06-يوليو-2017

بيوتر كونشالوفسكي/ روسيا

أنا مجرد غابة. غابة صغيرة على طرف واد.. غابة غير مثيرة وغير جذابة.. غابة لا تثير سوى الحطابين ونقاري الخشب.

أنا مجرد غابة. بل لا أستطيع أن أجزم حتى أنني غابة حقيقية. الأشجار التي أدعي أنها تنتمي إلي، والتي أنا بالنسبة إليها وطن أرحب، هي مجرد أشجار نحيفة أغلبها متآكل الأطراف بسبب هجوم حشرات ضارية ونقاري الخشب، بحيث تبدو كظلال لأناس مصابين بالجدري يشرئبون بأعناقهم على المجهول.. أناس أشبه بفزاعات في حقول ذرة غير مرتبة الأرجاء بعد أن جفتها الأمطار وتخلى عنها الفلاحون...

أنا مجرد غابة إذن. أحيانا أشك في مقولة أنني غابة، وأحيانا أتخيلني فروة رأس لرجل قميء يجوب الطرقات والبراري. فروة رأس هي مجرد باروكة اصطناعية تم شراؤها من سوق الخردوات.
أكرر بشكل جاد هاته المرة أنني مجرد غابة: هل سأعتبر مسؤولة عما يحدث بداخلي؟ هل تعتقدون أن الغابة هي السبب في كل هذا الجنون الذي يحدث داخل الكون؟ هل سأعتبر مسؤولة عن جشع بعض السكان الثابتين لدي، أقصد الحيوانات طبعًا؟ هل سأكون مسؤولة عن أفعال بعض السباع الضارية التي لا تدخر جهدا في إثارة الرعب داخل سراديبي، فتخيف الحيوانات الأقل شأنًا منها؟ هل سأكون مسؤولة عن خبث بعض الثعالب الكريهة الرائحة ذات الذيول الشبيهة بسياط جلادين متقاعدين والمتروكين في العراء تحت رحمة أنياب ندم شديد القسوة؟

أنا مجرد غابة إذن.. تستطيع أن تجد بداخلي أي شيء.. تستطيع أن تجد بداخلي بعض المتعة مثلما تستطيع أن تجد بعض مفازات الألم.. هذا هو حال الغابات في كل بقاع العالم.. يتهم دوما مواطني بالجشع وينسى الجميع جشع الحطابين.

هل سنتعتبر بأن نقار الخشب أشد جشعًا من حطاب؟ ينسى الجميع إذن الحطابين الحاملين لأحبالهم المتسخة ولأحلامهم الموبوءة وأطماع القناصين بطواقم أسنانهم الحديثة الاستعمال حتى أنها تقفز من أفواههم كلما أرادو الحديث، مثلما تقفز ضفادع مشاغبة في بركة، أو على الأقل مثلما تقفز الرصاصات الأثيمة من بنادقهم.. ولكن لنتمهل الآن.. ما الذي سنتهمه بالإثم هل الرصاصات أم القناصين أم الغابة المغلوبة على أمرها؟

للمرة الألف أقول: أنا مجرد غابة.. مررت بتجارب كثيرة حتى تشمعت أمعائي وتصلب فؤادي ليتحول إلى أرنبة أنف شيطان. يجوب أرجائي يوميا ثلة من الحطابين وطالبي المتعة.. أحاول جاهدة تجاهلهم.. لكن ضربات فؤوسهم مؤلمة.. وأنين الأشجار يقطع أوصالي.. ترتع بي حيوانات شتى.. الحيوانات التي أصبحت أكثر شراسة وبعضها أصبح واهنًا وخنوعًا كالمودعين في المآتم والأسفار القديمة حيث كان يعتبر المسافر مفقودًا إلى أن يعود. الأسفار الحقيقية المليئة بالمغامرات والتي تحولت الى أسفار داخل غرفة بعد أن انتشر وباء غريب اسمه الفيسبوك. الجميع يمارس الآن أسفاره داخل الغرف المغلقة النوافذ والتي يتربع على عرشها الصهد والمكيفة أحيانًا.. غرف أشبه بعلب الأدوية... ولكن لنتكلم الآن بشكل جدي.. فأنا غابة على كل حال.. ولكنني لا أعدم حواسَ سليمة وإن كانت تنقصني ملكة العقل. لقد سمعت من بعض الصحافيين الأشباه وبعض الناس المحظيين المحصنين داخل بدلاتهم المستوردة والمكوية بعناية والآهلة بالإمضاءات، والتي لا تخلو ضرورة من قيود حريرية تسمى ظلمًا وبهتانًا ربطات العنق، لقد سمعت من أفواههم حديثًا غريبًا عن الضمير الأخلاقي، بل إنني أدعي أنني سمعت حديثًا عن الضمير الأخلاقي للغابات. لذلك فإنني سأطرح بعض الأسئلة التي أعتقد أن لا أحد سيستطيع الإجابة عنها: لماذا يتم الحديث عن الضمير الأخلاقي لغابة ويتم التغاضي عن الضمير الأخلاقي لحطاب؟ لماذا نوكل التهم لسباع وديعة وثعالب حالمة وننسى أن هناك قتلة حاذقين ومنافقين متأنقين وأفاقين بارعين ولصوصًا حداثيين، طوحوا بكل ما هو تقليدي في مهنة اللصوصية المحفوفة بالمخاطر، وهنالك أيضًا سارقو أحلام وباعة أوهام ومحترفو أكاذيب ورصاصو خديعة وبناة أرصفة المكر والقديسون المزيفون بملابسهم الفواحة برائحة العطور الرخيصة، ومزيفو السير الذاتية وحراس معاقل الآثام ومفسدو الأجواء ببخاخاتهم اليدوية الصنع، التي تنفث السموم كأفاعي الصحاري ومادحو القسوة وعشاق التنزه في أعالي الكراهية وناصبو ألغام في خطابات كتبها كتبة مأجورون، ومتسلقو جدران الشهرة والسلطة بدون زناة ورعاة مسابقات التلفزيون وقطاع الآمال والطموحات وبستانيو حدائق اليأس، وجامعو المصائد النادرة ومهرجو الخرجات الإعلامية ومنظمو البرامج الوطنية للتخييم في جزر النميمة، ورياضيو المارثون الدولي للثرثرة على الطرقات؟

لماذا يتخفى كل هؤلاء داخل ملابس متكلفة تصلح كأزياء لحضور الحفلات التنكرية؟ لذلك فإنني أعلن أنني مجرد حفنة أشجار نحيفة نادرة الاخضرار، أما الغابة الحقيقية فهي التي توجد خارج دائرتي. الغابة الحقيقية هي تلك التي توجد في مخيلات البعض التي تسكنها ظلمة مخيفة لا تضاهيها إلا ظلمة الكهوف والليالي الظلماء. الغابة الحقيقية هي تلك التي يحرص البعض على أن تبقى خزانا لظلالهم التي تخفي حقائبهم المليئة بالرياء والجشع. الغابة الحقيقية هي تلك التي تقف في طريق الكثيرين مانعة إياهم من التحرر من تركة الغطرسة والأنانية. الغابة الحقيقية هي تلك الأكمة التي لم نستطع جميعا تخطيها لنطل على فجر الإنسانية.

أين الغابة إذن؟ أليس العالم الآن مجرد غابة صغيرة توجد في طرف واد؟ هل قطع الإنسان كل هاته المسافات كي يصل إلى الغابة التي كانت هي البداية؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

فشلٌ في تلوين وجه الغربة

أغنية مسنونة