك الريف.. انتهاكات الأمن مستمرة بتعذيب المعتقلين داخل السجون

وأضاف المتحدث أن العفو الملكي عن عدد من المعتقلين على خلفية جرائم الإرهاب، أظهر رغبة الدولة في الإنهاء التدريجي لملف المعتقلين الإسلاميين المدانين بجرائم متعلقة بالأحداث الدامية التي هزت المغرب سنة 2003، والذين يخوضون معركة أظهروا من خلالها للدولة عن تبنيهم مراجعات فكرية بعيدة عن الفكر المتطرف. لكن هذا العفو يثير جدلًا إضافيًا أيضًا، إذ كيف يمكن العفو عمن تتهمهم الدولة بالإرهاب، وإبقاء معتقلي حراك اجتماعي يطالبون بحقوق مشروعة في السجن.

على الرغم من أن العفو حق دستوري مكفول أيضًا للبرلمان المغربي، والذي له صلاحية إصدار عفو شامل على السجناء والمعتقلين السياسيين، إلا أنه لم يجرؤ أي برلماني على ممارسة حقه الدستوري

يظل العفو الملكي الأمل الوحيد الوارد بعد انتهاء جميع مراحل التقاضي في المغرب، فهو شعاع النور في نهاية نفق مظلم، يُنهي معاناة، ويُضمد جراح أسر، ويُطلق سراح مساجين يرون الحرية حياةً من وراء قضبان صلبة جائرة، لكنه في نفس الوقت، يقوم من خلال الشروط التي يفرضها، ومسارات "التأهيل" والإصلاح، بعملية ضبط اجتماعي وسياسي واسعة النطاق، خاصة فيما يتعلق بالمعارضين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العقلية البوليسية تدير المغرب مجددًا

حراك الريف المغربي وأزمة العقل السياسي المخزني