23-سبتمبر-2019

تعتمد الصين على التكنولوجيا فائقة الحداثة من أجل مراقبة المواطنين (رويترز)

بعد أكثر من نصف قرن على تأسيس جمهورية الصين الشعبية الحديثة، تتجه البلاد التي يقودها الحزب الشيوعي الصيني إلى مرحلة جديدة ستجعلها أقرب إلى سيناريوهات قصص الخيال العلمي التي ظهرت في مسلسل المرايا السوداء البريطاني، باعتمادها على التكنولوجيا الحديثة لقياس ولاء المواطنين للحزب الحاكم، وفرضها رقابًة صارمة من غير الممكن تجاوزها لاعتمادها كليًا على الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يجتاح العالم.

تعتمد الصين على الأمن الرقمي لمعرفة حجم ولاء المواطنين لفلسفة الرئيس بينغ في العصر الجديد من خلال قياس درجة فهمهم لتعاليم الاشتراكية التي يتبناها

ماوتسي تونغ.. مؤسس الصين الشعبية

يعرف ماو تسي تونغ (1893 – 1976) بأنه مؤسس جمهورية الصين الشعبية الحديثة بعد انتصار الشيوعيين في الحرب الأهلية الصينية ضد القوميين عام 1949. وقد أنجز تونغ خلال حياته مجموعة من المؤلفات التي لخص فيها رؤيته للفلسفة الماركسية اللينينية، تركّز مضمونها على أن الثورة الشيوعية لا يمكن أن تقوم فقط على الطبقة العاملة بل يمكن أن تنجح بمشاركة الفلاحين الذين شكلوا عصب الحزب الشيوعي الصيني، وأطلق لاحقًا عليها الفلسفة الماوية أو الشيوعية الماوية.

اقرأ/ي أيضًا: فهم الإستراتيجية الصينية عن طريق ثقافتها

تتلخص الفكرة الأساسية التي بنيت عليها الصين الشعبية في يومنا الراهن حول الفكر الماوي الذي يرفض القضاء على الرأسمالية، إذ يقول ماو تسي إنه "يجب السماح لجميع العناصر الرأسمالية في المدن والأرياف، والتي ليست ضارة بل نافعة للاقتصاد الوطني، أن تبقى وتتطوّر. وهذا ليس أمرًا حتميًا فحسب، بل هو ضروري اقتصاديّا. ولكن لا يمكن أن نترك الرأسمالية تبقى و تتطوّر في الصين كما هي الحال فى البلدان الرأسمالية حيث تطغى بدون قيود. فإن الرأسمالية في الصين سوف تقيد من عدة نواحٍ، من نواحي نطاق نشاطها والسياسة الضريبية وأسعار السوق وظروف العمل".

حتى يومنا الراهن لا تزال الصين تسير على الرؤية التي صاغتها الماوية لبناء الجمهورية الحديثة، والتي قام خلالها ماو تسي بإعادة قراءة الماركسية اللينينية لتتناسب مع الوضع الصيني، إذ إن فلسفته التي عكسها في خطاباته المؤرشفة كانت تشير دائمًا إلى عدم اقتصار التطوير على القطاع الزراعي، بل يجب أن يشمل القطاع الصناعي أيضًا حتى تتفوق الصين على الدول الغربية، ولعله يمكن للراغبين بالاطلاع أكثر على الفلسفة الماوية مراجعة النسخة الإلكترونية لكتاب "المساهمات الخالدة لماو تسي تونغ" لرئيس الحزب الشيوعي الثوري الأمريكي بوب أفاكيان الذي يلخص خلاله المسار الفكري للماوية الشيوعية.

شي جين ينهض على أنقاض الفلسفة الماوية

تنهض اليوم الصين الشعبية – بعد أكثر من نصف قرن من تأسيسها على يد ماو تسي تونغ – على فلسفة جديدة يقودها الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي كان والده من الأشخاص الذين  تعرضوا للتطهير خلال ستينات القرن الماضي عندما قاد ماو تسي ما عرف حينها بالثورة الثقافية للنيل من معارضيه داخل الحزب، وهنا تجدر الإشارة بأن الثورة الثقافية التي نشأت في ستينات القرن الماضي بالصين تختلف في مضمونها عن انتفاضة الطلاب الباريسيين في أيار/مايو 1968 نظرًا للخلط بين الحركتين.

أرسل بينغ في سن الـ15 إلى الريف للعمل في الزراعة لإعادة تثقيفه بناء على السيرة الذاتية لعائلته، وخلال تلك الفترة كان يرسل طلبات انتساب للحزب الشيوعي إلا أنها كانت تقابل بالرفض، إلى أن قبل أخيرًا عام 1974، وبدأ معها مرحلة الصعود إلى رئاسة الحزب متدرجًا من منصب مسؤول الحزب الأول في مدينة شنغهاي مرورًا بانتخابه عضوًا في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي حتى وصل لرئاسة الصين عام 2012.

وفي تشرين الأول/أكتوبر 2017 أصبح بينغ ثاني أقوى زعيم صيني منذ رحيل ماو تسي تونغ، بعدما صوت الحزب الشيوعي الصيني على ضم فكره في دستور الحزب، إضافة لتصويت البرلمان الصيني في آذار/مارس 2018 على قرار يلغي تحديد فترات بقاء رئيس البلاد في السلطة ما يخوله بالبقاء بالسلطة مدى الحياة.

تدريس فلسفة شي جين بينغ في الصين

ويعني ضم فكر بينغ لدستور الحزب إلزام تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات والموظفين في المصانع الحكومية دراسة فكر بينغ المتعلق بالعصر الجديد للاشتراكية بخصائص صينية إلى جانب أفكار ماو تسي تونغ، ويصنف العصر الجديد على أنه المرحلة الثالثة من تاريخ الصين الحديث، بعد المرحلة الأولى التي تشير لماو تسي، وجرى فيها توحيد البلاد بعد انتهاء الحرب الأهلية الصينية، وإشارة المرحلة الثانية لدنغ شياو بينغ المعروفة بمرحلة إثراء البلاد، وأخيرًا مرحلة بينغ التي تشير لتعزيز الوحدة والثراء وجعل الصين أكثر انضباطًا داخليًا وخارجيًا.

ترتكز المبادئ التي يقوم عليها فكر بينغ على مجموعة من النقاط تضمنها كتابه حول الحكم والإدارة الذي يحوي على مجموعة من الخطب والردود على الأسئلة ورسائل التهنئة ما بين عامي 2012 – 2014، يؤكد فيها على التمسك بالاشتراكية الصينية، وتحقيق حلم الصين بأن تصبح "أمة عظيمة" بتوحيدها مع هونغ كونغ وتايوان، وتعزيز جهود مكافحة الفساد وبناء النزاهة، ودفع التنمية الاقتصادية للأمام، وبناء دولة يحكمها القانون قوية اشتراكيًا وثقافيًا.

شي جين بينغ أو دولة "الأخ الأكبر"

يولي الزعيم الصيني الحالي اهتمامًا واضحًا بالتكنولوجيا الحديثة والأمن الرقمي لأنه "من غير أمن الشبكات لا يمكننا حماية الأمن الوطني، وبدون استخدام تكنولوجيا المعلومات لا نستطيع تحقيق العصرنة" كما يقول في إحدى خطاباته التي وردت في كتاب الحكم والإدارة، لكن اهتمام بينغ المتزايد بعصر التكنولوجيا والأمن الرقمي يحول الصين إلى دولة "الأخ الأكبر" التي تحدث عنها البريطاني جورج أورويل في روايته "1984".

ويأتي في هذا السياق ما نشرته صحيفة الغارديان البريطانية مؤخرًا بشأن اعتماد الصين على الأمن الرقمي لمعرفة حجم ولاء المواطنين لفلسفة بينغ في العصر الجديد من خلال قياس درجة فهمهم لتعاليم الاشتراكية التي يتبناها، فقد أشارت الصحيفة البريطانية إلى أن الهيئة المنظمة للإعلام في الصين أرسلت إشعارًا لأكثر من 12 مؤسسة إخبارية تابعة للدولة في بكين، تطلب من الموظفين الاستعداد للخضوع لاختبار في تطبيق tudy Xi للحصول على تجديد أوراق اعتمادهم كصحفيين.

وتضيف الصحيفة بأن الاختبار المزمع إجراؤه للصحفيين يأتي ضمن القيود التي تفرضها الحكومة على وسائل الإعلام الصينية، فضلًا عن زيادة الحكومة لقيود اللوائح المنظمة للإعلام الصيني والإنترنت، والتي تحد بموجبها من الوصول للمواقع الغربية، من ضمنها المواقع الإخبارية، فقد اقترحت الحكومة في تموز/يوليو الماضي مسودة لائحة بموجب نظام الرصيد الاجتماعي الصيني لمعاقبة المواطنين على نشر معلومات تسيء إلى القيم الاجتماعية أو تتسبب بآثار اجتماعية ضارة.

وكانت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية قد تحدثت في تقرير لها قبل عامين عن بسط الحزب الشيوعي الصيني سلطته على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد، عبر عمل قاده المتعاقبون على غرس الولاء المطلق لمبادئ الشيوعية في صفوف الشعب، باتخاذ إجراءات أمنية واسعة النطاق، من بينها توظيف أعداد كبيرة من الشرطة السرية لمراقبة الأفكار واستجابة الأفراد لخطط الدولة.

وتعمل الصين في الوقت الراهن على تطوير تكنولوجيا تسمح لها بمراقبة سكان البلاد البالغ عددهم 1.4 مليار شخص، من خلال اعتمادها على نظام يحتسب نقاط الأفراد من الأفعال الصالحة أو السيئة عبر قاعدة بيانات تعتمد على تقارير المخبرين اليومية، والفيديوهات المسجلة على 200 مليون كاميرا للمراقبة منتشرة في أرجاء البلاد، عن طريق نظام مراقبة للتعرف على الوجوه باستخدام الذكاء الاصطناعي.

وتتم معاملة الأفراد وفقًا لرصيدهم المحتسب من الأفعال الصالحة أو السيئة، ومن الممكن أن يتم تصنيف الأفراد بدرجات متدنية بسبب شرائهم أطعمة غير صحية أو تأخرهم في سداد القروض البنكية، أو حصولهم على تقييم سيئ في العمل وفقًا لنظام الائتمان الاجتماعي، أو عدم الالتزام بقواعد المرور والأنظمة العامة في الشارع، وفي حال نال الفرد تصنيفًا متدنيًا يجري حرمانه من بعض الامتيازات الوطنية أو بعض الحقوق بدرجة أدنى، مثل حرمانه من السفر جوًا أو الصعود بحافلات معينة أو الإقامة في أماكن معينة من العاصمة.

اقرأ/ي أيضًا: كيف يعيد الذكاء الاصطناعي إنتاج القمع السياسي في العالم؟

وتحظر الصين على مواطنيها استخدام مواقع التواصل الاجتماعي الأمريكية، إلا أنها تسمح لهم باستخدام WeChat الصيني، الذي يجمع مواقع التواصل، وتطبيقات الهواتف الذكية، وأنماط الدفع الإلكتروني، وغيرها من التطبيقات المشابهة، ما يسهل عليها مراقبة المواطنين نظرًا لاستحالة إنشاء حساب شخصي عليه ما لم يدخل المستخدم البيانات الحقيقية التي يتوّجب عليه مشاركتها مع الأطراف الأخرى، أو الرأي العام في الحالات الاستثنائية، وعادة ما تستخدم المحاكم الصينية محتويات المراسلة  عبر التطبيق كأدلة حتى لو كانت محذوفة دون الحصول على إذن مسبق من المستخدم.

تتم معاملة الصينيين وفقًا لرصيدهم المحتسب من الأفعال الصالحة أو السيئة، حسب نظام تكنولوجي، ومن الممكن أن يتم تصنيف الأفراد بدرجات متدنية بسبب شرائهم أطعمة غير صحية أو تأخرهم في سداد القروض البنكية

وكانت وسائل إعلام صينية قد نشرت في آذار/مارس الماضي تقريرًا تحدث عن استخدام الحكومة الصينية لطائرات مسيّرة على هيئة طيور للتجسس على المواطنين، على الأقل في 5 ولايات ذات كثافة منخفضة، وأشارت إلى أنه تم تصميم طائرات صغيرة على شكل حمائم، لتتحرك مثل الطيور مع أجنحة ترفرف، وتحمل معها كاميرا صغيرة ترسل الصور إلى وحدات التحكم الخاصة بها، وإلى جانب كاميرات المراقبة تحمل الطائرات هوائيات ربط للبيانات، وأجهزة تعقب، وأنظمة تحكم بالطيران.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما سبب الحظر الجديد على روايات جورج أورويل في الصين؟

سباق واشنطن وبكّين.. العيش في المستقبل