في 13 شباط/فبراير 2024، رحل عن عالمنا الريّس زكريا إبراهيم، الشخصية التي مثّلت حالة استثنائية في المشهد الفني والثقافي المصري على مدار العقود الأربعة الماضية.
كان زكريا نموذجًا للدأب والإصرار والاستمرارية، إذ بذل جهدًا متواصلًا لإحياء التراث الغنائي الشعبي في مصر، وتحديدًا مدن القناة، وخاصةً فن السمسمية، الذي أدرك، قبيل لحظة اندثاره، أنه بحاجة إلى من يهب حياته للحفاظ عليه. وهكذا قرر أن يكون هذا الشخص، فأفنى عمره في إحياء هذا الفن ونشره وتعليمه للأجيال الجديدة، مما جعله رمزًا للحفاظ على التراث المصري. لكن، كيف بدأت الحكاية؟
البدايات
وُلد زكريا إبراهيم في مدينة بورسعيد، حيث كانت الموسيقى الشعبية جزءًا من الحياة اليومية. في طفولته، كان يشاهد كبار السن يجتمعون في حلقات لعزف موسيقى "الضمة"، وهو فن شعبي صوفي قديم، لكنه، لصغر سنه، لم يكن يستطيع المشاركة في هذه الجلسات. ومع ذلك، ظل مشهد الرجال يعزفون ويغنون عالقًا في ذاكرته، مما زرع في داخله حبًا مبكرًا لهذا الفن.
كانت السمسمية، تلك الآلة الوترية ذات الأصول الفرعونية، رمزًا للمدينة ولأهالي القناة، تُعزف في الأفراح والمناسبات الاجتماعية، وأيضًا في أوقات النضال والمقاومة. لم يكن زكريا مجرد مستمع لهذا الفن، بل أصبح شغوفًا به، وقرر أن يكون جزءًا منه حين يكبر.
تهجير قسري لمدن القناة
بعد نكسة 1967، تعرضت بورسعيد، مثل مدن القناة الأخرى، للتهجير القسري بسبب الاحتلال الإسرائيلي. وجد زكريا نفسه حينها بعيدًا عن مدينته التي أحبها، محاصرًا بحنين قاتل للوطن. هنا، لعبت الموسيقى دورًا علاجيًا بالنسبة له، إذ كان يعزف على السمسمية أغاني المقاومة والحنين، مثل "يا مسافر بورسعيد"، وكأنها كانت وسيلته للتشبث بجذوره في ظل التغيير القاسي الذي فرضه الواقع السياسي.
لم يتوقف تأثير الريس عند حدود بورسعيد، بل توسعت رؤيته في منتصف التسعينيات، عندما أدرك أن التراث الموسيقي الشعبي في مدن القناة كافة، بل وفي مناطق أخرى من مصر، مهدد بالاندثار
هكذا عادت السمسمية لتكون أكثر من مجرد آلة موسيقية، إذ أصبحت ذاكرةً للمدينة، وصوتًا ينادي أبناءها للعودة، ووسيلةً لمقاومة الاحتلال من خلال الفن، حيث كانت الأغاني تنقل معاناة المهجرين وتبعث روح النضال فيهم.
العودة إلى بورسعيد والبحث في الذاكرة
في الثمانينيات، عاد زكريا إلى بورسعيد ليجد مدينته قد تغيرت كثيرًا. كانت المدينة قد تحولت إلى منطقة تجارية حرة، وغابت ملامح التراث التي كانت تميزها. لم يكن هناك الاهتمام نفسه بالموسيقى الشعبية بعد أن طغت الموسيقى التجارية وأذواق جديدة على الساحة، مما جعله يشعر بأن التراث الموسيقي للمدينة يتلاشى.
قرر زكريا أن يعيد إحياء هذا الفن، لكن المهمة لم تكن سهلة، إذ إن إقناع الناس بأن يتمسكوا بالقديم وسط الموجات الجديدة من الموسيقى لم يكن أمرًا هينًا. لكنه مع ذلك كان مصرًا على المقاومة. كانت فكرته أن يعيد "الضمة" و"السمسمية" إلى الأضواء من جديد، وأن يُعيد تقديمهما للأجيال الجديدة بالروح نفسها التي عاشها في طفولته.
تأسيس فرقة الطنبورة
في بداية مشروعه، لم يكن من السهل العثور على داعمين أو ممولين، لذا قرر أن يعتمد على نفسه. باع شقته التي كان يسكنها مع زوجته وأطفاله ليؤسس الفرقة ويوفّر احتياجات التدريب والنقل والآلات الموسيقية. كما كان عليه أن يعمل في مشاريع أخرى مثل ورشة جلود في حي شعبي لتمويل الفرقة.
كان هناك تحدٍ آخر يتمثل في العثور على العازفين والمغنين المناسبين، فبدأ بالبحث عن الهواة والموسيقيين القدامى الذين لا يزالون يحتفظون بروح السمسمية، واستطاع تكوين فرقة "الطنبورة" التي جمعت عازفين ومطربين من مختلف الفئات، من الصيادين والسائقين إلى الموظفين الحكوميين.
بدأت الفرقة بسبعة أفراد فقط، وكان زكريا يستأجر لهم الآلات الموسيقية التي يحتاجونها. لكن بمرور الوقت، ومع تقديم عروضهم الأولى، بدأ الجمهور يتفاعل معهم، وكبرت الفرقة لتضم أكثر من عشرين مؤديًا بين عازف ومطرب وراقص.
كانت المهمة الأساسية للفرقة هي توثيق وحفظ أغاني التراث من الضياع، فقد حرصت على جمع وتسجيل الأغاني الشعبية من أهالي مدن القناة، خاصةً تلك الأغاني التي كانت تُغنى خلال فترات المقاومة ضد الاحتلال البريطاني، وفي أثناء العدوان الثلاثي وحروب الاستنزاف.
تحديات الاستمرار والمقاومة ضد الذوق العام
مع تراجع الاهتمام بالفنون التراثية وظهور موجات جديدة من الموسيقى، كان لا بد لزكريا وأعضاء فرقته من مقاومة هذه التغيرات لضمان استمرار الطنبورة. كانوا يؤمنون بأن الفن الشعبي ليس مجرد موسيقى، بل هو ذاكرة وثقافة، ولهذا السبب تمسكوا بتقديمه بنفس روحه التقليدية.
لكنهم لم يكتفوا بذلك، بل قرروا التكيّف مع العصر لجذب الجمهور الجديد، فبدأوا في دمج بعض العناصر الحديثة دون أن يفقدوا الجوهر الشعبي. على سبيل المثال، فكروا في دمج موسيقى السمسمية مع أنماط موسيقية حديثة مثل الأندرجراوند والمهرجانات الشعبية، بل إن الفرقة تعاونت مع فنانين عالميين مثل المغنية الفرنسية زهرة هندي، مما أضفى على فن الطنبورة بعدًا عالميًا.
اعتزال وعودة: موقف ضد الاستهانة بالفن
رغم نجاح فرقة الطنبورة، مرّ زكريا بفترات من الإحباط. في أواخر التسعينيات، قرر التوقف عن العزف لفترة، حيث شعر أن الفن أصبح مجرد "سبّوبة" (عمل تجاري بلا روح). كما قرر أحد أهم أعضاء الفرقة، العازف محسن العشري، الاعتزال بعد أن تعرض لموقف شعر فيه بالإهانة، حين طُلب من الفرقة التوقف عن العزف لتحية وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني أثناء حفلة لهم في قصر الأمير طاز، وهو ما اعتبره تقليلًا من قيمة الفن. لكن بعد سنوات، عاد زكريا والعشري إلى الطنبورة، ليكملوا مسيرتهم في الحفاظ على التراث، مؤمنين بأن هذا الفن لا يمكن أن يُترك ليضيع.
تأسيس مركز المصطبة حلم يتجاوز حدود بورسعيد
لم يتوقف تأثير الريس عند حدود بورسعيد، بل توسعت رؤيته في منتصف التسعينيات، عندما أدرك أن التراث الموسيقي الشعبي في مدن القناة كافة، بل وفي مناطق أخرى من مصر، يعاني من التهديد نفسه بالاندثار. من هنا جاءت فكرة إنشاء مركز المصطبة، الكائن في حي عابدين بالقاهرة، ليكون المظلة التي تضم فرقًا موسيقية متعددة، تسهم في الحفاظ على ألوان مختلفة من الموسيقى التراثية المصرية.
كانوا يؤمنون بأن الفن الشعبي ليس مجرد موسيقى، بل هو ذاكرة وثقافة، ولهذا السبب تمسكوا بتقديمه بنفس روحه التقليدية
بدأ مركز المصطبة في دعم فرق عديدة، من بينها فرقة "الوزيري"، امتدادًا لفن السمسمية في مدن القناة. وفرقة "الجراكن" البدوية، وهي فرقة سيناوية ابتكرت موسيقى باستخدام جراكن الوقود المعدنية وصناديق الذخيرة، محولةً أدوات الحرب إلى أدوات فن. وفرقة "نوبة نور"، المتخصصة في التراث النوبي، وفرقة "مزامير النيل"، التي تُحيي موسيقى المزمار الصعيدي، خاصةً في محافظة سوهاج، وفرقة "البرامكة"، التي تعكس موسيقى صيادي بحيرة المنزلة.
كذلك شمل الدعم فرق "الزار"، وفرقة "دراويش أبو الغيط"، وفرقة "الزار التقليدي"، وفرقة "الرانجو السوداني"، حيث تتخصص كل منها في أحد أشكال موسيقى الزار. ورغم تعدد هذه الفرق، بقيت فرقة الطنبورة جوهرة التاج والحصان الأسود على حد تعبير الراحل، وأصبحت واحدة من أكثر الفرق المصرية شهرة عالميًا، حيث شاركت في أكثر من 50 مهرجانًا دوليًا، وكان محسن العشري، أحد عازفيها، ضمن قائمة أفضل 50 عازفًا موسيقيًا في العالم وفق تصنيف مهرجان "هومات" الإنجليزي.
كما عمل الريس زكريا على إنشاء مدرسة لتعليم النشء: "حين شعرنا بأن الأجيال الأكبر من الفنانين ترحل، لذا أسسنا مدرسة للبراعم لتأهيل أجيال جديدة من الفنانين الحافظين لأشعار الضمة، والراقصين، وعازفي الإيقاع والسمسمية".
لكن ما هو أصل هذا الفن في تلك المدن الجديدة التي نشأت مع حفر قناة السويس؟
يحكي الريس زكريا القصة في أحد لقاءاته: "أثناء حفر قناة السويس في مصر (1859 - 1869)، كان الاحتياج إلى الفن مُلحًا. وفي تلك الظروف، تولّد تُراث "الضمة" الفني. فبعد يوم من العمل الشاق، يجتمع العمال في حلقات "ضمة" ويتغنون بالأشعار الصوفية وقصائد الغزل، ولاحقًا، انضمت لهذا الطقس الغنائي آلة السمسمية".
ويضيف: "بعدما انضمت آلة السمسمية إلى هذا الطقس قادمة من السودان، أضاف الصيادون والبحارة في لون الفن الشعبي البورسعيدي، بحركات غاية في الخفة أو ما عُرف بـ"الرقص البمبوطي"، وهو رقص محلي يحاكي حركات "البمبوطية" أو تجار البحر".
وجمع هذا النمط من الرقص ما بين المؤديين والجمهور في وصلة تفاعلية وارتجالية، لتكتمل أركان فن تراثي ينتمي إلى مدن القناة عمومًا، ومحافظة بورسعيد خصوصًا.
التحديات المالية وتأثير الاضطرابات السياسية
لكن، كما هو الحال مع أغلب المشروعات الثقافية المستقلة، واجهت المصطبة والطنبورة أزمة اقتصادية كبيرة بعد 2011، حيث أدت التغيرات السياسية والاقتصادية إلى تراجع الدعم المالي، مما اضطر زكريا إبراهيم إلى تقليل نفقاته للحفاظ على استمرار الفرقة. رحل من القاهرة إلى الأهرام، ثم عاد أخيرًا إلى بورسعيد، لكنه لم يتوقف عن دعم العازفين، حيث واصل دفع أجورهم الشهرية، حتى في أصعب الظروف.
لم يكن هناك تصور واضح لما سيحدث بعد رحيله، حيث لم يضع خطة لخلافته. توقفت أنشطة المصطبة لمدة عام كامل، ولم تعد إلا في الذكرى الأولى لوفاته في 13 شباط/فبراير 2025، مما أثار تساؤلات حول مصير هذا الصرح الثقافي الكبير. ومع غياب التخطيط لما بعد زكريا إبراهيم، بقي السؤال قائمًا: هل يمكن أن يستمر هذا الإرث الفني العظيم بالقوة نفسها، أم أن التحديات الاقتصادية والإدارية ستؤدي إلى طمس أثره؟
مصير المصطبة بعد وفاة زكريا إبراهيم
تحدث ممدوح القاضي عن رحلته في مركز المصطبة، التي بدأت بانضمامه عام 2000 في دور تقني، حيث عمل على تشغيل وحدة المونتاج وتصميم الموقع الإلكتروني وإدارة السوشيال ميديا، قبل أن يتوسع دوره إلى الإدارة، حتى أصبح المدير التنفيذي في 2009. وأكد أنه استمر في هذا المنصب حتى وفاة زكريا إبراهيم في شباط/فبراير 2024.
أوضح القاضي لـ"الترا صوت" أن وفاة زكريا إبراهيم كانت صدمة كبيرة، خاصةً مع الأزمة المالية التي مر بها المركز منذ 2023. وأضاف أنه عمل متطوعًا حتى أيلول/سبتمبر 2024، محاولًا تأمين تمويل لاستمرار الأنشطة، حيث نُظّمت بعض الحفلات.
كان زكريا نموذجًا للدأب والإصرار والاستمرارية، إذ بذل جهدًا متواصلًا لإحياء التراث الغنائي الشعبي في مصر، وتحديدًا مدن القناة، وخاصةً فن السمسمية
أكد القاضي أن الخلاف في الرؤية مع حسن زكريا الذي تولى الإدارة بعد وفاة والده كان سببًا رئيسيًا لمغادرته، إذ لم يعد المركز يُدار بنفس النهج السابق. رغم ذلك، أكد أنه لا يزال ملتزمًا بالحفاظ على التراث الموسيقي الشعبي، ويسعى إلى تأسيس كيان جديد يخدم هذا الهدف، لكنه يواجه تحديات مالية وإدارية.
واختتم القاضي حديثه بأنه يتمنى استمرار المصطبة، وأنه سيسعى جاهدًا للحفاظ على التراث كما كان يعمل مع صديقه الريس زكريا سواء كان داخل المركز أم خارجه، وهو الهدف الذي يتفق معه الجميع مهما اختلفت وجهات النظر.
موقف حسن زكريا: محاولة الاستمرار رغم التحديات
أكد حسن أن التغيير الأبرز كان مغادرة ممدوح القاضي، الذي شغل منصب المدير التنفيذي لفترة طويلة. لكنه رفض التطرق إلى التفاصيل، مشددًا على أن الانفصال تم بشكل ودي ودون خلافات كبيرة.
واختتم حسن حديثه لـ"الترا صوت" بالتأكيد على أن زكريا إبراهيم كان شخصية استثنائية، وكان يقوم بأعمال تحتاج إلى 20 شخصًا لتعويضه، نظرًا لقدراته التنظيمية والفنية والإدارية الفريدة. ورغم التحديات، شدد حسن على أن الفريق الحالي ملتزم بالحفاظ على إرث المصطبة، والاستمرار في إحياء التراث الشعبي المصري بكل السبل الممكنة.
جهود الأصدقاء والعائلة للحفاظ على المشروع
يعمل أصدقاء الراحل زكريا إبراهيم وعائلته على استمرار مشروعه الثقافي، رغم التحديات التي تواجه مركز المصطبة وفرقة الطنبورة بعد وفاته. يسعى صلاح إبراهيم، شقيق زكريا المقيم في إيطاليا، إلى مواصلة الفكرة من خلال تأسيس كيان يحمل الاسم نفسه هناك، بينما يدعم حسن، ابن زكريا، وأصدقاء الفرقة الجهود المبذولة للحفاظ على المشروع.
يؤكد ياسر شكري، محامي الفرقة والمركز، أن المشروع لم يكن قائمًا فقط على شخص زكريا، بل على جماعة مؤمنة بالفكرة. وعلى هذا الأساس، يستمر العمل على إعادة تشغيل المسرح، وحل المشكلات المتبقية، لضمان استمرار الإرث الثقافي الذي كان زكريا أحد أبرز حراسه.
رحل زكريا إبراهيم، لكنه ترك خلفه إرثًا ثقافيًا لا يمكن تجاوزه، ومسارًا فنيًا لن يكون من السهل طمسه. لم يكن مجرد موسيقي أو مؤسس فرقة، بل كان حامل شعلة التراث الشعبي، ومقاتلًا شرسًا في معركة ضد النسيان والاندثار. لم يكتفِ بإنقاذ فن السمسمية من الضياع، بل صنع منظومة ثقافية كاملة، امتدت جذورها إلى مختلف أنحاء مصر، لتعيد تعريف مفهوم الفن الشعبي ودوره في المجتمع.
وما فعله الريس زكريا لن يذهب سدى، فقد حافظ على التراث الشفهي المصري على مدار أربعة عقود. لكن يظل التحدي هو الحفاظ على هذا الصرح، وأن يكمل المسيرة. إن إرث زكريا إبراهيم ليس مجرد مجموعة من الأغاني والرقصات، بل هو روح متجددة يجب أن تستمر في العطاء.