14-يناير-2025
سوريا

(Getty) أطفال يحملون علم الثورة السورية في ساحة الأمويين بدمشق في 3 يناير

على مدى قرون، مثلت الإمبراطورية العثمانية نموذجًا لإدارة التنوع الديني والعرقي في سياق سياسي معقد، حيث تداخل الدين مع السياسة في صياغة العلاقات الاجتماعية والسلطوية. لم تكن الطائفية مجرد انعكاس لصراعات دينية، بل أداة سياسية ضمن نظام الدولة. وكما يشير بروس ماسترز، فإن نظام الملة كان ابتكارًا إداريًا ساهم في استقرار الإمبراطورية، لكنه أيضًا أسس لتراتب قانوني واجتماعي رسخ الهويات الطائفية ومنحها بعدًا سياسيًا طويل الأمد.

نظام الملة: آلية للتعايش بتفاوت متأصل

كان نظام الملة أبرز الابتكارات الإدارية العثمانية لإدارة التنوع. أتاح لكل طائفة دينية إدارة شؤونها الدينية والاجتماعية بشكل ذاتي محدود، مع بقاء الدولة ممسكة بالسلطة العليا. ولعب الزعماء الدينيون دور الوسطاء بين الدولة وأتباع طوائفهم، مما خفف الأعباء الإدارية على الدولة.

ورغم نجاح النظام في خلق توازن نسبي، إلا أنه أرسى تفاوتات عميقة. أهل الذمة، على سبيل المثال، خضعوا لقيود قانونية واجتماعية مثل دفع الجزية، مما عزز إحساسًا دائمًا بالتراتبية. وكما توضح كارين باركي، لم يكن النظام مجرد أداة للتعايش، بل وسيلة لترسيخ التفوق القانوني والسياسي للمسلمين. هذا التفاوت القانوني والاجتماعي ساهم في تكريس الطائفية ككيان سياسي منفصل، ما جعلها أداة للتفاوض مع الدولة وأحيانًا للهيمنة عليها.

استُغلت الطائفية كأداة سياسية لتعزيز السيطرة وضمان استقرار النظام عبر استغلال الانقسامات الدينية والاجتماعية

 أدى هذا التراتب إلى انقسامات طويلة الأمد بين الطوائف. فبينما وفرت الدولة مظلة للتعايش، فإنها أضعفت الروابط المشتركة التي يمكن أن تجمع رعايا الإمبراطورية في وحدة سياسية متماسكة. يرى البعض أن هذا النظام خلق شعورًا دائمًا بالعزلة بين الطوائف، مما أعاق تطور مفهوم المواطنة الموحدة.

الطائفية كأداة سياسية

استُغلت الطائفية كأداة سياسية لتعزيز السيطرة وضمان استقرار النظام عبر استغلال الانقسامات الدينية والاجتماعية. يوضح أسامة مقدسي أن الطائفية تجاوزت الصراعات بين الأديان لتشمل توترات داخل الطوائف نفسها، خاصة في ظل التدخل الأوروبي.

في سوريا ولبنان، ساهمت القوى الأوروبية في تعميق الانقسامات الطائفية. على سبيل المثال، دعمت فرنسا النشاط التبشيري الكاثوليكي لتعزيز نفوذها، ما أدى إلى خلق ديناميات جديدة من الصراع والهيمنة. إنشاء مجتمع كاثوليكي كبير في حلب بدعم فرنسي أدى إلى مواجهات مع الأرثوذكس المتحالفين مع البطريركية اليونانية. هذه التدخلات لم تكن عشوائية، بل خضعت لاستراتيجيات مدروسة لتقويض الولاء للدولة العثمانية وزعزعة استقرارها.

ساهمت هذه الاستراتيجيات في إعادة صياغة الهويات الطائفية لتصبح أدوات في يد القوى الخارجية. ومع تزايد اعتماد الطوائف على الدعم الأجنبي، ضعفت قدرة الدولة المركزية على فرض سلطتها، ما فتح المجال لتنافسات داخلية عنيفة. يشير هذا إلى أن الطائفية لم تكن مجرد أداة محلية، بل جزءًا من شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية.

الطائفية في ظل إصلاحات التنظيمات

هدفت إصلاحات التنظيمات (1839-1876) إلى تحديث الدولة العثمانية وتعزيز المساواة القانونية، لكنها كشفت عن تناقضات جوهرية. رحب المسيحيون بالإصلاحات كفرصة للخروج من الهامشية التاريخية، بينما رفضها المسلمون المحافظون معتبرين إياها تهديدًا للهوية الإسلامية.

في سوريا ولبنان، بلغ التوتر ذروته في مذابح 1860، التي عكست التداخل بين الدين والسياسة مع تدخل القوى الأوروبية. أظهرت المذابح عمق تعقيد العلاقة بين الطوائف والدولة، إذ أسهمت الإصلاحات في تعميق الانقسامات بدلاً من حلها، واوضح محدودية قدرة الدولة على معالجة الجذور العميقة للطائفية.

في سوريا ولبنان، ساهمت القوى الأوروبية في تعميق الانقسامات الطائفية، وهذه التدخلات لم تكن عشوائية، بل خضعت لاستراتيجيات مدروسة لتقويض الولاء للدولة العثمانية وزعزعة استقرارها

على الرغم من أن التنظيمات كانت تهدف إلى تقليص التفاوتات، إلا أن التنفيذ أدى إلى نتائج عكسية. فاستغلال الإصلاحات لتعزيز مكانة بعض الطوائف على حساب أخرى، عمق الإحساس بالظلم والتفاوت. بالإضافة إلى فشل الإصلاحات في معالجة التدخلات الخارجية، زاد من تعقيد المشهد الطائفي.

رغم نجاح نظام الملة في احتواء التنوع، إلا أنه ساهم في ترسيخ التفاوتات القانونية والاجتماعية التي كرست الهويات الطائفية ككيانات سياسية منفصلة. هذا النظام لم يكن مجرد آلية للتعايش، بل أداة لتهميش مفهوم المواطنة الجامعة. التراتبية التي فرضها النظام جعلت من الهويات الدينية أساسًا للحقوق والواجبات، ما أدى إلى تقويض فكرة المساواة القانونية والسياسية.

كذلك ساهم نظام الملة في إدامة شعور التبعية لدى الطوائف غير المسلمة تجاه القوى الخارجية. هذا الأمر جعل من الصعب تحقيق رؤية موحدة للمواطنة، حيث بقيت الهويات الطائفية منفصلة عن الهوية الوطنية.

الإرث الطائفي والدولة الحديثة

رغم نجاح نظام الملة العثماني في إدارة التنوع الديني داخل إمبراطورية متعددة الأعراق والأديان، إلا أن استنساخه في الدولة الحديثة يبدو مستحيلًا لأسباب جوهرية تتعلق باختلافات السياقات التاريخية و السياسية.

اختلف شكل الدولة الوطنية الحديثة عن سلفها الامبراطوري. فالدولة الحديثة تعيد صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع لتتطلب اندماج الجميع في إطار قانوني يستند الى فكرة "المواطنة المتساوية" قانونيًا وسياسيًا، وهذه الفكرة تجعل من المستحيل استنساخ نظام الملة ذو الهرمية التراتبية. يشير ألبرت حوراني في كتابه "الفكر العربي في عصر النهضة" إلى أن نظام الملة كان وسيلة لإدارة التنوع في سياق الإمبراطورية العثمانية متعددة الأديان، ولكنه ساهم في ترسيخ الفصل بين الطوائف على أسس قانونية واجتماعية. ورغم نجاحه في خلق توازن سياسي نسبي، إلا أنه أدى إلى إضعاف فكرة الوحدة الوطنية الجامعة لصالح هويات فرعية متباينة. يرى حوراني أن هذا النظام، مع فعاليته التاريخية، لا يمكن أن يتوافق مع متطلبات الدولة الحديثة التي تقوم على أسس المواطنة المتساوية والانصهار الوطني.

أحد أوجه نظام الملة هو السماح للطوائف غير المسلمة بالتواصل مع القوى الخارجية للحصول على الدعم أو الحماية. كما يشير ماسترز، كان هذا الترتيب مناسبًا للإمبراطورية العثمانية، حيث كانت السيادة مرنة نسبيًا. بينما تعتمد الدولة القومية الحديثة على مفهوم صارم للسيادة الوطنية، يمنع التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية.

رغم نجاح نظام الملة العثماني في إدارة التنوع الديني داخل إمبراطورية متعددة الأعراق والأديان، إلا أن استنساخه في الدولة الحديثة يبدو مستحيلًا

كان نظام الملة يعتمد على الطوائف لجمع الضرائب وإدارتها داخليًا، وهو نموذج ملائم لاقتصاد زراعي بسيط. أما الاقتصاد الحديث، فهو أكثر تعقيدًا ويتطلب إدارة مركزية لتوزيع الموارد والخدمات بشكل عادل.

في الإمبراطورية العثمانية، كانت الهويات الطائفية واضحة ومحددة، مما سهل إدارة التنوع ضمن بنية سياسية هرمية، أما في المجتمعات الحديثة، فقد أصبحت الهويات متداخلة ومعقدة، إذ لم تعد الحدود بين الديني والثقافي والسياسي واضحة، مما يجعل التقسيم الطائفي أقل فاعلية ومصدرًا للنزاعات.

يشير أسامة مقدسي إلى أن الطائفية الحديثة ليست استمرارًا بسيطًا لنظام الملة، بل هي نتاج لتفاعلات معقدة بين الديناميات الداخلية والخارجية، بما في ذلك تأثير العولمة وتغير طبيعة الدولة الحديثة. في هذا السياق، يقترح أمارتيا سن تعزيز هويات متعددة ومتداخلة للمواطنين كوسيلة لتجاوز الانقسامات الطائفية وتحقيق استقرار مجتمعي أكثر شمولاً.

نحو رؤية مستقبلية

في عالم تتزايد فيه التحديات المتعلقة بإدارة التنوع، تبرز الحاجة إلى نماذج جديدة تتجاوز الأنماط التاريخية التي كرست التفاوتات والصراعات. تتطلب هذه النماذج تحولًا جذريًا في التفكير والتخطيط لضمان تحقيق التوازن بين حماية التنوع وتحقيق الوحدة الوطنية. بدلاً من استنساخ نظام الملة، يمكن للدول الحديثة استلهام دروسه الإدارية مع تطوير نموذج جديد لإدارة التنوع يقوم على المبادئ التالية:

  •      

    تعزيز الشمولية: الشمولية لا تعني فقط تحقيق المساواة القانونية، بل تتجاوز ذلك إلى تعزيز الشعور بالانتماء المشترك. يجب أن تُبنى السياسات على احترام خصوصيات الثقافات المختلفة دون تمييز، مع ضمان حقوق جميع المواطنين. وتعزيز آليات الحوار المستدام بين الطوائف والمجموعات الثقافية هو مفتاح بناء الثقة والتفاهم المتبادل.

  •        

    تعزيز الهوية الوطنية الجامعة: الهوية الوطنية ليست نقيضًا للهويات الثقافية أو الدينية، بل يجب أن تكون مظلة تجمع الجميع. هذا يتطلب استثمارًا كبيرًا في التعليم والإعلام لتعزيز القيم المشتركة، مثل الاحترام المتبادل والتسامح. الهوية الوطنية الجامعة تساعد في تقليل النزعات الانفصالية وتعزز الشعور بالمشاركة في مشروع وطني مشترك.

  •      

    التوازن بين المحلي والمركزي: ينبغي أن تكون العلاقة بين الدولة والمجتمعات المحلية ديناميكية وقائمة على الشراكة. يمكن تحقيق ذلك عبر تمكين المجتمعات من إدارة شؤونها الثقافية والاقتصادية بشكل مستقل، مع الالتزام بسيادة القانون على المستوى الوطني. هذا التوازن يقلل من الشعور بالتهميش ويعزز الاستقرار الاجتماعي.

  •       

    معالجة التفاوتات الاقتصادية: التفاوتات الاقتصادية هي أحد الأسباب الرئيسية للصراعات الطائفية. تحتاج الدولة إلى وضع سياسات تضمن توزيعًا عادلًا للموارد وتوفير فرص اقتصادية متساوية لجميع الفئات. يمكن أن تشمل هذه السياسات دعم المناطق المهمشة وتطوير البنية التحتية فيها لتقليل الفجوات التنموية.

نحو نموذج جديد للتنوع

في سياق الإمبراطورية العثمانية، أظهر نظام الملة جانبًا مزدوجًا؛ فقد كان أداة للتعايش والاستقرار، لكنه في الوقت نفسه عمّق التراتبيات وأسس لتفاوتات اجتماعية وقانونية. ساعد هذا النظام في احتواء التنوع، لكنه أرسى أيضًا أسسًا للهويات الطائفية ككيانات سياسية متميزة، ما ساهم في تفاقم التوترات على المدى البعيد.

في الدولة الحديثة، يتحول التحدي إلى كيفية تحقيق التنوع الثقافي والديني في إطار العدالة والمساواة، بعيدًا عن التفاوتات المؤسسية التي قد تؤدي إلى النزاعات. وبينما يُعد استنساخ نظام الملة غير ممكن بسبب تغير السياقات السياسية والاجتماعية، يمكن استلهام دروسه المتعلقة بالمرونة الإدارية والتعددية المنظمة. هذه المبادئ تقدم للدول الحديثة نماذج لإدارة التنوع بطرق تحقق التوازن بين الحفاظ على الخصوصيات الثقافية وضمان حقوق المواطنة المتساوية، ما يسهم في بناء مجتمعات أكثر عدلاً واستقرارًا.

مع سقوط نظام بشار الأسد، تدخل سوريا مرحلة جديدة تتطلب معالجة جذرية للإرث الطائفي والسياسي الذي عمّق الانقسامات في المجتمع. المرحلة المقبلة تتطلب التركيز على بناء دولة وطنية حديثة تضمن العدالة والمساواة لجميع مواطنيها، بعيدًا عن أساليب التهميش والتمييز التي كانت سائدة في العقود السابقة، وهذا يتطلب إعادة بناء الثقة المجتمعية والقيام بإصلاح شامل للمؤسسات الحكومية لتكون عادلة وشاملة، بما يضمن تمثيلًا متوازنا للجميع دون تمييز.

في عالم تتزايد فيه التحديات المتعلقة بإدارة التنوع، تبرز الحاجة إلى نماذج جديدة تتجاوز الأنماط التاريخية التي كرست التفاوتات والصراعات

تحقيق الاستقرار يتطلب أيضًا إعادة إعمار شاملة تراعي احتياجات كل المناطق والفئات، مع إشراك المجتمعات المحلية في تحديد الأولويات عبر سبل الحوكمة المحلية والمشاركة في صناعة القرار.

في النهاية، يبقى تحقيق هذا الهدف مسؤولية جماعية تتطلب التزامًا طويل الأمد وجهودًا مشتركة بين القيادة السياسية، النخب الفكرية، والمجتمع المدني. بناء نموذج جديد لإدارة التنوع في سوريا بعد سقوط النظام السابق ليس مجرد استحقاق وطني، بل ضرورة لضمان مستقبل مستدام لجميع السوريين.