30-ديسمبر-2021

كاريكاتير لـ أسامة حجاج/ الأردن

لنتخيّل أمًّا وأبًا يكتبان الأدب، أحدهما أو كلاهما. لديهما مكتبة في البيت، وأصدقاؤهما من المهتمين بالثقافة والفن، يحدث أن يلدا بنتًا أو ولدًا، وبسبب نزعة الحب العمياء فيهما يبدآن باعتبار الطفل موهوبًا بالفطرة، في اللحظات الأولى من حياته.

يصبح طفل الأمس العبقري لعنة على من حوله في المستقبل حين تكون شخصيته نتيجة خطة وتوجيه خارجي، لا نتيجة خيار حر خارج من ميله وطبيعته

لا أعرف كيف يبدأ الأمر، لكن يمكن تخيّل ذلك الطفل يقول واحدة من الأفكار الخيالية التي يقولها الأطفال عادةً منذ فجر تاريخ البشر، حيث يمزجون الواقع بالخيال والفكر بالهلوسة، فيظنّ الأبوان أن هذه أولى تباشير العبقرية التي تُولد تحت رعايتهما، لأنّ روح المنزل محرّضة على استيلاد الذكاء والنباهة من الجدران.

اقرأ/ي أيضًا: الإغواء المصطنع وأجسامنا المستوحدة

بالطبع يروي الأهل تلك الأفكار لكل من يعرفون، وربما يجعلون الطفل يحكيها بنفسه للزوّار، مفاخرين أمامهم من جهة، ومطالبين إياهم بأن يكونوا شهودًا على العبقرية التي تُولد أمامهم من جهةٍ أخرى.

لا يمكن إنكار أن الأطفال يقدّمون ضربات إبداعية صاعقة بسبب جنون أفكارهم، أو عبثهم غير المقصود باللغة، ولعل كلًّا منا فرح بمثل هذه اللحظات التي وقف فيها حيال الذكاء الفطري. لكننا ننسى أن الأطفال المبدعين لا يبقون كذلك بعد مغادرة الطفولة، بل يصبحون كائنات عادية، سهلة التوقّع، وربما سطحية، الأمر الذي يعني أن ما نسمّيه عبقرية في هذا المقام يخرج من المرحلة العمرية لا من الشخص. ويمكن لكل منا ضرب مئات الأمثلة لأطفال شهدنا ذكاءهم المتوقد في بدايات حياتهم، ثم كبروا سعداء في محدوديتهم، دون تذكّر أن تلك اللمعة وُجدت فيهم أصلًا.

على هذا النحو، يمكن أن نتخيّل هذا الطفل، الذي تضعه الأقدار أو الحظوظ بين يدي أمهات وآباء يرون فيه عبقريًا، قبل أن يفعل أي شيء يستحق أن يسمّى عبقرية: نظرية فكرية، اختراع، عمل فني خارق. الذكاء شيء والإنتاج العلمي أو الفني شيء آخر. لكن الأبوين لا يهتمان بهذا التفريق ما دام لديهما أقلام وأوراق، وما دام طفلهما الذي يدفعانه للكتابة يستجيب لهما من شدة توفر المحفزات: تصفيق ومدح وهدايا ومشاوير. وهنا بالضبط تبدأ ولادة الغول الذي ستعاني منه الحياة الثقافية بعد عقدين من الزمن.

يتحول الأطفال إلى عباقرة بسبب القيام بما يقوم به أي طفل آخر، فما بالك حين يفعلون ذلك على ورق، ويسمون ما فعلوه لوحة أو قصة أو قصيدة؟ بالتأكيد سوف يجنّ الأهل الذين فشلوا في هذه الأشياء ويرغبون بتعويضها في بناتهم وأبنائهم، لكن المصيبة تأتي فيما بعد، حين يظن الطفل أنه أفضل من غيره، فيعيش لكي يؤذي الآخرين لشدة ما زُرع في رأسه أنه أعلى وهم أدنى.

الأطفال المبدعون لا يبقون كذلك بعد مغادرة الطفولة، بل يصبحون كائنات عادية، سهلة التوقّع، وربما سطحية

من المفهوم أن يفعل الأهل ذلك، لأنهم يعتقدون أن لدى أطفالهم كل ما تحتاجه الحياة، خاصة أنه تسنى لهم أهل مثلهم لكي يجهزوهم لتلك المهمات. فلذلك لا يجب أن نستغرب من توريث الدكتاتور عرشه لابنه بالمقدار الذي لا يجب أن نستغرب تحول ابنة أو ابن الشاعر إلى حقل عمل الوالد. وينقلب مصير البنات والأبناء لو أن الدكتاتور نفسه شاعر، والشاعر طبيب.

اقرأ/ي أيضًا: عن اعتياد الموت

الأساسي في هذا أن تجعل شخصية الإنسان نتيجة خطة وتوجيه خارجي، لا نتيجة خيار حر خارج من ميله وطبيعته، ولأجل هذا يصبح طفل الأمس العبقري لعنة على من حوله في المستقبل، في أي عمل أو اهتمام ينتهي إليه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

 شوارع دمشق: البكاء من سفعة برد

يحيى جابر الذي يسبقنا بوجع على الأقل