15-مايو-2022
غرافيتي في غزة

غرافيتي في غزة

الضجة المثارة حول جواز الترحم على شيرين أبو عاقلة هي جزء من كل. أغلب الظن لم تكن الشهيدة تنتظر أن تجزى بالترحم عليها من قبل البعض حين تموت. لم يكن هذا يدور في بالها أصلًا. المسألة التي دفعت حياتها ثمنًا لها أهم وأجدر من المسألة التي يتخاصم عليها شاهدو موتها. لكن هذا الاختصام إن دل على شيء يجاوز ضيق آفاق المساجلين، فإنما يدل على أن قضية شيرين التي يموت من أجلها فلسطينيون وفلسطينيات كل يوم، لم تعد في حد ذاتها تشكل هاجسًا جديًا لدى المساجلين. ببساطة، يقرر هؤلاء إبداء الرأي بعد حصول الموت. حياة من ماتوا قبل حدوث الموت ليست مهمة في حد ذاتها. نضالهم، جهودهم المضنية للدفاع عن أبسط حقوقهم، كل هذا ليس مهمًا. المهم كيف سيقابل المرء وجه ربه. وهذا أمر لا يسعني الانتقاص من أهميته، لكن شيوع خبره على النحو الذي يحصل كل مرة يشي بأن حياة الفلسطينيين، وحياة شعوب كثيرة أخرى تمت لهؤلاء بصلات معاناة وصبر، لم تعد مهمة، بالنسبة لهؤلاء. كما لو أن الذين يساجلون على أبواب الجنة والجحيم، حسموا سلبًا، مسألة بقاء الفلسطينيين والشعوب التي تمت لها بصلات على قيد الحياة أصلًا. وها هم ينظمون مسائل ما بعد موتهم.

هذه المنطقة المحروقة التي يحتلها الفلسطينيون في خيال العالم، هي نفسها التي تجعل من السجال حول جواز الترحم على شيرين أبو عاقلة أو عدم جوازه، سجالًا يهدف إلى التخلي وترك الضحايا لمصائرهم

هذا في ظني، ما يجعل الفلسطيني يجاهد وحيدًا. محكوم بأن ينمو ويتعاظم في الظل. وطريقه إلى الضوء يمر بفتحة واحدة يمكن تعريفها بجملة معبرة "انتظار الموت". الفلسطيني المشهر هويته الوطنية هو منتظر موت. وعبرة أن يقضي سنوات أو عقودًا وهو ينتظر الموت لا تغير في واقعه شيئًا، "هيانا قاعدينلكم"، قاعدون هنا إلى أن تأتي الرصاصة. تلك التي لا يعرف الفلسطيني متى تأتي فعلًا، لكنه يعيش سنوات عمره، التي يقضيها في الضوء، بانتظارها. فيما لا يجيد الحزانى على مصائر الفلسطينيين فرادى شيئًا أكثر من التعزية بالموت. ها نحن عزينا أنفسنا والفلسطينيين باستشهاد شيرين، وليس أمامنا إلا أن ننتظر وقت التعزية بالشهيد الجديد.

هل نملك ما نفعله كأفراد وشعوب لتغيير هذه الحال الموقوفة التي تحاصرنا من كل جانب؟ أغلب الظن أننا عاجزون. وربما يكون الفلسطيني أكثرنا عجزًا، ذلك أننا نستطيع أن نعجز ونقيم في الظل، نصمت ونقلع عن الأمل. لكن الفلسطيني محكوم بالضجيج والأمل. الفلسطيني ليس مثلنا، ولن يتسنى لنا أن نكون مثله. نكبر فيه شجاعته، والأرجح أنه يحسدنا على جبننا، على قدرتنا أن نكون منذ ولادتنا شيئًا آخر سوى فلسطينيين. رغم أننا دائما نؤمن أنه أكبر منا وأشجع.

المتضامنون مع القضية الفلسطينية باتوا، وهم يعاينون الغرابة الفاقعة التي يميز العالم من خلالها بين الضحايا والجلادين، يدركون أن المسافة الأهم التي ينبغي عليهم قطعها، هي المسافة الفاصلة بين التعامل مع الفلسطينيين بوصفهم شعبًا يستحق الحياة، وواقع أن العالم يعاملهم كضحايا مؤجلين، وهو ينتظر جنازاتهم. وقد يحزن ويدين ويترحم، لكنه في واقع الأمر لا يفعل شيئًا سوى انتظار موتهم.

هذه المنطقة المحروقة التي يحتلها الفلسطينيون في خيال العالم، هي نفسها التي تجعل من السجال حول جواز الترحم على شيرين أبو عاقلة أو عدم جوازه، سجالًا يهدف إلى التخلي وترك الضحايا لمصائرهم، والاكتفاء من التضامن مع الفلسطينيين بتنظيم الجنازات وتدبيج خطب التأبين.

ولشدة عجزي أدرك أنني لا أملك أن أغيّر في هذه الوقائع شيئًا، وها أنا أيضًا، رغم ادعائي، أكتفي بالترحم على الشهيدة، وتقديم العزاء المستحيل.