09-نوفمبر-2015

حسن بليبيل/ لبنان

على أحد مواقع التعارف في عام 2010، سألتني فتاة مغربية من أين أنت؟ فأجبتها أنا من سورية، فقالت لي مبتهجة: "جميل..! أنت من بلد طائفي إنني أحسدك"، وعندما سألتها مستغربًا، من أي زاوية تحسدينني تحديدًا قالت لي: "أنتم مجموعة من الطوائف تعيشون مع بعضكم ولكلِ واحدٍ منكم خلفية مختلفة لا أعتقد أنكم تشعرون بالملل أبداً"، ضحكتُ من فهمها لهذه القضية بهذا الشكل وأجبتها ساخرًا، إن كنتِ تقصدين هذه الزاوية، نعم، نحن طائفيون "للعظم".

الطائفية اليوم في منزلة القبلية قبل الإسلام، والثورة الحقيقية في منزلة الدين الجديد

ربما في وقتها لم يستوقفني كلام هذه الفتاة، فحينها لم تكن الثورة السورية قد بدأت ولم يكن قمع الهوية الطائفية واضحًا بالنسبة لي إلى هذا الحد، لكن ماذا لو فعلًا تلقفنا هذا المفهوم قلبًا وقالبًا، "نحنُ السوريين طائفيون حتى النخاع ويحق لنا أن نتباهى بهذا الجمال".

إذا دققنا في المفهوم السابق فسنجد أن الطائفية هي أبعد ما تكون عن الدين أو التدين، فالدين اصطلاحًا هو نمط فكري تؤمن به جماعة من الناس على اختلاف المذاهب وهذا الاختلاف من شأنه أن يحقق النمو الفكري الذي ساد قرونًا في عالمنا العربي وأوصلنا لأماكنَ لم يكن أبو لهب نفسه يستطيع تخيلها، يمكننا تشبيه أبي لهب هنا بتاجر الأزمة الذي كان يعتمد في تجارته على الصراع بين القبائل، لذلك كان من أشد المقاومين لفكرة الدين الجديد الذي سيوحد هذه القبائل ويوقف الاقتتال فيما بينها، ومن هنا تصبح الطائفية في منزلة القبلية، والثورة الحقيقية في منزلة الدين الجديد.

يمكنك أن تكون من طائفة عشاق ريال مدريد أو من طائفة عشاق برشلونة، فالطائفة هي انتماء لجماعة، وليس لمذهب يتميز أصحابه بمعايير تحدد هويتهم، فأنت قد تكون ملحدًا أو يساريًا أو مؤمنًا بالعلمانية لكنك بخلفيتك الاجتماعية تنتمي إلى جماعة السنة أو العلويين أو الشيعة، وفي دولة الاستبداد يسهل إعادة هذا القطيع إلى دوائره الاجتماعية الضيقة وليس الدينية، فليس كل من يقاتل باسم الطائفة يقاتل دفاعًا عن عقيدة بقدرِ ما هو يدافع عن مجموعته الاجتماعية التي صور له الاستبداد أن ما يحدث هو حرب من قبل الآخر لاقتلاعه، ثم ما يلبث الطرف الآخر "طائفيًا" أن يتلقف هذه الفكرة ويصبح لديه ما هو مقاومة لاستبداد حرب ضد طائفة وتصبح القضية قضية أكثرية طائفية وأقلية طائفية، وهذا بدوره يغذي التدخلات الخارجية لأنها الأسهل سبيلًا نحو ضرب مفهوم الحرية بكافة تجلياته، والأمثلة كثيرة في الثورة السورية.

مشكلة الهوية الطائفية أنها هوية قمعية، وإذا أردنا أن نقيس موجات الدماغ للعقل الطائفي فسنجد أنه مثبَّت على موجة "ألفا"، هذه الموجة التي تأخذ كل المستقبلات التي توجه إليها دون أي آلية للنقاش، وهي عادةً ما تُستعمل للتعزيز الإيجابي في العلاج السلوكي المعرفي، ولكن في الحالة الطائفية المعبأة غريزيًا يتم توجيهها سلبيًا من خلال الممارسات التي يقوم بها طرفي الصراع ويثبتُّها الإعلام غير المسؤول الذي يمكن النظر إلى صانعيه وناقليه على أنهم مجرمو حرب لا يختلفون عن أي مجرم حرب آخر، فيصل قاسم على سبيل المثال. 

وفي أغلب الأحوال تعتقد أن هذا التفكير هو تفكير بملء إرادتك، فقد تعرض هذا الدماغ إلى انتهاكات قوية من قبل الاستبداد فتعطلت آلية التفكير المدني لديه، وهذا تحديدًا ما يعيد الجميع إلى الطائفة الاجتماعية الضيقة التي ستصبح هويتها الطائفية متفوقة عشرات المرات على هويتها الوطنية.

تعرض الدماغ إلى انتهاكات قوية من قبل الاستبداد يعطّل آلية التفكير المدني 

من المفارقات التي يمكن استشفافها والتي قلما يتعلم منها الجميع، إن كان القطاع الجماهيري الواسع المُغيب معرفيًا أو حتى المحسوبين على فئة المتعلمين، من هذه المفارقات أنه خلال فترة سيادة النظام الإقطاعي لم يكن الإقطاعي المستبد يُفرق بين الطوائف فالجميع لديه عبد مأمور، لذلك حدثت ثورة الفلاحين المضطهدين بكافة أطيافهم ضد الإقطاعي المستبد، لأن ما كان يوحدهم هو الظلم الاجتماعي الذي كانوا يتعرضون له سواسية، ومع أن هذا الظلم لا يختلف كثيرًا عما يتعرض له الإنسان تحت سلطة نظام استبداد المؤسسات، إلا أن الطائفية لها من التأثير الغريزي ما يدفع الفقير والمضطهَد بأن يتحالف مع الغني المستبد الذي ينتمي إلى طائفته ضد أخيه الفقير والمضطهد من الطائفة الأخرى، وهو بالعموم يتحالف ضد مصلحته الشخصية من دون أن يدرك.

إن الطائفية، كمفهوم مشوه، يعتبر العدو الأكبر للديمقراطية والمدنية التي نحلم بها من أجل ممارسة كل نشاطاتنا الحياتية "المادية والثقافية والدينية"، والحل الأنجع للتخلص منها هو إيمانك المطلق بأن أي تفكير طائفي يصدر منك هو بسبب تعرضك لعملية قمع، وليس هنالك من يتمنى أن يبقى في حالة قمع ذاتي، وخاصةً أن هذا القمع يشير بأصابعه إلى زوالك بالمعنى المادي، وعلى الجميع أن يتذكر أن الثورات الاجتماعية هي عملة نادرة ونتيجة لاختمار العديد من الظروف القاسية الممتدة لسنوات، ومن المؤسف أن نضيع فرصتنا التاريخية هذه بنقيض الحرية التي خرجنا من أجلها ألا وهو القمع الذاتي، وفي النهاية الإنسان يولد نظيفًا وبريئًا من كل هذه التهم التي ألصقت به، فإن أردنا حقًا أن نكون طائفيين فدعونا نكون طائفيين بالطريقة التي تحسدنا عليها صديقتي المغربية، ولنا أن نفخرَ حينها بأننا أعظمُ شعبٍ مارس الطائفية حتى النخاع.

اقرأ/ي أيضًا:

الثورة السورية.. مسافة بين الجشع والحرية

مقدمات كردية لا بد منها