01-ديسمبر-2015

(رتيب الصفدي/الأناضول/Getty)

بينما كان المراسل يؤدّي رسالته من جرود عرسال، كان إلى جانبه أحد عناصر جبهة النّصرة، حاملًا كاميرا، يوجهها تارةً إلى المراسل، وطورًا إلى كاميرات القنوات. عين النّصرة كانت تسجّل لحظات النّصر، على أرضٍ لبنانية محتّلة، والمحتل لم يكن خجلًا، حمل سلاحه، أنجز عراضته الإعلامية، سلّم الأسرى، وترك اللبنانيين ليفرحوا بعودة العسكريين المخطوفين، من بوابة، استغلها هو، أي المحتلّ، ليدخل فيها البازارات السّياسية المستقبلية في المنطقة.

المشهد الأول:

فرح وحزن.. في بيتٍ واحد

لا شيء يعادل بهجة أمهات الأسرى المحرّرين أي بهجة، أمٌ تعانق ولدها بعد غياب قسري دام 16 شهرًا، قضاها أهالي العسكر بين خيام الاعتصام والطّرقات، عدا عن ألم الفراق، لم يسلم أهل العسكر من نيرانٍ صديقة، بدل أن يكونوا موضع إجماع، أصبحوا كأي موضوعٍ لبناني، مادةً للتجاذب والإنقسام.

لسنا في عرسٍ جامع بل في قلب مأتمٍ عاد المخطوفون فيه ليتقبّلوا العزاء عزاءً بكرامة دولةٍ تجهل معنى الكرامة أصلًا

أم تحتضن ابنها العائد، وعائلة عاد مفقودها، بينما على الضّفة الأخرى، أمٌ أخرى، تعانق صورةً لابنها، الذي إمّا ذبحته النّصرة، كالشّهيدين محمّد حمية وعلي البزّال، أو قضى بريئًا بتفجيرٍ إرهابي، كانت جبهة النّصرة عرّابته، من الألف إلى الياء، تمويلًا وتجهيزًا وتفجيرًا. فرحة عودة العسكريين اليوم، تقابلها مأساة أهالي الشّهداء، وضحايا إرهاب النّصرة الأبرياء.

لسنا في عرسٍ جامع، بل في قلب مأتمٍ عاد المخطوفون فيه ليتقبّلوا العزاء، عزاءً بكرامة دولةٍ تجهل معنى الكرامة أصلًا، واعتادت إغراق شعبها في الذّل، من النّفايات إلى غيرها من الأزمات.

 المشهد الثّاني:

 إرهابي بالبدلة

لم تكن التّغطية الإعلامية لعملية التّبادل عفوية، أرادت منها جبهة النّصرة تقديم أوراقها كمجموعة إسلامية معتدلة، على مشارف مؤتمر الرّياض الذي سينعقد لحصر المجموعات السّورية المعارضة، تمهيدًا للبدء الأممي بالبحث عن حلولٍ سياسية للأزمة السّورية. أرادت النّصرة إظهار نفسها بمظهر المعارض البرغماتي، القابل للتفاوض تحقيقًا لمطالب إنسانية، والمجبر على حمل السّلاح بسبب قمع النّظام السّوري.

النّصرة اليوم، قدّمت صورةً جديدةً لها، صورة المفاوض المعتدل الذي يفي بعهوده، المحترم لحقوق الإنسان، كرسالة إلى الرّأي العام العالمي، مفادها: "نحن لسنا إرهابيين، نحن مظلمون". مع أن محو كلام أمير النّصرة، أبو محمد الجولاني، حول نيّتهم تأطير نظامٍ مستقبلي يناسبهم، إسلامي الظاهر، حاملٍ لفكر تنظيم القاعدة، يعدّ مستحيلًا، مهما حاولت بعد القنوات الإعلامية التّرويج له، أو إرساء بوباغندا دعائية "ملائكية" للنصرة.

إقرأ/ي أيضًا:  الإرهاب وأخطاء الإعلام اللبناني التي لا تحتمل

المشهد الثالث

دولةٌ بذاكرة سمكة

خطابات سلام، رئيس الحكومة، الرّنانة، ومعه الوزراء والنّواب، جوقة الشّكر والتّطبيل لعملية التّبادل، أو صفقة العار، قد تكون كافيةً ليصدق هؤلاء السّياسييون، أن الملف قد أٌقفل بعودة العسكريين، واستطاع لبنان الرّسمي تجاوز قطوع الإرهاب بسلام.

يظن هؤلاء، أنّ الشّعب قد نسي زيارة بعضهم لعرسال وجرودها، تبييضًا لصورة رئيس بلديتها علي الحجيري، وشيخ جرزدها مصطفى الحجيري "أبو طاقية"، وإهمالهم كلام وزير الدّفاع السّابق، فايز غصن، الذّي تحدّث منذ سنواتٍ عند وجودٍ للقاعدة في عرسال، قبل أن نسمع بالنّصرة و"داعش" حتّى، يومها، اتُهم غصن بالعنصرية من قبل قائد الجيش السّابق ميشال سليمان، ومعه السّياسييون الذين زاروا عرسال تضامنًا، برأيهم، وبمساعدة الإعلام، غصن أطلق تصريحاتٍ عنصرية تحريضية. لتصوّر الكاميرات اليوم علنًا، مناطق لبنانية تقبع تحت سيطرة النصرة، ملثمون ومسلّحون، يتنقّلون بحرّيةٍ  دون أي ضوابط، في دولتهم الآمنة، أو المنطقة الآمنة التّي أوجدوها بفعل تلكؤ أصحاب القرار، المساهمون بشكلٍ غير مباشرٍ بقتل الشّهداء بيار بشعلاني وإبراهيم زهرمان، وصولًا إلى نور الجمل ورفاقه، لم يحاسب السّياسييون الإرهابيين بعد الجرائم، بل سمحوا لهم باستغلال مخيمات اللاجئين أوكارًا يتحصّنون بها، ويكبلون بالوقت ذاته، يد الجيش اللبناني الواقع بين نارين، نار محاربتهم، ونار حماية اللاجئين.

المشهد الرّابع

شيخ الجّرود

خرج براء من السّجن منذ قرابة عام. براء كان متهمًا بالإرهاب، والمساهمة بنقل الإرهابيين الذّي نفّذوا تفجير الرّويس الإرهابي من جرود عرسال إلى بيروت، براء هو نجل مصطفى الحجيري، المطلوب للقضاء، والملقب بـ "أبو طاقية"، شقيق عبادة الحجيري، المتّهم أيضًا بمثل تهم أبيه وأخيه. تمويل الإرهاب وتسهيل نقل الإرهابيين والمتفجّرات.

خرج براء من السّجن منذ قرابة عام الذي كان متهمًا بالإرهاب والمساهمة بنقل الإرهابيين الذّي نفّذوا تفجيرات في بيروت

 أبناء شيخ الجرود، نجم عملية التّبادل الإعلامي والسّياسي، سلكوا خطى الوالد المضياف، الذّي خطف العسكريين إبّان معركة عرسال. من المنطقي أن يكون شيخ الجرود اليوم نزيلًا في سجن رومية، لكن المنطق يجافيه الواقع، الشّيخ، شريك الدّم في تفجيرات الرّويس وغيرها، صاحبُ فضلٍ اليوم بحسب السّلطة السّياسية المنفصلة عن الواقع، ومن يعلم، ربما مستقبلًا، قد نرى شيح الجرود نائبًا أو وزيرًا عن جبهة النّصرة، التي لمّعت صورتها ولبست الرّداء السّياسي الدّبلوماسي.

المشهد الخامس:

مهزلة

للإعلام أيضًا دوره، ولو بدرجة أقلّ بسبب الوعي الشّعبي، مراسلٌ يسأل المخطوفين عن فترة احتجازهم وهم لا يزالون في الأسر، لم ينتبه، ولنفترض أن النّوايا حسنة، المراسل أن العسكر لا يزالون في الأسر، بينهم وبين الحرّية تصريح، ولو كان التّصريح يعاكس ما يريدون قوله فعلًا، ويلمّع صورة النّصرة في مسرحية صفقة التّبادل الهزلية، لم يكترث الإعلام لسمعة المحرّرين وإجماع الشّعب حولهم، لا ندري لماذا.

أعمى السّبق الصّحفي الإعلام، العسكريون الأسرى يتشاركون مصيبتهم مع أسرى سابقين، لم يكن الإعلام موجودًا لتكسير صورتهم، كالشهيد عاطف الدنف، الذّي كان معتقلًا في"أنصار"، مرفوعًا تحت التعذيب على سلّمٍ بالمقلوب، قال له الضابط الإسرائيلي مبسوط يا "مخرب"، ليردّ الشهيد عاطف الدنف: "مبسوط كتير لان صرمايتي فوق نجومك.."

إقرأ/ي أيضًا:  انفجار الضاحية الجنوبية.. الموت على دفعات