07-ديسمبر-2017

دمار شامل في حمص (سالي هايدن/ Irishtimes)

تُعتبَر الهجرة العكسية حركةً متناميةً، تتمثل في جهود اللاجئين السوريين في أوروبا للعودة إلى ديارهم. ولكن أولئك الذين يريدون الرجوع يواجهون كُتلًا من العقبات القانونية والعملية والمالية، والكثير من الذين استطاعوا العودة، يواجهون التعذيب والتجنيد الإلزامي. في هذا التحقيق، المترجم عن صحيفة ذا آيريش تايمز، نسافر إلى ألمانيا والسودان وسوريا للقاء أولئك الذين يبحثون عن طريق العودة والتعرف على قصصهم. وبعد الجزء الأول الذي ركز على ندم البعض ونقل رغباتهم في العودة، ثم الجزء الثاني الذي اهتم بالعودة وطرقها المختلفة، يتعرض هذا الجزء الثالث والأخير لصعوبات ما بعد العودة وتجربة لم الشمل العائلي.


لمّ الشمل بعد الشتات

اعتقد سامي أنه قد نجح في محاولته. وكان الشاب الثلاثيني يعيش في ألمانيا لمدة ثلاث سنوات كلاجئ معترف به، وفي تلك الأثناء مرضت والدته على نحوٍ خطير. لقد كانت في حاجة إلى إجراء عملية لإنقاذ حياتها. قرر إخوته أنه يجب على سامي مساعدتها، والتواجد معها؛ بصفته الابن الأصغر والوحيد غير المتزوج.

صُدم سامي، لاجئ سوري اختار العودة لسوريا لفترة، باعتقاله أثناء وصوله بلده وتعذيبه وتجنيده وضياع حلمه من جديد

استقل سامي رحلةً متجهةً إلى الخرطوم، ثم ذهب منها إلى دمشق، مستخدمًا جواز سفره السوري؛ حتى لا ينتهك شروط وضعه كلاجئ في ألمانيا. وكان يعتزم البقاء أقل من 20 يومًا، وهي الفترة الأولى التي يقضيها في سوريا منذ بدء الحرب واتخذ الاحتياطات اللازمة. من الخارج، يمكن للسوريين دفع بعض الأموال لشخصٍ ما للتحقق مما إذا كان اسمهم في أي من القوائم، والتي تعني أن المسؤولين الحكوميين يبحثون عنهم. لم يحتج سامي إلى ذلك؛ إذ قال إنه اعتمد على صديق له تحقق له من ذلك. وعندما تأكد أن كل شيء على ما يرام وأنه غير مطلوب، شرع في رحلته وظن أنه في أمان.

لكن الأمور ساءت في مكتب الهجرة في مطار دمشق. قال سامي إنهم أخبروه "أن عليه أن ينتظر لخمس دقائق"، قبل أن يتم دفعه إلى غرفةٍ خلفية، ثم قِيدَ بعد ذلك إلى سيارة. واستغرق الأمر أكثر من شهر قبل أن تعرف والدته أنه لا يزال حيًا. يقول سامي: "لمدة شهر كامل لم تعرف عائلتي أي شيء عني. حتى بعد أن ذهبوا وسألوا في مركز الشرطة. كانوا يعلمون أنني اتجهت من السودان إلى سوريا، وبعد ذلك لمدة شهر لم يكن أحد يعرف شيئًا".

وبعد بضعة أسابيع، كان سامي، الذي غيرنا اسمه لسلامته، محتجزًا في زنزانةٍ مع عشرات الآخرين، من بينهم عدة أشخاص تم القبض عليهم عائدين من أوروبا. ويُقدّر حجم تلك الزنزانة بحوالي ثلاثة أمتار في أربعة أمتار، مما ترك بالكاد مجالًا للتنفس لهم. وتابع: "كانوا يُعطوننا بعض الغذاء بالتأكيد، ولكن كان قليلًا جدًا، فقط كي نستمر على قيد الحياة". كل ساعتين في الليل، كان نصف المحتجزين في الزنزانة يقفون للسماح للآخرين بالاستلقاء قليلًا محاولين الحصول على بعض النوم.

لم يُطلق سراح سامي إلا بعد أن تم تعذيبه من قِبل بعض الضباط، الذين طالبوه بإعطائهم معلومات عن قادة المعارضة الذين يعتقدون أنهم يعيشون في أوروبا، وهم أشخاص لا يعرفهم.

اقرأ/ي أيضًا:  مناكفة جديدة بين المغرب والجزائر.. اللاجئون السوريون هم الضحية

نقاتل طوال اليوم

"إنه أمرٌ عادي في سوريا. لا أحد يذهب إلى الشرطة دون أن يتعرض للتعذيب. ولا يهتمون إذا مات الشخص جرّاء ذلك التعذيب، أيضًا، لا يمكنك أن تفعل أي شيء، لأنه لا أحد يعرف ما حدث لك. إذا جاء شخصٌ من الخارج إلى مركز الشرطة وسأل عنك، يقولون "إنه ليس هنا.. حتى لو مُتَّ لن يعرف أحد بذلك وهم لا يهتمون".

وبينما كان يجلس سامي خارج حانة في حي باب توما في دمشق هذا الخريف، بدا وكأنه يعاني من نقص تغذية، فقد حوالي 15 كيلوجرام في أربعة أشهر، بعد مغادرته ألمانيا. وقال إنه من خلال ذكر قصته فإنه يحذر اللاجئين السوريين الآخرين في أوروبا مما يمكن أن يحدث لهم إذا عادوا.

وبعد شهرٍ في زنزانة السجن، أرسل سامي إلى الجيش، على الرغم من إكماله الخدمة العسكرية قبل سنوات. وفي غضون أيام تم نقله إلى إقليم يسيطر عليه تنظيم داعش، أي واحدة من المناطق السورية التي لا تزال تشهد حاليًا أكثر المعارك وحشيةً.

وقال سامي إن نقص الغذاء والرعاية للجنود هناك بمثابة الحكم عليهم بالإعدام. ويضيف: "نحن نقاتل كل يوم، وفي الليل يُعطوننا بعض الخبز وبعض البطاطس.. هذا ليس طعامًا لجنودٍ يقاتلون. لا توجد وجبة إفطار  ولا غداء. وفي بعض الأحيان لا نستطيع العثور على الماء". وقال أيضاً إن هذا تماماً عكس ما يحصل للمقاتلين الروسيين، والذين يتم إعطاؤهم مؤنًا أفضل وإعطاء سلامتهم الأولوية.

قبل ثلاثة أسابيع من اجتماعنا، وبعد ثلاثة أشهر من تجنيده في الجيش، فجّر تنظيم الدولة قنبلةً بالقرب من المكان الذي كان يقاتل فيه، مما أدى إلى مقتل جميع من معه تقريبًا. يستطيع سامي الآن السير على أقدامه بالكاد. في وقتٍ لاحق، رفع ساق بنطاله ليكشف عن تمزقاتٍ عميقةٍ تمتد على طول قدمه وصولًا لجسده. وقال: "أعرف الكثير من الناس الذين كانوا في أوروبا وعادوا. إنهم معي الآن على الخطوط الأمامية في القتال".

في ألمانيا، وفي سوريا، وفي جميع أنحاء أوروبا، نسمع عدة روايات عن الشباب الذين اختفوا بعد عودتهم إلى سوريا، ويُفترض أنهم في السجن. وبعضهم تمكن من العودة لعائلاته مرة أخرى قبل أن يختفوا من جديد. ولكن قصة سامي تعطي وصفًا شاملًا لما يحدث لبعضهم. ويقول الأخير إن "النساء والأطفال فقط، المعفيين من الخدمة العسكرية، يمكن أن يُحتجزوا لبضعة أيام، ثم يُطلق سراحهم، ولكن جميع الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 42 عامًا يتم تجنيدهم إجباريًا ويتعرضون للاشتباه فيهم.

وقال سوري آخر من حماة، إن والده، الذي يتجاوز سن التجنيد، كان قد اُحتجز لمدة ثلاث ساعات تقريبًا في مطار دمشق بعد عودته من السويد. ثم صادروا جواز سفره كي لا يتمكن من مغادرة سوريا مرةً أخرى. وقال ابنه: "كل من غادر سوريا بشكلٍ غير شرعي، يُؤخَذ للاستجواب السياسي، وكل من يقول لك خِلاف ذلك يكذب". تم القبض على والده؛ لعدم وجود ختم خروج في جواز سفره. وقد تم استجوابه حول علاقاته مع "الدول المعادية"، وكيف خرج من سوريا، ومن الذي هرّبه، ومن الذي كان يسيطر على شمال البلاد عندما تمكن من الخروج. ومنذ ذلك الحين تم تهريب الأب -الذي ظل قيد التحقيق- إلى تركيا مرةً أخرى. وقال ابنه: "لن يعود أبدًا إلى سوريا مرةً أخرى".

أما بالنسبة لأولئك الذين يعبرون الحدود التركية ويدخلون سوريا بطريقةٍ غير قانونية عن طريق البر، فإن العواقب قد تكون أسوأ. يقول سامي، إن بعض المهربين على طول الطريق إلى حلب هم عملاء في صفوف الجيش. إذا تم القبض عليك، فأنت مُعرض إما لإرسالك مباشرةً إلى الجيش أو الاختفاء في السجون لسنوات.

بعض السوريين الآخرين، الذين تمكنوا من الوصول إلى منازلهم، تم القبض عليهم هناك عقب نصب الأكمنة لهم. "كما يُوجَد العديد من نقاط التفتيش العسكرية عبر البلدات والمدن، فضلًا عن المخابرات السرية، مما يعني أنه من المستحيل أن تذهب هنا وتظل لفترة طويلة دون الكشف عنك".

وبمجرد عودة اللاجئين إلى سوريا في مناطق سيطرة النظام، يقعون في نظامٍ يتغلغل فيه الفساد، حيث يجب على الجندي دفع مبالغ نقدية كبيرة للحصول على مكان أكثر أمانًا. يقول سامي: "دون المال لا تستطيع أن تفعل شيئًا على الإطلاق".

اقرأ/ي أيضًا: التسول والاستغلال.. واقع لاجئات سوريات بالمغرب

لا تعودوا أبدًا

يقول النظام السوري إن هناك قنوات يمكن من خلالها للذين غادروا إبان المعارك ضمان عودة آمنة لكن ينفي المستجوبون العائدون والواقع ذلك

يقول النظام السوري إن هناك قنوات يمكن من خلالها لأولئك الذين غادروا إبان المعارك ضمان عودة آمنة إلى منازلهم. وفي حلب، يشرح فادي أحمد إسماعيل، ممثل حكومة الأسد للمصالحة، تفاصيل تلك العملية. يقول إن "أي شخص قاتل قوات الحكومة، أو حتى تحدث ضد نظام الأسد في وسائل الإعلام، يجب أن يتصل بوزارة المصالحة وتحقيق السلام قبل عودته". ويذكر أنه "حتى الآن هناك 300 شخص عادوا إلى حلب، قادمين من الخارج بعد القيام بذلك. فقط، كان على كُلٍ منهم أن يُوقِّع أوراقًا تُفيِد أنه لن يتصرف ضد النظام في المستقبل. وأي شخص يخالف ذلك قد يواجه المحاكمة في المحاكم الخاصة بالأعمال والتهم الإرهابية".

وبينما يمكن للمغتربين القانونيين دفع 5000 دولار لتجنب الخدمة العسكرية بعد خروجهم من البلاد لمدة خمس سنوات، يؤكد إسماعيل، أن اللاجئين غير مسموح لهم بذلك. وحتى لو كانوا معارضين للنظام، فإن أي رجل مؤهَّل طبيًا، يبلغ من العمر ما بين 18 و42 عامًا يجب عليه أن يؤدي الخدمة العسكرية عند عودته إلى بلده.

يمكنك العثور داخل سوريا على العديد من الأشخاص الذين عادوا بصورةٍ قانونية في جميع أنحاء البلاد.  في شارع فرعي في حلب، يتنزه محمد في سيارته بحماس، والنوافذ مفتوحة، ويتأمل التغيرات في مدينته بعد أربع سنوات في دبي. وكان يفكر لعدة أشهر أنه قد حان الوقت "ليستقر" ومنذ ثلاثة أسابيع اجتمع مع عائلته وانضم للعمل في مصنع والده للأحذية.

وفي دمشق، في نهائي كأس كرة القدم السوري، والذي عُقد في شهر تشرين الأول / أكتوبر، كان هامو أحمد يقفز خلف حواجز الملعب، وهو يصرخ متحمسًا قائلًا بالألمانية: "غوتن تاج" أو "يومٌ رائع" لأي شخص يبدو أنه من الأجانب. عاد الشاب البالغ من العمر 25 عامًا إلى سوريا قبل 20 يومًا، بعد ثلاث سنوات من اللعب مع نادي فرانكفورت لكرة القدم. "أنا أحب ألمانيا"، كما يقول، ويستدرك: "لكنني أفتقد موطني".

وقد أصدرت شخصيات معروفة من ثلاث خلفيات مختلفة في المجتمع السوري رسائل متضاربة، إلى الخمسة ملايين لاجئ، الذين فروا من البلاد، مع أن الواقع في هذه المرحلة، هو أن معظم الناس لديهم قريب في الخارج.

وقال بشار الأسد في شهر شباط / فبراير في مقابلة معه إنه يعتقد أن معظم اللاجئين يرغبون في العودة في المستقبل. وقال "إنه بلد كل سوري"، لكنه أضاف ما سيحدث لاحقاً قد يكون خارج قراره. موضحًا "لا يهم ما اعتقد. ما يهم هو ما سيقوله القانون عن كل شخص ارتكب أي عمل ضد بلاده".

وقبل شهر من وفاته بفعل لُغمٍ أرضي فى تشرين الأول/ أكتوبر، تسبب الجنرال البارز في الحرس الجمهوري، عصام زهر الدين، في احتجاجات عندما قال إن اللاجئين لن يعودوا إذا كانوا يعرفون مصلحتهم. وقال لوسائل الإعلام الرسمية: "بالنسبة إلى الذين فروا من سوريا إلى بلدٍ آخر، أتوسل إليكم ألا تعودوا أبدًا، لأننا حتى لو غفرت الحكومة لكم، فلن نغفر أو ننسى ما فعلتموه".

وفي حديثه في مقر إقامته، في دمشق، في تشرين الثاني/ نوفمبر، أكد المفتي السوري، أحمد بدر الدين حسون، وهو زعيم ديني قوي مُقرّب من النظام: "البوابات مفتوحة للجميع"، لكنه ينفي في الوقت نفسه، أن يكون عدد اللاجئين في أوروبا مرتفع كما يُقال، ويقول إنهم "فروا فقط بسبب الانتهاكات التي ارتكبتها جماعات المعارضة، وليس لأي شيء فعله النظام". ويضيف: "الأغلبية في أوروبا ليسوا سوريين بل يحملون جوازات سفر مزورة". ورفض وزير الخارجية السوري طلبنا إجراء مقابلةٍ معه.

يقول سكوت جيلمور، وهو محامٍ من مركز العدالة والمساءلة في الولايات المتحدة، الذي يحقق في جرائم الحرب في سوريا: إن "نظام الاحتجاز الجماعي والتعذيب لا يزال مستمرًا كما كان من قبل". ويتابع: "يتم إيقاف الناس بشكلٍ روتيني عند نقاط التفتيش، ومن ثَمَّ يتم اختطافهم.. لا تزال هناك أشكال من العنف السياسي، ولكن هناك بعض الهجمات والتي تُعد من الجرائم الشائعة".

وبالنسبة لسامي، فإن هذه التحذيرات جاءت متأخرة جداً. وبعد أيام من مقابلتنا، تم استدعاؤه للقتال في الصفوف الأمامية. في ذلك اليوم، سُمِعت في جميع أنحاء دمشق أصداء القصف العنيف على ضاحية جوبر التي تسيطر عليها المعارضة. إن قصة سامي التي رويت بصوت خافت في شارع مفتوح، بحيث يمكننا مراقبة ما إذا كان أحدهم يسترق السمع، أكدها الواقع المؤلم أنه لا يعرف ما إذا كان سينجو حتى نهاية الصراع. كان يلعن نفسه بسبب عودته إلى ما وصفه بأنه "آخر الحرب" – أكثر مرحلة خطراً في القتال حيث تحاول الحكومة استعادة بقية المناطق التي لا تزال خارج سيطرتها. وألح بقوة "أقول لكم لا تصدقوا أحدًا ولا ترجعوا. يجب أن تنتظروا وقتًا أطول".

 

اقرأ/ي أيضًا:

جدل في فرنسا: هل يعيب اللاجئ أن يسعى للحصول على الجنسية؟

اللاجئ السوري والحق في التعليم