17-يناير-2022

كاريكاتير لـ هاليت كورتولموس أيتوسلو/ تركيا

كيف يمكن قراءة رسائل الإعلانات التجارية لتطبيقات على السوشيال ميديا تدعونا لإدارة الجوع عبر خطوات بسيطة توصلنا إلى الصورة الأمثل لجسدٍ معاصر؟

يقول الإعلان، وهو واحدٌ من عشرات، إنّه خلال خمسة أيام تبدأ النتيجة بالظهور وتحصل على صورة العضلات التي طالما حلمتَ بها. إنه الصوم المتقطّع. كل ما عليك فعله هو أن تتّبع الوصايا التبشيرية التي وضعها الناصحون به. ما عليك سوى البدء بتنزيل التطبيق الحكيم ودفع ما يترتب ثمنًا لتحقيق حلمك. الحلم الذي رآه المبشِّرون عنك. كيف لك أن تتعامل مع تلك الدعوة إذا كنت من الناجين للتو من المجزرة المفتوحة في لبنان، أو أنك من أي بقعة يطالها الجوع في العالم؟ كلّما أمعنت في خطوات إدارة الجوع المحكي عنه في التطبيقات المنْزلة، راح تفكيرك صوب الجوع المسكوت عنه، الجوع الذي تديره الأنظمة والمؤسسات والجمعيات والأندية الدولية. جوع الأجساد التي لا تأبه بالصورة المثالية تلك، ولا تحلم كما أراد لها صنّاع الجوع، بعضلات تقرّبها من صورة المانيكان البلاستيك في واجهات المتاجر.

كيف يمكن قراءة رسائل الإعلانات التجارية لتطبيقات على السوشيال ميديا تدعونا لإدارة الجوع عبر خطوات بسيطة توصلنا إلى الصورة الأمثل لجسدٍ معاصر؟

اقرأ/ي أيضًا: العطب وسيلة تعايشنا مع الفقد

تعمل المؤسسات المختلفة بطريقة تكاملية من أجل تحقيق حلم الأجساد المثالية وبناء جنة الأجساد الناجية من السمنة. توزّع فيما بينها الأدوار. بعضها يأخذ على عاتقه الترويج الدعائي لصورة الجسد المثالي. فيكاد لا يمرّ يوم دون أن تصادف هذه الصورة النمطية: اللوحات الإعلانية على الشوارع تفيض بتلك الصورة، الإعلانات المرئية والمسموعة كذلك، البرامج التلفزيونية والمنتجات الغذائية المرصوفة على رفوف السوبرماركت.. كذلك تجدها مجسّدة بالمارّة الذين تصادفهم على رصيف مقهاك المعتاد وأنت تهم لالتهام قطعة حلوى دون أي ذنب تجاه تلك الصورة. والبعض الآخر راح يستثمر بالصورة مصانعًا لإنتاج الأغذية الملائمة لها، فيما كان البعض قد وجد طريقه إلى أجسادنا عبر أدلجة التغذية، ووضع أساليب التدخل ومناهجه مستفيدًا من كل ما سبق.

يتقدّم البعد الإستاتيكي على الأبعاد الصحيّة أو الأهداف المرجوّة من اتباع الحميات الغذائية. هناك صورة حاضرة على الدوام يجب اللحاق بها. فالمؤسسات التي عملت على ترويجها مهّدت بذلك الطريق عبر رفع شأن هذه الصورة لتصبح أكثر من حلم منتظر. لقد رفعت الصورة بدلالاتها الى مستوى المعيار الذي يسمح بتفحّص أجسادنا ومقارنتها مع خصائص الصورة الجائعة. الصورة التي ستكون مرجع المتخصصين في شؤون التغذية. أو بالأحرى لمن نصّب نفسه مرشدًا على الأجساد ليدير جوعها ببرامج أُعدّت للجميع. التطبيق متاح للجميع ولا فضل لعربي على أعجمي إلا بالحمية.

على ألا يُفهم من حديثي هنا أنه هجومًا على علم التغذية وأربابه، أو أن يؤخذ الحديث إلى نقاشات حول أهمية هذا المجال أو عدمها أو انتقادًا لمتتبعي الحميات الغذائية، فالهدف من الحديث بناء استفهام يطال أساليب التغذية وصورها وبداهة التسليم بها. فإذا كانت حجة الناصحون ب "العيش الصحّي" لإقناع المريدين بإتباع الحميات الغذائية الموصى بها، دون أن نعلم ما هو معيار العيش الصحي، لماذا يتم الإحالة إلى الصورة الجمالية التي تم ضخ المليارات في سبيل ترسيخها كقيمة اجتماعية أكثر من الاستناد إلى معايير صحيّة؟ عندما يصبح للجوع المحكي عنه اقتصادًا بحاله تديره مؤسسات هائلة، فمن يدير الجوع المسكوت عنه؟ ما الذي يجمع بين الجوع المتعمّد جوع الأفراد، وبين جوع الجماعات الناتج عن سوء توزيع الثروة؟

إن الجوع المندرج ضمن عوالم التغذية الحديثة وبرامجها جوع مفتعل نتسبب به لأنفسنا، يتطلب منا الإيمان بهؤلاء الأنبياء الجدد في بداية تبشيرهم، هؤلاء الناصحون العارفون بمآلات الأجساد وصورها. لا تنفك الأغلبية منهم عن الإرشاد خدمةً لصورة الجسد الرشيق. تلك الصورة التي تُشكِّل حجةً للتدخُّل بأجسادنا. لا أحكي هنا عن الأجساد التي تسعى للجوع المفتعل بغية تصحيح خللها أو اعتلالها أو عدم انتظام وظائفها، بل عن أجساد آمنت بمقولات التبشيريين وصورهم، أو إذا أردت المجازفة بالقول: الأجساد الضحية لصنّاع الجوع. لقد بات الجوع صناعة لها فنونها واقتصادها أيضًا. كما باتت إدارة الجوع نوبات "ترند" متتالية ما أن تنتهي موضة الكيتو حتى تبدأ نوبة الصوم المتقطِّع، وهكذا دواليك حتى أصبحت التغذية أداة تدخل في أجسادنا لا يراد الصحّة منها دائمًا، بقدر ما يراد منها الصورة: صورة الجسد الذي يعرف كيف ومتى يجوع. كيف إذا جاع أو أكل راكم الثروة في مكان ما.

الكلام عن الجوع الذاتي وإدارته لا ينفصل عن الصمت عن الجوع الجماعي الذي يديره النظام الدولي وممثليه من شخصيات عالمية ومؤسسات دولية وأنظمة رديفة ومصانع وجيوش

الكلام عن الجوع الذاتي وإدارته لا ينفصل عن الصمت عن الجوع الجماعي الذي يديره النظام الدولي وممثليه من شخصيات عالمية ومؤسسات دولية وأنظمة رديفة ومصانع وجيوش. الجوع الجماعي المفروض هنا له أيضًا صوره وأساطيره المؤسسة، كأسطوة ندرة الغذاء وغيرها من أساطير تُعين النظام الرأسمالي في إدارة الجوع على مستوى العالم. فخرافة الندرة التي بيّنها فرانسيس مور لابيه في كتابه صناعة الجوع تلعب دورًا أساسيًا في إدارة الجوع داخل الدول والجماعات. وفي سياق متصل أتذكر تمامًا كيف عملت الجمعيات غير الحكومية على مشاريع، بميزانيات هائلة على الزراعات البديلة التي لا تساهم في سد احتياجات الجماعات المستهدفة. بدلًا من التدخُّل في تحسين إنتاج الزراعات الأساسية. مثلًا نجد زراعة الفستق الحلبي في البقاع وما آلت اليه من فشل وبقي المهمّشون خارج "التنمية المنشودة". بقوا داخل برامج إدارة الجوع. ولا يكتفي مديرو الجوع بتوحيه الزراعات لا بل إن شركات محدودة تسيطر على سوق البذور في العالم، البذور المُعدّلة جينيًا والتي تتميز بقدرتها على تدمير نفسها في الموسم الثاني من استخدامها. هذا التحكُّم لم يعد سرًا ولا مؤامرة. فالكيلو الواحد من بذور البندورة يتجاوز سعره كيلو الذهب. هكذا تكون إدارة الجوع الجماعي.

اقرأ/ي أيضًا: كيف نصنع سلطة ونخضع لها؟

عندما تُضخ المليارات في صناعة الغذاء "البديل" وتركيب الصورة النمطية للجسد، وتخصيص مؤسسات كبيرة لإدارة الجوع عند الأفراد وإنتاج كل ما يتطلب بيعه لذلك، ووصل البائع بالمستهلك ورغباته وعاداته ويومياته بكافة تفاصيلها، وعندما يبدأ المخبرون الجدد بتقديم تقارير رقمية عنا وجعلنا المُنْتَج والمستهلك في الوقت عينه، لا تكون الحميات الغذائية هذه برامجَ لتأمين سلامة أمننا الغذائي ولا لتوفير الصحة، بل تغدو دعوة لترشيد استهلاك الطعام وتوجيهه من قبل صنّاع الجوع على غرار دعوة إيلون ماسك لترشيد استهلاك الطاقة، وهو يراكم كل طاقات العالم في حساباته البنكية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العيش في زنزانة الوباء

القيامة في آب