23-فبراير-2022

قرية سورية (Getty)

كان أبو سالم هو حكاء قريتنا البارع. أكثر الأحداث عادية وأشد التفاصيل رتابة كانت تتحول على لسانه إلى قصص مدهشة مشوقة تحبس أنفاس المستمعين المتحلقين حوله، رغم أنهم كانوا يعرفون مجرياتها ويحفظون نهاياتها صمًا.

إذا كان أهل القرية لا يستطيعون العيش بسلام دون أعيان مضافتهم الحكماء، فكيف للعالم الكبير ألا يأكل بعضه بعضًا إذا لم توجد رؤوس كبيرة حكيمة وشجاعة؟!

ولقد تجلت موهبة أبي سالم، أكثر ما تجلت، في ميدان محدد، إذ كان الرجل راوية أخبار سياسية من طراز نادر. كان مدمنًا على الاستماع لإذاعة لندن "بي بي سي"، يتابع نشراتها الإخبارية، وبرامجها السياسية والثقافية والاقتصادية. يلتقط وقائع وأسماء أشخاص وأمكنة، ثم ينسج منها حكايات مثيرة تصور لنا، بألوان زاهية، العالم خارج حدود قريتنا.

اقرأ/ي أيضًا: أرواحنا الالكترونية: من هاراوي إلى سكوت

ومع أن كثيرين كانوا مثله مستمعين مثابرين لـ"بي بي سي"، إلا أنه، وسط تيار كلماته الآسرة وحبكاته المتقنة، لم يتسن لأحد أن يسأله من يأتي بهذه "السوالف"؟ ولماذا هو وحده من يسمع مثل هذه الأشياء؟ وكيف عرف بما قاله بريجينيف لنيكسون في جلسة ثنائية مغلقة؟ ومن أخبره بما أسرَّ به ديغول لعبد الناصر؟ ومن الذي نقل له، وبالحرف، تقريع نهرو لقادة القوتين العظميين وتأنيبه لهم على خصامهم الذي سيقود العالم إلى التهلكة، وبعد ذلك تربيت هؤلاء على كتف الزعيم الهندي وشكرهم له على نصائحه الثمينة؟!

وفوق كل ذلك، فقد كان حكاؤنا يصطنع نبرة صوت وحركات أيد ومعالم وجه لكل من شخوص حكاياته. كان ثمة تشويحة لديغول وتقطيبة لتيتو وضحكة لكسينجر، ونظرة وديعة ونبرة هادئة لنهرو، وكان يمط شفته ويواربها كلما أراد أن ينقل حديثًا على لسان تشرشل، ويخترع لكنة يعتقد أنها ألمانية إذا ما استذكر حادثة بطلها هلموت شميت..

قلائل هم الذين فطنوا إلى أنه يستعير أصوات وهيئات أناس من القرية وينسبها إلى قادة وزعماء، ولا أحد، على الأرجح، فطن إلى أنه يستعير صورة عالمه السياسي الطريف من مضافة القرية، هنا حيث لا تعدم صوتًا جهوريًا يصدح بما يراه الحق، كما لا تعدم رؤوسًا كبيرة تهتز مذعنة للعتاب القاسي، ومعلنة نية العودة إلى طريق الصواب، وهنا حيث لا أحد يجرؤ على الكذب (الكذب المكشوف على الأقل)، وكلمات مثل الشرف والرجولة والنخوة والشهامة والصراحة والشفقة.. كانت سائدة وتجد من يصرفها مواقف وأفعالًا..   

ربما كان الرجل يعتمد هذا القياس المنطقي البسيط: إذا كان أهل القرية الصغيرة لا يستطيعون العيش بسلام دون أعيان مضافتهم الحكماء، فكيف للعالم الكبير ألا يأكل بعضه بعضًا إذا لم توجد رؤوس كبيرة حكيمة وشجاعة؟!

لم أحتج إلى أن أكبر كثيرًا، كما لم أحتج إلى أن أبتعد عن قريتي سوى خطوات قليلة، لأكتشف كم كان عالم أبي سالم السياسي زائفًا، وكم أن الواقع الفعلي أكثر تعقيدًا وأشد قسوة وأقل شهامة بكثير.. بكثير.

كان عالم حكايات القرية ساذجًا ومضحكًا، ولكنه عالم حميم ومؤثر، يليق ببشر طيبين يريدون العيش بسلام دون أن يَقتلوا أو يُقتلوا

اقرأ/ي أيضًا: العاصفة يونس وتأنيث الغضب

أضحك وأُضحك من حولي كلما تذكرت تلك الحكايات الملفقة، ولكن رجفة حنين في قلبي سرعان ما تكتم ضحكاتي. لقد كان عالمًا ساذجًا ومضحكًا، ولكنه عالم حميم ومؤثر، يليق ببشر طيبين يريدون العيش بسلام دون أن يَقتلوا أو يُقتلوا، دون أن يصبحوا أثرياء بورصة ولا أن يموتوا جوعًا.. بشر يريدون تصديق الوعود دون أن يبدوا أغبياء، ويريدون أن يتحمسوا دون أن يظهروا كمغفلين، أن يؤمنوا دون أن يقعوا في شراك أحد.. أناس عاديين، مثلي ومثلكم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أهواؤنا التي صودرت منا

وجه آخر لقصص النجاح