17-مارس-2016

بيجاك/ إسبانيا

مرت خمس ساعات ومحرك زورقنا المطاطي "البلم" معطل في بحر إيجة، وزورقنا الرمادي عائم كعين كبيرة، يحشر عشرات العيون الصغيرة، ويحدق في السماء. نضيق في الفضاء المفتوح، نحس وكأننا أكياس ملح مشبعة بالرطوبة. 

الشمس تلسعنا، والفتية يحاولون تمالك أنفسهم كالرجال، والرجال عيونهم نصف مغلقة، والنساء أشداقهن نصف مفتوحة، وطنين صلوات وتلاوات وتضرعات، ثلاثة أطفال نيام، وصغير يبكي فتخرج أمه الدائخة ثديها الأسمر وترضعه، امرأة في منتصف العمر، تجلس على بعد فتاتين وعجوز مني، تتقيأ للمرة الثالثة، والفتاة التي بجواري تدعى هيفي، تلكزني وتقول: الموت غرقًا يا ليلى يؤلم وبشدة. 
عقلي أيضًا زورق ماء، أعبر به إلى ضفة صوته ذات اتصال.

ماذا ترين؟ سألني على خط الهاتف البعيد من برلين.
أمامي منزل يوسف 
وبعد؟
براري تمتزج بالأفق
وبعد؟

بيادر ذهبية تنام على كف الضوء، وأسوار بازلتية ملتوية، وأشجار تين وتوت وزعرور مبعثرة، نحلة تطن أمامي، وتتجه إلى عريشة الدار وتلثم حبة عنب ناضجة.
ألثم شفتيكِ، قال.
قبلتان لكَ وبينهما قصيدة ترسلها لي على الفايس بوك، تجرأتُ فضحكَ.

في اليوم التالي للعثور علينا في البحر، انطلقت وهيفي وشقيقها هجار من أثينا، استقلينا الباص عند منتصف الليل، وما أن دار المحرك ودارت العجلات حتى غرقنا في نوم عميق، استيقظنا في الصباح في مدينة سولانيك.
من وراء نافذة الباص شاهدت منازل قرميدية بيضاء، أسوارًا مسيجة بالورود، أشجارًا متنوعة وهضابًا خضراء، شاحنات وبرادات على الطرقات، لوحات إعلانية، شاشات عرض الكترونية، دلالات طرقية خضراء بأحرف صفراء، أبنية كبيرة متفرقة تبدو كمصانع، وبعد ساعات ظهر لنا بحر إيجة مجدداً في الشمال، متشحًا بالغطرسة.

محطة أخرى، وباص آخر إلى بوليكاسترو.
ومن وراء النافذة شاهدت مدنًا وقرى رابضة في سلام.
محطة أخرى، وباص آخر إلى أفزوني. 
والطريق صار أضيق، والقرى والكنائس أصغر، للمقابر شواهد بالحجر الأبيض وعليها صلبان بيضاء، وأخرى من الحجر الأسود حفرت عليها صور الموتى. 

في فندق هارا، غسلت جسدي الخشبة، وفركته بالماء والصابون جيدًا، استحممت مطولًا بما يكفي لتدق هيفي الباب مرتين، وتستعجلني للخروج. التهمنا بعض البسكويت والتمر واحتسينا الشاي، ثم اندسست في الفراش، وكذلك فعلت هيفي التي عرفتها منذ أيام قليلة في إزمير. 

اتصلتُ به من خطي الدولي فلم يرد، فتحت صفحتي وبريدي ولم أعثر على أي رسالة منه، ضقت في نفسي وفي غرفتي، فتحت النافذة ودخنت السجائر. 
ماذا ترين؟ يخيم عليّ صوته ونبرته المبحوحة.
يعسوبة زرقاء في لجة الظل، همستُ لنفسي.

مع أولى إشراقات الصباح انطلقنا من خلف الفندق، ومشينا بمحاذاة النهر، قطعنا الجسر بسرعة، وعثرنا على سكة الحديد، سرنا ساعة ونصف فبانت لنا تباشير قرية مقدونية، غيفغيليا. 
نستقل الباص مجددًا، ونرتب أشكالنا المنهكة، نضع بعض المساحيق، ونرش العطور، نتفادى الحديث بالعربية، ونفكر، نفكر طيلة الوقت.

سيتروميتسا، سكوبي، كومونوفو
اجتمعنا قرابة الثلاثين، وبيننا أطفال وعجائز، واصلنا السير برفقة أرمند (المهرب الألباني) فوق سكة القطار. 
أوَتعلمين يا هيفي بأن والدي شركسي وأمي عربية؟
أ.. حقًا؟
انتظري بعد، وجدتي من أمي تركية، وأخوالها ألبان
وهوية أخرى بانتظارك، أستعلقينها جميعًا على الحائط؟ ضحكتْ. 
سأزداد تعقيدًا فقط.. ابتسمتُ.. وربما فرادة. 

ولجنا في طريق بري، هطلت الأمطار بغزارة وصارت الأرض كالعجين تنغرس فيها أقدامنا ونرفعها بعناء، تتلفت هيفي من حولها وتتأمل الوجوه الكئيبة، الأنفاس اللاهثة، الأجساد المتسخة والأرواح الواهنة، الطفلة التي تتوسل أمها، وأمها تجرجر بإعياء تعب وحزن وخيبات، رتل بشري غارق في الوحل، سيل دموع مالحة ينحدر فوق وجنة رفيقتي السمراء، أتجاهله.

فوق دروب الهجرة أكياس ملونة، علب صودا، قوارير بلاستيكية، مناديل وأعقاب سجائر.
وفوق دروب الهجرة أعناق مطأطأة ورؤوس مطرقة، ومطر يفح: تِسْ تِسْ تِسْ.
أخبريني شيئًا جميلًا عن ضيعتنا، سألـَني قبل نزوحي عن القرية.
قذائف وغبار ودخان، أجبتُ وفمي مترع بالمرارة. 
في ضيعتنا هطلت قذائف الهاون فوق رؤوسنا، وقتل شاب صغير إثر نزيف داخلي، وعثروا على أخيه صريعًا في المشفى وعليه آثار تعذيب، ووالدهم توفي بسرطان المخ وأمهم فقدت صوابها.
في ضيعتنا قُنص شبان عزل، بيوت هُدمت وأخرى استوطنت، دخلها جنود مسلحون ودبكوا في حاراتها.  
وفي ضيعتنا غيمة مسمرة كتفاحة سوداء مقضومة بأنياب كلب.
سوبوتيكا، هورغوز ... بودابست، فيينا. 
ومن وراء نافذة القطار شاهدت المطر يتكسر على الزجاج ويسيل في خيوط سوداء. 
قررت المكوث في فيينا، وودعت هيفي وهجار ليكملا طريقهما إلى ألمانيا. 

بقيت طوال الليلة في غرفة غريبة أفكر به، وبانقطاعه المفاجىء غير المبرر عني، أكنتُ عينًا له في ضيعتنا؟ أقلبًا حيًا؟ أنفسًا مضطرمًا برائحة النعناع البري ونكهة الدبس؟ أم تخوّف حضوري المباغت له في برلين؟ الحقيقة أمست ضئيلة ولا تعنيني.

كتبت له تفاصيل رحلتي في رسالة أخيرة، أنهيتها، أعب من سيجارتي، وأتردد للحظات في إرسالها، وعلى نحو مفاجىء أضغط زر الحذف.
تربكني عبارة ظهرت على الشاشة: "هل أنت متأكد من حذف الرسالة"

اقرأ/ي أيضًا:

عالم الوجبات السريعة

ليس في جيبي سوى الكلام