07-أبريل-2025
الشعوائيات في العالم العربي

إحدى المساكن العشوائية في مصر (إنترنت)

تحوّلت العشوائيات إلى واحدة من أبرز تجليات الأزمة الحضرية في العالم العربي، إذ ترتبط بغياب العدالة في التنمية، وضعف التخطيط، وتدهور العلاقة بين الدولة والمجتمع. لم تعد العشوائيات مجرد مشكلة إسكانية، بل أصبحت انعكاسًا بنيويًا لاختلالات سياسية واقتصادية أعمق. وبينما تسعى بعض الحكومات لمعالجة الظاهرة بمقاربات عمرانية، فإن الدراسات أظهرت أن تجاوزها يتطلب إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والمدينة، وضمان السكن كحق لا كاستثناء.

وبحسب بيانات الأمم المتحدة، بلغ عدد سكان الأحياء الفقيرة أو الذين يعيشون في ظروف مشابهة نحو 1.1 مليار شخص في مختلف أنحاء العالم في 2020، ومن المتوقع أن يرتفع العدد إلى 2 مليار خلال ثلاثين عامًا القادمة. كما أن معظم هؤلاء السكان من البلدان النامية، حيثُ تواجه المدن تحديات ملحة أبرزها انعدام المساواة، والتلوث، والاستهلاك المرتفع للطاقة، إذ رغم أن العشوائيات تشغل 3% فقط من مساحة الأرض، إلا أنها تستهلك ما بين 60 و80% من الطاقة، بالإضافة إلى إنتاج 75% من انبعاثات الكربون.

من غزو الأرض إلى النضج الحضري

تُعرف المدن أو الأحياء العشوائية، أو بحسب مصطلح الأمم المتحدة "المستوطنات البشرية"، بأنها "المناطق التي تم فيها إنشاء مجموعات من الوحدات السكنيّة على أراض لا يحق لشاغليها المطالبة القانونية بها أو يشغلونها بشكل غير قانوني". وفي تعريف آخر، فإنها "الأحياء غير المخطط لها والمناطق التي لا يتوافق فيها الإسكان مع اللوائح غير المصرح بها للتخطيط والبناء".

تحوّلت العشوائيات إلى واحدة من أبرز تجليات الأزمة الحضرية في العالم العربي، إذ ترتبط بغياب العدالة في التنمية، وضعف التخطيط، وتدهور العلاقة بين الدولة والمجتمع

يقول الأستاذ الفخري في كلية التصميم البيئي، جامعة كاليفورنيا بيركلي بالولايات المتحدة، زياد الصياد، في دراسة له إن عجز الحكومات المحلية والوطنية في عدم توفير فرص عمل وسكن ملائم للفقراء تسبّب في دفع ذوي الدخل المنخفض إلى غزو الأراضي العامة والخاصة، وتشكيل عشوائيات عبر عملية استيطان غير رسمية ترتكز على علاقات معقدة بين القطاعين الرسمي وغير الرسمي. وأضاف أنه تاريخيًا، نشأت هذه المستوطنات بسبب أزمات مدن العالم الثالث، والتي لخصها بأربع مراحل: غزو الأرض، التكوين الاجتماعي، التطور العمراني، ثم النضج الحضري.

من جانبه، يشير المدرس المساعد بكلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة، محمد محمود يوسف، إلى أن العشوائيات تُعرف بأنها تجمعات بشرية نشأت على أطراف المدن الكبرى نتيجة الهجرة الريفية، خاصة في الدول العربية ذات الكثافة السكانية العالية والدخل المنخفض، ما أدى إلى أزمة سكن دفعت السكان لبناء مساكن من الصفيح والخشب والكرتون دون تراخيص. ووفقًا للبيانات، فإن 60% من العشوائيات تقع على أطراف المدن في المنطقة العربية، و30% خارج النطاق العمراني، بالإضافة إلى 8% وسط العاصمة، بينما 70% منها شُيدت فرديًا و22% بشكل جماعي.

تمثل العشوائيات انعكاسًا لبنية النظام السياسي

يشكل السكن العشوائي في سوريا ظاهرة واسعة، إذ تُقدَّر نسبته بين 40 و50% من مجمل المناطق السكنية، وقد تتجاوز 60% في بعض مراكز المدن، بحسب تصريحات رسمية سابقة. وتشير البيانات إلى أن أكثر من نصف الزيادة السكانية بين عامي 1981 و1994 كانت في مساكن عشوائية، بينما بلغت في دمشق وحدها 67%. كما أظهرت دراسة عام 2007 أن كثافة العشوائيات، على مستوى السكان والمساكن، ارتفعت بأكثر من 200% بين 1990 و2000.

يرى الكاتب السوري، بسام يوسف، في حديثه لموقع "الترا صوت"، أنه "لا يوجد لدينا عشوائيات فقط بالإسكان والعمران والتخطيط والبنية التحتية، بل لدينا عشوائيات في جميع المجالات والقطاعات". وبناء على ذلك، تكون "انعكاسًا لبنية النظام السياسي، الذي لا يرى المواطنين كمواطنين، بل يراهم كأتباع".

ويوضح يوسف في حديثه أنه "في ظل هذا الانفلات وعدم الاهتمام من السلطة/ الحكومة/ النظام السياسي بحقوق الأفراد والمواطنين، فإن النظام لا يشعر أنه مهتم بنمط حياتهم، ما يهمه فقط نمط حياتهم الأمني". وعلى هذا الأساس، يعتبر يوسف أن ظاهرة العشوائيات ستستمر بالتوسّع في الدول العربية، طالما أن "النظام السياسي القائم في هذه الدول لا تقوم الشعوب بإنتاجه، لأنها لا تستطيع اختيار نظامها السياسي".

يصف يوسف الحلول التي تقدمها الحكومات العربية للعشوائيات بأنها "غير مجدية على الإطلاق"، ويضيف مستدركًا أنه "حتى تقوم بحل مشكلة العشوائيات يجب عليها حل ملف الديمقراطية، والأحزاب، والإعلام"، مؤكدًا أنه "حين يستطع المواطن انتخاب و/أو اختيار من يمثله، يومها فقط يمكن حل مشكلة العشوائيات"، لكن طالما "هناك سلطة مركزية شديدة القمع، فإنه لن يكون هناك حلًا للعشوائيات، وسيضاف إليها عشوائيات أخرى، لأن هذا القمع سيولد ثقافة عشوائية، ثقافة التحايل على القانون".

تعكس العشوائيات تحولات في علاقة الدولة بالمجتمع

شهد الأردن محاولات لمعالجة العشوائيات عبر مشاريع تطوير حضري مثل "شرق الوحدات"، حيث أُعيد تخطيط هذا التجمع العشوائي الذي كان يقطنه 5030 شخص في عام 1985، عبر تمليك الأراضي للسكان مقابل دفع 5% من ثمنها، وتقسيط المبلغ المتبقي بنسبة 25% من دخل الأسرة شهريًا، وقدر دخل الأسر الشهري في تلك الفترة بـ145 دينار أردني، وهو ما جعل من هذه التجربة نموذجًا رائدًا في تنظيم العشوائيات، رغم التحديات الاقتصادية التي واجهت تعميمها.

لا يرى الكاتب الأردني، حسن زايد، في حديثه لـ"الترا صوت" أن تحول العشوائيات من استثناء إلى وضع طبيعي يشكل انحرافًا أو فشلًا في التنظيم، إنما يراه "تعبيرًا عن تحولات جوهرية في علاقة الدولة بالمجتمع على صعيد سلطوي اقتصادي". فقد أصبحت العشوائيات "تتعدّى كونها صورة للفقر أو حالات النزوح"، وهي بالتالي "مؤشر على وصول النسق الاجتماعي في الدولة إلى انسداد تعجز فيه الأنظمة السياسية عن إدماج فئات واسعة من السكان في نظمها الوظيفية، مثل السكن، العمل، والحقوق".

ومن هنا يجد زايد أن الدولة أصبحت "هي من تُنتج الهامش بينما تُنكر وجوده، مما يؤدي إلى خلق مجتمعات موازية غير معترف بها قانونيًا، لكنها ضرورية اقتصاديًا"، بمعنى أن "العشوائيات تشكّل حيزًا مكانيًا لفرز طبقي حاد تحتاجه الدولة بشكلها النيوليبرالي". ويشير هنا إلى أن تفاوت التنمية بين المناطق الحضرية والريفية، فضلًا عن تركّز السكان في المدن وارتفاع أسعار السكن، دفع ذوي الدخل المحدود للعيش في مناطق عشوائية، مؤكدًا أن "العشوائيات نتيجة حتمية، وليس سبب"، لذا "لن تتراجع دون حل المشكلة من جذورها".

ينظر زايد إلى ممارسات مثل إزالة أو تطوير العشوائيات، على أنها "تُخفي في جوهرها عنف رمزي وجسدي يفرضه النظام على المعوزين، لا على شروط إنتاج الأزمة ذاتها"، لذلك لا تبدو أن الحلول الحكومية القائمة تعالج السبب، لأن "العشوائيات  ليست تنظيم "خارج النظام"، بل فضح لوحشية النظام نفسه". وعليه "فإن تجاوزها لا يتم عبر المعالجات الإدارية أو الأمنية، بل عبر إعادة تعريف العلاقة بين السياسة والمدينة، بين الإنسان والمكان".

يخلص زايد في حديثه إلى أن المطلوب "ليس حلولًا" لظاهرة العشوائيات، وبدلًا من ذلك يجب "إعادة طرح السؤال حول ما الذي يجعل المدينة عادلة؟، وكيف نعيد إدراج الكرامة كشرط للبنيان، لا كنتيجة له؟"، مستندًا في وجهة نظره إلى فكرة الفيلسوف، أشيل مبيمبي، الذي يرى أن "الدولة لا تُنقذ سكان العشوائيات من الفقر، بل تُنظم الفقر ذاته". ومن هنا يعتبر زايد أن "التعامل الحقيقي مع الظاهرة يتطلب تغييرًا سياسيًا جذرياً يفتح أفقًا للعدالة السكنية بوصفها حقًا لا منّة".

غياب التخطيط الحكومي

كشف مسح أجرته وزارة التخطيط العراقية عام 2023، بدعم من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية وتمويل الاتحاد الأوروبي، أن نحو 3.725 ملايين نسمة، أي ما يعادل 10% من السكان، يعيشون في مستوطنات عشوائية. وتشكل هذه الظاهرة تحديًا كبيرًا في بلد يُشكّل الشباب دون 22 عامًا حوالي 60% من سكانه. كما أظهر المسح أن 87% من تلك التجمعات قائمة على أراضٍ حكومية، مقابل 13% فقط على أراضٍ خاصة.

يُحيل الكاتب والصحفي العراقي، حارث العباسي، في حديثه لـ"الترا صوت" ظاهرة انتشار العشوائيات في العراق إلى الفترة التي رافقت دخول الاحتلال الأميركي إلى البلاد قبل أكثر من عقدين من الزمن، موضحًا أن العديد من العوامل كانت قد ساهمت بانتشارها، من بينها "ضعف الدور الرقابي للدولة حول البناء في المناطق الفارغة أو في أطراف المدن"، بالإضافة إلى "هجرة الناس من الريف إلى المدينة، والاكتظاظ السكاني وارتفاع نسب السكان".

ومع ذلك، فإن العباسي يلفت إلى أن السبب الأهم في انتشار العشوائيات، يتمثل في "غياب التخطيط من قبل الحكومات المتعاقبة حيث لم تعمل على استيعاب زيادة السكان من خلال توسيع المدن وتخطيطها للبناء"، مضيفًا أن هذه الأسباب أدّت إلى أن يعيش قرابة 10% من سكان العراق، البالغ عددهم نحو 4 ملايين شخص، في مستوطنات عشوائية داخل مدن البلاد، تتركّز النسبة الأكبر منها في بغداد.

وأشار العباسي إلى أن الحكومة العراقية تعاملت مع ظاهرة انتشار العشوائيات "بطريقة غير حازمة"، مرجعًا ذلك إلى "عدم قوة الدولة لتطبيق القانون، مما جعل المخالفات أمرًا واقعًا"، منوهّا إلى وجود محاولات محدودة لإزالتها في بعض مناطق بغداد والمحافظات، لكنها "غالبًا ما تُقابل برفض شعبي". ويرى أن حلول الحكومة غير كافية، إذ إن "مبدأ الإزالة دون توفير بديل تُعد ظلمًا في ظل تقصير الدولة في تأمين السكن"، ومن هنا فإن الحل الأمثل "يكمن في التخطيط العمراني وتوفير بدائل حقيقية للسكان".

الأكثر احتضانًا للعشوائيات

تُعد مصر الدولة العربية الأكثر احتضانًا للعشوائيات، إذ تغطي هذه المناطق نحو 160.8 ألف فدان، ما يمثل 38.6% من إجمالي الكتلة العمرانية في البلاد، تتوزع بين 37.6% كمناطق غير مخططة، و1% كمناطق غير آمنة. وتتصدر الإسكندرية المساحة الأكبر بـ20.1 ألف فدان، تليها القاهرة بـ19.4 ألف، ثم الجيزة بـ15.5 ألف فدان. أما عدد سكان العشوائيات، فيُقدّر بين 40 و60 مليون نسمة، وفق تقديرات رسمية، بينها تصريح لوزيرة سابقة حددتهم بـ45 مليونًا، وفق دراسات سابقة.

ويُنظر إلى تجرية مصر في معالجة العشوائيات على أنها أبرز النماذج العربية، حيث توسعت الدولة خلال السنوات الخمس الأخيرة في تنفيذ مشروعات الإسكان الاجتماعي، لتوفير وحدات سكنية ملائمة وبأسعار مناسبة لمحدودي ومتوسطي الدخل، ضمن برامج تمويل مدعومة من صندوق الإسكان الاجتماعي. وقد ساهم بناء ملايين الوحدات في تقليص ظاهرة العشوائيات وتحسين مستوى المعيشة في العديد من المناطق الحضرية المكتظة.

يُعيد مدير مركز الشرق الأدنى للدراسات الإعلامية والاستراتيجية، عماد عنان، في حديثه لـ"الترا صوت"، التذكير بدراسة "المنتدى الإستراتيجي للسياسات العامة"، وهو مركز بحثي مستقل، والذي أشار إلى أن نجاح التجربة المصرية يتطلب تبني عدد من المسارات الأساسية، أولها تطبيق نهج اللامركزية بالشراكة مع المحافظات لتطوير المناطق العشوائية. كما أكد أهمية تعزيز مشاركة السكان في مشروعات التطوير، بما يضمن استدامتها وقبولها مجتمعيًا، وتوحيد الجهود بين برامج تطوير المناطق غير المخططة وغير الآمنة.

ويلفت عنان إلى أن من أبرز التوصيات التي قدمها المركز، تعدد الخيارات أمام السكان لتحديد مصيرهم بين التعويض المالي، أو الانتقال إلى سكن بديل، أو العودة إلى المنطقة بعد تطويرها، مع ضمان عدم تدهور أوضاعهم المعيشية. كما أوصت الدراسة بتشجيع القطاع الخاص والمجتمع المدني على المساهمة في عمليات التطوير، إلى جانب إعداد مخططات لتوسيع البنية التحتية وخلق مساحات خدمية جديدة تلبي احتياجات السكان.

كذلك، دعت الدراسة إلى الإزالة الكاملة للمناطق غير الآمنة التي تشكل تهديدًا لحياة السكان، مع إعادة استخدامها لأغراض غير سكنية أو إعادة تخطيطها وتوطين سكانها مجددًا. وشملت التوصيات أيضًا تطوير المناطق القابلة للتحسين مع الإبقاء على قاطنيها، وإمدادها بالخدمات، إلى جانب ضبط المخالفات، وإزالة التعديات، وبناء الثقة بين الدولة والطبقات الفقيرة لضمان نجاح واستمرار جهود التطوير.