17-سبتمبر-2016

الشرطة الصومالية أثناء اعتقالها متعاطفين مع شباب متعاطفين مع تنظيم القاعدة Photo credit should read TONY KARUMBA/AFP/Getty Images

اختراق وانتصار

الاختراق الذي تحقق على حساب سلطة الفساد والانتهازية، في حكومة حسن شيخ محمود بالصومال، بإطلاق سراح الباحثين الخمسة من طاقم مركز مقديشو للبحوث والدراسات، لم يكن بعيدًا عن الحقيقة اعتباره انتصارًا للثقافة العربية في الصومال، وانتصارًا للمثقفين المؤمنين بالمبادئ الإنسانية المتمثلة بالحرية والحقوق الأساسية، كما كان انتصارًا للكتّاب والناشطين الوطنيين الذين سموا بأنفسهم، فوق الانغلاق العصبي والتحيز القبلي، وتجاوزوا نمطية الركون إلى السلامة، وتعالوا على حالة الخوف التي زرعتها أجهزة الأمن، بأساليبها الملتوية ونشر الإشاعات، لتفت في عضد عشرات الكتّاب ممن أرادوا التضامن مع زملائهم بفاعلية أكبر، هكذا وبعد ثمانية وأربعين يومًا مرت منذ الاعتقال غير القانوني لخمسة عاملين في مركز مقديشو للبحوث والدراسات حصل المعتقلون على حريتهم في السادس من سبتمبر 2016م، رغم مماطلة الجهات الأمنية في استكمال ردّ ما تم الاستيلاء عليه من مستلزمات عمل المركز، وتجميد الحساب المصرفي للمركز، والحسابات الشخصية للمعتقلين حتى الآن.

إنّ المستوى المتدني للعمل السياسي في البلاد، يجعل المجال واسعًا أمام الكثيرين من غير ذوي الأهلية والكفاءة في تولي المناصب

أسباب الاعتقال المعلنة

كانت المهزلة الحقيقية ما دأب قسم "الأمن الفكري" من وكالة المخابرات والأمن الوطني الصومالية "NISA"، في نشره من إشاعات حول المركز والقائمين عليه، نعم لقد قلتها "الأمن الفكري" في بلد لم تعمل حكومته على تحقيق "أمن غذائي" أو "أمن ماديّ" أو حتى "أمن فعلي"، والعاصمة "مقديشو" ذاتها مرتهنة لتفجيرات إرهابية تطال مسؤولي الدولة، غير القادرين على التحرك خارج عرباتهم المصفحة المصحوبة بمرافقات من القوات الأفريقية، أو فرق المرتزقة الصوماليين "الملثمين" التابعين لأجهزة أجنبية، تدرّبهم وتدفع رواتبهم.

اقرأ/ي أيضًا: المرتزقة الجدد.. الجيوش الخاصة والنظام العالمي

وعلى الرغم من بؤس الإشاعات التي نشرها عناصر "الأمن الفكري" في شبكات التواصل الاجتماعي، والإرهاب النفسي الذي مارسوه على كثيرين ممن أظهروا بوادر التعاطف مع زملائهم من الكتّاب والباحثين الصوماليين باللغة العربية، فإنّ سذاجة الإشاعات وإثارتها للسخرية كانت مدعاة لاشتداد الحملة المؤيدة لتحرير الباحثين وردّ حقوقهم الإنسانية لهم، من الحرية الشخصية إلى حرية العمل، وردّ ممتلكات المركز الذي تم نهبه بحجّة "التحفّظ" على محتوياته لحين انتهاء التحقيقات!

إشاعات طريفة!

وقد يكون من أطرف الإشاعات التي وردت، اعتبار مركز مقديشو للبحوث والدراسات، "عميلًا" لدولة عربية معينة، والغريب أن "وكالة الاستخبارات والأمن الوطنية" لم تنتبه أن ذلك البلد العربي، هو من يتكفّل بتكاليف الرحلات المكوكية للرئيس الصومالي "حسن شيخ محمود" نفسه، وأن ذلك البلد العربي أيضًا يسدد كامل رواتب قوات الجيش وقطاعات الأمن، ويُشرف على تدريب الكوادر الأمنية والدبلوماسية الصومالية!

إلّا أن ما أثار السخرية حقيقة، وجعل الضحك رديفًا لاسم "وكالة الاستخبارات والأمن الوطنية/NISA"، ما أشاعه قسم "الأمن الفكري" العتيد، من أن المركز وباحثيه متورطون، في محاولة "انقلاب" يخطط لها ذلك البلد العربي ضد "حسن شيخ محمود"، بتاريخ العاشر من سبتمبر هذا العام، ولم ينتبهوا إلى أن الرئيس العالة "حسن شيخ محمود" والمنتهية ولايته، ليس بالرجل القوي "رجب طيب أردوغان"، كما أظهرت جهل "طحالب NISA" بأنّه لتقوم بانقلاب عسكري يجب أن يكون هناك جيش، ولولا تسديد البلد العربي المتهم بتدبير الانقلاب، لاستمر البضعة عشر ألف رجل -و هو عدد الجيش الصومالي-، لاستمروا في قطع الطرق وترويع سالكيها من المدنين، ليجمعوا منهم إتاوات يسددون بها احتياجات أسرهم، إضافة إلى ما ينفقونه على إدماناتهم!

اقرأ/ي أيضًا: الدول العشر الأكثر خطرًا على النساء في العالم

أسباب الاعتقال الحقيقية

أظهرت محاولة استغلال عناصر من قسم "الأمن الفكري" لشبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، لنشر الإشاعات والأخبار غير الصحيحة، مع غياب تام لأي تصريح رسمي من قبل NISA أو وزارة الداخلية أو وزارة العدل، حول وجود دواعٍ قانونية لاقتحام عناصر الأمن مركز مقديشو للبحوث والدراسات، واعتقال العاملين فيه ومصادرة محتويات مقر المركز، أظهر كل ذلك أن الدوافع التي أدّت لذلك الإجراء التعسفي المخالف للقانون، كان نابعًا من تحرّك شخصي كان يهدف إلى استغلال الدولة ومقدراتها، لصالح فرد أو فردين من المتسلقين الذين سبق وأثبتوا فشلهم وعدم جدارتهم، إلّا أن العجز الحكومي الحاصل، والرغبة الجامحة لدى "حسن شيخ محمود" في إعادة انتخابه مهما كان الثمن، ساقه إلى أن يصبح أداة في أيدي أولئك الأشخاص، الذين تمكنوا من إيهامه بولائهم في حين أنّهم استغلّوه في تثبيت مواقعهم على حسابه، في سلوك يوضح بجلاء، عدم اكتراثهم بفوزه في الانتخابات القادمة.

كما أنّ محاولة تدمير موقع "تكايا"، بعد سعي بعض العناصر المحسوبة على قسم "الأمن الفكري" لتمرير أخبار كاذبة عبره، وكانت محاولة التدمير تلك ردًا على امتناع رئاسة تحرير الموقع عن نشر تلك الأخبار، وهو ما سلّط الضوء على ما كان يتم الإعداد له منذ فترة من قبل أحد عناصر الأمن الناشطين في أوساط الكتّاب بالعربية، والذي سبق له وأسس مركز دراسات بدعم من بلد عربي، إلّا أن فشل مشروعه السابق دفعه للقيام بتأسيس مركز دراسات جديد، بدعم أطراف خارجية بدوره، وقيامه خلال الفترة الماضية بتمرير مقالات مناوئة للدولة باستخدام أسماء مستعارة، زرعها كحصان طروادة في موقع "مركز مقديشو للبحوث والدراسات، مستغلًا سقف الحرية العالي الذي تقدمه إدارته للكتاب فيه، وكان تمرير تلك المقالات تمهيدًا لإزاحة المركز الذي حقق موقعًا مهمًا بين نظرائه على قصر مدّة عمله، عبر اقتحامه واعتقال العاملين فيه ونهب محتوياته وغلقه إلى غير رجعة!

رسائل مهمة

لقد بدا جليًا من خلال سير قضية اعتقال الباحثين العاملين في مركز مقديشو للبحوث والدراسات، وما تم اكتشافه والكشف عنه، أنّ المستوى المتدني للعمل السياسي في البلاد، يجعل المجال واسعًا أمام الكثيرين من غير ذوي الأهلية والكفاءة في تولي المناصب، كما أن عدم استقرار الوضع السياسي والأمني في البلاد، لا يمنح من في السلطة ما يكفي لامتحان ولاء "عديمي الكفاءة" المحيطين به، والذين يتقدمون في السلم الوظيفي، تلقائيًا نظرًا لنمو مؤسسات الدولة التي يُعاد بناؤها، ناهيك عن مساعي الخبثاء المعتادين على سلوك الطرق الملتوية في التسلق إلى أعلى، دون أن يضعوا في الاعتبار مقتضيات القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية، بل عابثين بالمصير السياسي للقادة الذين تم إيهامهم بولائهم لهم، في الوقت الذي يسعى الواحد من أولئك إلى تدمير كل شيء في سبيل البروز وحيدًا على قمة الهرم، ولو أدّى ما يقوم به إلى إحداث الضرر والدمار بالبنية السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو القيمية الهشة في البلد!

التضامن ثم التضامن

لقد أثبت حجم التضامن الذي تحقق للعاملين في مركز مقديشو للبحوث والدراسات، إمكانية تحقيق ما أشاع استحالة حدوثه ذيول NISA، وصدقه الكثير من المتخاذلين، وقد يكون حجم التعاضد الذي أظهره كتّاب صوماليون عائدون لمعظم أقاليم القومية الصومالية، ومن كل انتماءاتها القبلية والعشائرية والفكرية، واستمرار التعبير عن رفض السلوك المتعسف للدولة، ممثلة بقسم "الأمن الفكري" الذي تجاوز كل الخطوط الحمراء، وجرّت وكالة المخابرات الصومالية والقصر الرئاسي معه إلى ذلك المأزق، لقد أثبت كل ذلك أنه بالإمكان عبر الضغط والاستمرار في الضغط، يمكن تحقيق ما اعتبره المتخاذلون والمخذلون مستحيلًا، ومما لا شكّ فيه أن الدعم الذي قدّمه كتّاب ومثقفون عرب وأفارقة ومن مناطق وقارات أخرى من العالم، ومساهمتهم التي تزايدت في المرحلة الأخيرة في دعم التوقيع على العريضة المقدمة لمنظمة العفو الدولي، وصدور التقرير الأممي الذي كشف عن حجم التجاوزات التي وقعت فيها حكومة "حسن شيخ محمود"، كل هذا اضطر القصر الرئاسي "فيلا صوماليا"، إلى اعتبار الباحثين في مركز مقديشو للبحوث والدراسات، عبئًا سياسيًا ثقيلًا قد تكون له فاتورة عالية، سيعجز "شيخ محمود" عن دفعها، أمام الاستحقاق الرئاسي الذي أصبح على الأبواب، فقد حمَّل "الأمن الفكري" حسن ما لا يطيق!

اقرأ/ي أيضًا:

الصومال بين حزم ورعد وغياب

أسوأ 6 جوازات سفر في العالم.. صنعتها أمريكا

الصومال.. حين استعادت "العمامة" مكانتها