13-ديسمبر-2018

خلال تظهير صور فوتوغرافية (pinterest)

دخلا المنزل الريفي، الفارغ تقريبًا من محتوياته، باستثناء أغراض لم يستطيعا بيعها ولا يرغبان الاحتفاظ بها. فتحت أمل الشقيقة الكبرى لحسام نافذة غرفة المعيشة، التي تطل على باحة الدار، تفرعت شجرة مشمش يابسة في الوسط، وألقت بظلالها الخجولة على الأرض الإسمنتية، وفي الأنحاء توزعت أحواضَ نباتات كانت زهورًا من قبل. ثم تجولت في أرجاء المنزل الصغير باسطةً يدها على كل ما يمكن أن تلمسه، كالجدران والأبواب.

هل تعدين لنا القهوة ريثما أصعد إلى السقيفة؟! سأل حسام

وضعت أمل الركوة على الغاز، وفنجاني قهوة على صينية من البلاستيك

هل وجدتَها؟!
أجل، مدّ يده حسام بالحامل لها، فأخذته وأسندته إلى الجدار، ثم أعطاها الكاميرا الملفوفة بأكياس النايلون.
عثرتُ في الزاوية على صندوق أسود، هل تعرفين ما هو؟!

أجابت أمل بالنفي

يبدو ثقيلًا بعض الشي، كيف لم نره من قبل؟!

أنزل حسام الصندوق بصعوبة كاد أن يفقد معه توازنه، وهو يهبط درجات السلم الخشبي، حمله إلى أرض الدار، جلسا على كرسيين ووضعت أمل القهوة فوق طاولة مدورة صغيرة.

أشعل حسام سيجارة ونفث الدخان بعمق، طرف بعينه إلى الصندوق الأسود، وعشرات الاحتمالات تتسابق في ذهنه.

ألم تقلع عن السّم الهاري هذا؟ إن صدرك ينفث كمدخنة
عندما تنتهي الأحداث سأقلع
لن تنتهي، أبشرك بهذا

شرعا في احتساء القهوة بصمت، كان حسام يود تقديمَ عرض أخير لأخته، فأعاد تنسيق العبارات في دخيلته مراتٍ عدة ليؤثر بها ويقنعها، لديه رغبة عارمة في الاحتفاظ بكاميرا والده، إنه لا يستطيع التفريط بها، وسيعرض عليها إعطاءها المبلغ الذي ستبيعها به، إنما بالتقسيط، إلا أن الظنون راودته والشّك بموافقتها اعتراه، لقد عرض صديق زوجها عليها مبلغًا من المال لقاء هذه الكاميرا القديمة، والتي تعتقد بأنها أثرية، فوافقت، ولا سيما أن المنزل المعروض للبيع لم يطأه أيُّ زبون محتمل حتى الآن، فقرروا إيجاره، وحتى ذلك الحين، لن تنتظر أمل المبلغ الزهيد الذي سيقسّم بينها وبين حسام، وهو بأمس الحاجة إلى النقود أيضًا لاستكمال جامعته. أما أمل فتعمل جاهدة على توفير مبلغ من المال، حتى يتسنى لزوجها السفر إلى تركيا، ومن ثم إلى أوروبا. كانت تخاف عليه من استدعاء احتياطي إلى الجيش يزجه في قتال مع فصائل المعارضة، والحرب في أوجها.

لأجد ما يحطّم قفل الصندوق 

عاد حسام من المطبخ بمفتاح غاز، وضرب القفل بتوال إلى أن تحطم، فتح غطاء الصندوق على مهل، تثيره رغبة في أن يجد أحد صناديق علي بابا أمامه، لا بد وأنها رغبة سخيفة أفضى الشاب لنفسه، لكن كل الصناديق المغلقة تثير تلك الشهوة.

مرت ثوان حتى أدرك ما بداخل الصندوق، قفزت أمل إلى جانب شقيقها، وجثت على ركبتيها، ثم شهقت بصوت ممزوج بالمفاجأة والخيبة.

*

 

كان يوسف لا يزال شابًا يافعًا عندما افتتح أستوديو التصوير، وأعده على أكمل وجه وحسب ذوقه، علّق على جدران ركن الاستقبال العديد من الصور، كان قد التقطها في مناسبات مختلفة، لأصدقائه وأقربائه ولمناظر طبيعية وجدها خلابة، كما أضاف سلالًا متفرقة من الزهور البلاستيكية الملونة. وعلاوة على ذلك فإن أكثر ما يميز أستوديو يوسف للتصوير، تفتقه عن فكرة لم تخطر ببال أحدهم، على حد قول يوسف. فقبل أسبوع ذهب إلى سوق البالة، حيث تباع بضائع أجنبية مستعملة بأسعار زهيدة، واشترى عدة فساتين مبهرجة وبمقاسات مختلفة، واشترى أيضاً زنانير وثلاث برنيطات. ثم ذهب إلى نوفوتيه صادفه في طريقه، وانتقى روج أحمر فاقع وآخر زهري صارخ، وبعض أقلام الكحل الأخضر والأزرق إذ أن الريفيات تفضلانها.

علّق الفساتين، بعد أن جعل والدته تغسلها وتكويها، على حامل في غرفة التصوير، وإلى جانبها وضع الزنانير وعلى رف البرنيطات، وأمام المرآة وضع أدوات الزينة.

لم تبق في القرية امرأة أو شابة إلا وارتدت أحد هذه الفساتين، وتزينت ببرنيطة، وصبغت شفتيها، لتأخذ لنفسها صوراً فوتوغرافية، وذاع صيت الأستوديو في القرى المجاورة، فكن يأتين لعنده بدل النزول إلى المدينة. كان حدثًا احتفاليًا بالنسبة له دخول ثريا وشقيقتها لالتقاط الصور، فثريا أجمل فتيات المنطقة، بشرتها بيضاء حليبية، عيناها عسليتان ضاربتان إلى الخضرة، وشفتاها ورديتان ممتلئتان.

أدخلهما يوسف إلى غرفة التصوير، وطلب منهما أن تستدعياه بعد أن تنتهيا من تجهيز نفسيهما، انتقت كلٌّ منهما الثوب الذي سترتديه، وهمّتا بالتزين، بينما دخل يوسف إلى غرفة التحميض التي يفصلها جدار عن غرفة التصوير.

لقد أعد يوسف كل شيء بمهارة ودقة، فقد وضع على الجدار الفاصل لوحة كبيرة لكاميرا كوداك في غرفة التصوير، وعند عدستها كان هناك ثقب، من ورائه عدسة لكاميرا حقيقة تقع في غرفة التحميض، ومن خلال عدسته الخفية راقب ثريا بشكل خاص، وبوعي مشدوه وتام، كيف تخلع ثوبها القديم، انحناءاتها، ملابسها الداخلية، افتتن بذراعيها البيضاوين والضوء ينعكس عليهما، شعرها الكستنائي الحريري، اتسعت حدقتاه، وتسارعت نبضات قلبه مع كل حركة تقوم بها ثريا، انتبه إلى وحمة صغيرة ناعمة أعلى نهدها الأيسر، ثم انتقل بنظره إلى نهديها الرابضين خلف القماش القطني الأبيض، وتمعّن في سروالها الداخلي الطويل يشد عند وركيها، ويرسم مثلثًا صغيرًا أعلى فخذيها. تناولت ثريا، بأصابعها الرفيعة، قلمَ الكحل ورسمت خطًا أخضرَ داخل عينيها، ومدته حتى الأطراف، ثم أخذت الروج الأحمر ومدته على شفتيها، ثم زمتهما وبسطتهما، فسرت الرعشة في جسد يوسف، وشعر بالنشوة تصل إلى أقصاها، وانتابه دوار خفيف من اللذة.

خلال سنوات جمع يوسف مئات الصور التي التقطها خفية، وخبأها في الصندوق الأسود، وفي بعض الأمسيات، كان يغلق على نفسه من الداخل وينظر إلى هذه الصور بمتعة ونشوة ناقصتين.

*

 

أثارت أمل زوبعة من الجنون في الدار، حاول حسام تهدئتها، وفكرت بأنها لن تسامح والدها على فعلته هذه، لقد شعرت بالخيانة، مثل رمح مسموم أصاب قلبها وانتزعه من داخل صدرها، صورة والدها العزيز، المحترم والرقيق تحطمت الآن إلى أجزاء صغيرة. أخذت حامل الكاميرا وضربته بالحائط، ثم حملت الكاميرا لتحطمها، فانتزعها حسام من بين يديها في لحظة خاطفة، فصرخت به:

أتدري ما الذي سيحدث لو أن أحدهم عثر على هذه الصور؟!
اهدَئي، ألا تجدين أنك تبالغين قليلًا؟!
أبالغ؟! إنك لن تفهم، هذا الرجل أكثر شخص أحببته على وجه الأرض

سارعت إلى المطبخ، وضع حسام الكاميرا في حقيبة ظهره بسرعة وأغلقها، عادت أمل بالكاز، سكبته داخل الصندوق، وأضرمت النار.

حملت حقيبة يدها وخرجت مع أخيها إلى الطريق، تذرع حسام بنسيان هاتفه المحمول في المطبخ، وطلب منها أن تسبقه إلى الموقف. هرع حسام  إلى الدار وسكب الماء في الصندوق لينقذ ما يستطيع إنقاذه، رمى بالصور إلى الأرض، وبحث عن صور ناجية، سحب إحداها، وتأملها، كانت لفتاة حسناء، بيضاء كالثلج، في ثياب داخلية، وشعرها كستنائي طويل، وعيناها عسليتان ضاربتان إلى الخضرة، اتسعت حدقتاه وهو يتأمل شفتيها الممتلئتين المزمومتين وأصابعها الرفيعة تحمل أحمر الشفاه، وتلك الوحمة الصغيرة الناعمة تربض أعلى صدرها الأيسر، تسارعت دقات قلبه، وشعر بخدر لذيذ يسري في جسده.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

الطريق إلى برلين

مشاهدات امرأة من تحت الأنقاض