22-أكتوبر-2019

باتت الذاكرة لعبة الطب الحديث (Foss Bytes)

مؤخرًا، استطاع بعض العلماء تعليم طيورٍ، أغانيَ بسيطة لم يسمعوا بها من قبل، من خلال تنشيط خلايا عصبية معينة في أدمغتهم باستخدام الضوء، مستندين على أصول علم البصريات الوراثية؛ فهل تغدو عمليات جراحة "الذاكرة" واقعًا؟

تمكن علماء من إثبات أن الذكريات موجودة في خلايا دماغية محددة جدًا، وأن تنشيط جزء صغير منها يمكن أن يولد ذكريات دائمة

نصيبٌ للفئران

في أحد الأيام الهادئة على معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، كانت إحدى مختبراته تضم فئرانًا على وشك أن تطرق باب الشهرة، فقد تمكن علماء بالمعهد من زرع ذكريات خاطئة في الفئران، من خلال معالجة الخلايا العصبية المسؤولة عن إنشاء الذاكرة، في سابقة تعد الأولى من نوعها، دخل بها هؤلاء العلماء إلى التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: الدماغ.. ساحة حروب المستقبل القريب

وباستخدام علم البصريات الوراثية، تمكن العلماء في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من إثبات أن الذكريات موجودة داخل خلايا دماغية محددة للغاية، وأن تنشيط جزء صغير منها يمكن أن يولد ذكريات دائمة.

استطاع الفريق تحديد خلايا الحصين المرتبطة بالمشاعر السلبية، وقاموا بتعديلها للاستجابة للضوء، ثم أجروا جراحة لإدخال ألياف بصرية في أدمغتهم من أجل تنشيطها.

وأُدخل كل فأر في صندوق زجاجي، حيث قضى الفأر نحو 12 دقيقة في استكشافه. وفي هذه الأثناء، كان الباحثون يحددون الخلايا النشطة لإعادة تنشيطها لاحقًا.

في اليوم التالي، وُضع الفأر في صندوق جديد، حيث تلقى صدمة كهربائية خفيفة في قدمه، ما دفع الفأر لتكوين ذاكرة خوف من الصندوق. ثم في اليوم الثالث، تم إرجاع الفأر للصندوق الأول، وهناك تجمد من الخوف، رغم أنه لم يتلق صدمة كهربائية هناك.

الذاكرة
استطاع علماء أن يزرعوا ذاكرة كاذبة في أدمغة فئران تجارب

أما عن احتمالية أن يخطئ الفأر الظن في الصندوقين، فهي مستحيلة في العادة، فقد أكد العلماء أن الصندوقين الأول والثاني كانا بشكلين ولونين ورائحتين مختلفتين، وهي العناصر الثلاثة الرئيسية لتكون الذاكرة.

وجد العلماء أن تنشيط خلايا الذاكرة السلبية في الجزء العلوي من الحصين، يُجرّد الفئران من مشاعرهم المؤلمة حول الصندوق. لكن وجدوا أن الموقع مهم؛ فتنشيط الخلايا السلبية في الجزء السفلي من الحصين جعل الذكريات السلبية أكثر وضوحًا.

لقد استطاع العلماء إفقاد الفئران ذاكرتهم، وزرع ذكريات زائفة، وهو الأمر الذي يهدف لتعلم كيفة التذكر والنسيان من أجل مساعدة الناس.

يرى العلماء أن علم البصريات الوراثي يمكن أن يساعد في معالجة أمراض، مثل اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب، عن طريق تنشيط الخلايا المرتبطة بالذاكرة الإيجابية أو الذاكرة المؤلمة، ثم إعادة كتابة محتويات هذه الذاكرة بطريقة أكثر علاجية.

ويرى الباحثون أنها مسألة وقت فقط، قبل أن يتم تطبيق هذه التقنية على البشر، بعد تملك الأدوات التكنولوجية اللازمة. لكن ماذا لو وقعت هذه الأدوات في يد الشخص الخطأ، واستخدمها لإزالة ذكريات أو زرع ذكريات جديدة لأغراض سيئة؟

يرى باحثو الدراسة أنه من الضروري بدء الحوار حول هذه التقنية التي يمكن أن تصبح متاحة بعد 40 أو 50 عامًا من الآن. ويمكن أن نتفادى هذه المشكلة الأخلاقية بقصر استخدام هذه التقنية لأغراض طبية وعلاجية وحسب، حيث يتم تطبيقها على مريض الاكتئاب، أو المحارب الذي يعاني من اضطراب ما بعد الصدمة.

فجراحة الذاكرة أمر لا مفر منه، بحسب الباحثين، لكن ما علينا مناقشته هو كيفية إتمام ذلك أخلاقيًا وبأمان. أليس من الإنساني تخفيف معاناة مرضى الخرف أو الاكتئاب، إذا كان التدخل في الذاكرة فعالًا وآمنًا؟

ويسعى الباحثون لرسم خريطة مفصلة لكيفية تكون الذكريات في الدماغ، وكيف تتغير بمرور الوقت، ومدى موثوقيتها أو عدم موثوقيتها، وما يحدث عندما نتعامل معها في سياقات مختلفة.

ماذا يقول علم النفس؟

يرى علماء النفس أنه لا يمكن الاعتماد على الذاكرة كما نعتقد، إذ يمكن تغييرها ويمكن التلاعب بتذكرنا للذكريات، وحتى يمكن تذكر مجموعة كاملة من الأحداث الخاطئة.

فتذكرنا للأحداث الماضية لا يمكن أن يؤثر على قراراتنا وآرائنا المستقبلية، وحسب بل يمكن أن يؤثر على نتائج أكثر أهمية، مثل أحكام المحكمة عندما تتأثر شهادات شهود العيان غير الدقيقة.

ويمكن أن نتذكر ذكريات لم تحدث، وإذا كانت هذه الذاكرة مؤلمة فيمكن أن تزعج الشخص بحيث تؤثر في قدرته على عيش حياة طبيعية.

وعادة ما تتشوه ذكرياتنا عندما نحاول تذكرها، على سبيل المثال تذكر هيلاري كلينتون خلال حملتها الرئاسية عام 2008 مواجهتها قناصة خلال زيارتها للبوسنة، لكن استنادًا إلى ذكريات الآخرين الذين ذهبوا معها للبوسنة، لم يحدث ذلك على الإطلاق.

 ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، تجربة أجراها عالما النفس الأمريكيان: إليزابيث لوفتوس وجون بالمر، حيث عرضا مقاطع فيديو مختلفة لتصادم سيارة على مشاركين مختلفين، بحيث شاهد البعض فيديو لتحطم السيارة عند سرعة 30 كم في الساعة، في حين شاهد آخرون الحادث عند سرعة 50 كم في الساعة، وشاهد البقية حادث التحطم عند سرعة 65 كم في الساعة.

الذاكرة
يمكن أن تحتال الذاكرة على الإنسان، وتُهيئ له ذكريات كاذبة

سئل المشاركون عن سرعة التصادم، لكن تم وصف التصادم في السؤال على أنه بسيط لبعض المشاركين، في حين وصف التصادم لمشاركين آخرين على أنه تصادم مدمر، وجد الباحثون أن الوصف المستخدم لوصف التصادم كان له تأثير أكبر على السرعة المقدرة أكثر من السرعة الفعلية للسيارة التي شاهدها المشاركون في الفيديو.

ما يعنيه هذا، أن طريقة صياغة الأسئلة يمكن أن تؤثر على تذكرنا للحدث، ما يخلق ذكريات زائفة عن طريق التلاعب في تذكر الأحداث الماضية عن طريق التوجيه الخاطئ.

بالإضافة إلى ذلك، تمكن باحثون في إحدى الدراسات من إقناع 25% من المشاركين بأنهم فُقدوا في أحد مراكز التسوق وهم أطفال. تشير إليزابيث، وهي خبيرة في الذاكرة البشرية كذلك، أن الذكريات الخاطئة المؤلمة، مثل الغرق أو التعرض للاعتداء الجنسي "يمكن غرسها في عقول البعض أيضًا".

ومن الأمثلة على كيفية احتيال الذاكرة، ما حدث عام 1990، عندما اتهمت هولي، البالغة من العمر 19، والدها جاري رامونا باغتصابها مرارًا وتكرارًا على مدار فترة طويلة. وعلى الرغم من إنكار الأب لهذه الاتهامات كافة، إلا أنه فقد وظيفته وزواجه وعلاقتها ببناته الأخريات.

يرى علماء النفس أنه لا يمكن الاعتماد على الذاكرة إذ يمكن تغييرها والتلاعب بتذكرنا للذكريات، أو حتى تذكر أحداث كاملة كاذبة

بُرّئ جاري، لكنه اتهم طبيب هولي النفسي بزرع ذكريات كاذبة عندما كان يعالج هولي من الشره المرضي. وعلى الرغم من منح جاري تعويضًا قدر بـ500 ألف دولار أمريكي عام 1994 في سابقة قانونية، إلا أن هولي ووالدتها أصرا على صحة ذكريات الإساءة الجسدية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

البيولوجيا التخليقية.. هل يستطيع الإنسان صناعة مخلوقات حيّة قريبًا؟!

هل تتحكم الوراثة في أقدارنا حقًا؟