22-نوفمبر-2015

لوحة استشراقية للرسام والرحالة الإيطالي جوليو روزاتي

الصور النمطية هي مجموعة من التصورات الذهنية المشوهة التي تعمل على هدر غنى الواقع بقصد تبسيطه أو مسخه بقصد تبرير العدوان عليه. فالزعيم وفق الصور النمطية لأنصاره فوق النقد والمساءلة حتى لو أدت ممارساته اليومية إلى تحويل حياة الملايين إلى جحيم. متقشف وعصامي رغم أنه يستحوذ على ثروة أمة بكاملها. أب وحامٍ ومتواضع مع أنه لا يألو جهدًا في السيطرة على حيوات الآخرين والحط من شأنهم.

الزعيم، وفق الصور النمطية، لأنصاره فوق النقد والمساءلة حتى لو أدت ممارساته إلى تحويل حياة الملايين إلى جحيم

في كتاب "الاستشراق" يكشف لنا إدوارد سعيد تعمد الباحثين والرحالة والأدباء الأوروبيين، منذ القرن السابع عشر، على تصنيع صورة نمطية سلبية عن العربي والهندي بقصد تهيئة الأرضية النفسية عند سكان الدولة الأوروبية لتبرير عملية العدوان على هذه الشعوب، والسيطرة على مواردها بقصد توظيفها لمصلحتهم الشخصية. الهدف الحقيقي من وراء أي سلوك استعماري هو رغبة القوي بسرقة فائض إنتاج الضعيف، لتمويل عملية تطوره الاقتصادي ورفاهيته الاجتماعية على حساب جهود وموارد الآخرين، الذين تم إخضاعهم لشروط العمل العبودي. 

جزء حقيقي من ثروة أوروبا في الزمن الاستعماري عملية إثراء غير مشروع، تمت بوسائل عنفية شديدة القسوة كان في مقدمتها الاحتلال العسكري. نابليون المسلح بالمدافع والبارود والنار لم يأت إلى مصر ليحرر أبناءها من قبضة الحكم المملوكي الفاحش القسوة، بل ليعلن نفسه ملكًا متوجًا يطالب رعاياه بالطاعة. فيما قلبه ويداه يتطلعان إلى نهب العالم الذي تقف عليه قدماه. لم يحضر مطبعته من أجل تعليم أبناء مصر الكتابة والقراءة، وإنما لتصل أوامره الإمبراطورية إلى كل كفر ونجع، كي يسهموا بحصتهم في غنى فرنسا ومجدها.

يجادل إدوارد سعيد في الاستشراق أن الصور النمطية التي صاغها الرحالة والأدباء الأوروبيون لعبت دورًا كبيرًا في تغذية خيال صناع القرار الأوروبيين في غزو مصر والهند. بدءًا من تصوير مصر كمنطقة صحراوية خالية من السكان، تحتوي على كل الموارد الضرورية لتحويل أراضيها البكر إلى جنة أراضيها غاية في السحر والروعة. فيما وقائع الأمر الواقع تفيد أن كل المناطق المصرية حتى الواحات النائية منها، كانت عامرة بالبشر الذين لم يكفوا يومًا عن ترويض قسوة الطبيعة التي لا ترحم ليجدوا لهم مكانًا يليق بكرامتهم.

الصورة النمطية الأشد تعسفًا في الأدب الاستشراقي هي تصوير الشرقي في حالة الشخص الذي لا يستمتع بوجوده البشري إلا إذا كان عبدًا عند سيد، كما لو أن العبودية جين أو صفة فطرية يمكن أن تلحق بالفرد عبر الولادة، يا لها من صورة وحشية تلك التي يتم تقديمها عنه من أجل تبرير الممارسات العنفية ضده!

اتهم مجموعة من الباحثين الغربيين سعيد بأنه قد ساهم في خلق صورة نمطية سلبية عن كل الرحالة والأدباء الأوروبيين الذي تحدثوا عن الشرق، حين اتهمهم بخدمة المشروع الإمبريالي، بقصد أو بدونه. وقد أخذوا عليه عدم التمييز بين أعمال الشاعر الألماني غوته الذي فتن بالشرق دون أن يقوم بزيارة واحدة له، ودون أن تكون له أي علاقة بأية مؤسسة غربية ذات نزوع استعماري. وبين أعمال المؤرخ أرنست رينان صاحب التصورات العنصرية. السر وراء تشكل الصور النمطية يكمن في طبيعة العقل البشري ذاته الذي يستسهل إطلاق الأحكام بعد المرور بعدد قليل من التجارب الشخصية. 

تأتي الصور النمطية من طبيعة العقل البشري الذي يستسهل إطلاق الأحكام بعد المرور بعدد قليل من التجارب الشخصية

تنشأ الصورة النمطية التي نكونها عن الآخر أحيانًا كجزء من موقف ثقافي عام. كما في موقف أبناء المجتمع الذكوري من المرأة، الذين لا يوفرون جهدًا لتقنين سلوكها الجنسي ضمن مؤسسة الزواج الذكورية، كي يضمنوا لأنفسهم آليات الهيمنة والسيطرة عليها. لذلك لا يجدون غضاضة في الحط من فعاليتها الاجتماعية عبر تصويرها كإنسان "ناقص عقل ودين"، رغم امتلاكها كل صفات الإنسان المنتج والفاعل.

 في كثير من الأحيان يتم خلق صور نمطية عن الآخر من أجل الحط من شأنه، كما في موقف الإعلام الأمريكي من العربي الذي يصر على تصويره كشخص نهم، يجلس فوق بئر نفط يتسرب من الأرض دون عناء، بينما يقوم العربي الكسول بحرمان الآخرين منه أو التحكم في تدفقه وأسعاره. الصور النمطية التي يتم تكوينها عن الآخر غالبا ما تتصف بالتبسيط والاختزال، لذا فإنها تهدر الواقع وتفقره رغم الغنى والتنوع والاختلاف الذي يخترقه. إنها تتعمد وضع الناس والأفكار والأحداث في قوالب عامة جامدة، من أجل التحكم في توظيفها على نحو عنيف أو عدواني ضد الآخر المختلف. هي مظهر من مظاهر الظلم في هذا العالم، ووجودها واستمرارها يهددان بانفجار الكثير من الصراعات في وجه مروجيها وضحاياها على حد سواء.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الفناء للعالم.. الخلود لتعز..!

الإرهاب.. دورة حياة المفهوم