05-مارس-2018

غلاف الكتاب

إنّ نص الفيلسوف جاك دريدا (1930 - 2004) الذي ننشره هنا ما هو إلّا مقتطف من كتاب "الصَّفْح، ما لا يقبل الصفح وما لا يتقادم" الذي صدر عن "منشورات المتوسط" بترجمة مشتركة لكلّ من مصطفى العارف وعبد الرحمن نور الدين.

يفكّك دريدا في هذا النص أطروحات الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكليفيتش، الذي طرح في كتابيه "الصفح" و"ما لا يتقادم" إشكالية الصفح بحدّة يتعصّب فيها للانتقام، على خلفية فظائع المحرقة النازية، ما جعله يرى الوعي الألماني كلّه مذنبًا وشقيًّا.

يقلب دريدا الصفح على وجوهه، ويرى أن مفاهيم مثل الغفران والتوبة والعفو والاعتذار والندم؛ مفاهيم لا تستقيم مع الصفح، ولهذا يرى استحالته رغم إمكانيّته، وإمكانيته رغم استحالته. هكذا سيرى أنّ الصفح الحقيقي يمكن في تحويل ذلك المستحيل إلى ممكن.


لكي يكون هناك مسرح للصَّفْح، ينبغي ألا تكون تلك الفعلة، وألا يكون ذلك الحدث كفعلة مُجرّد حدث فقط، شيء ما يحدث، حادثة محايدة، ولا شخصية. ينبغي بداية أن تكون هذه الفعلة قبيحة، فعلة قبيحة، فعلها شخص اتجاه شخص ما، وشرّ، وضَرَر يُورّط فاعلًا مسؤولًا وضحية. بتعبير آخر، لا يكفي وجود حدث ماض، حادثة أو حتّى محنة لا رجعة فيها، لكي يتوجّب الاستصفاح أو الصَّفْح. إذا كان زلزال ما، منذ قرن، قد دمّر ساكنة، أو ابتلع مجتمعًا، إذا كان هذا الماضي شرًّا ماضيًا، حادثة يُرثى لها إلى أقصى الحدود، ويتعذّر الشّكّ فيها، لا أحد سيفكّر مع ذلك في الصَّفْح، أو في الاستصفاح من أجل هذا الحدث الماضي، من أجل هذه "الحادثة" – إلا إذا افترضنا تضمّنها لتصميمٍ مُؤذٍ مَا، أو قصد خبيث.

حقّ العفو، حقّ تخفيف أو استبدال عقوبة مجرم ما، هو من بين حقوق الحاكم، الأكثر حساسية لأنه يضيف القدر الأكبر من اللمعان إلى عظمة وسمو الحاكم

 أودّ أن أقول دون مهلة للراحة ولا رحمة، إنه لا ينبغي أبدًا هنا كما في أماكن أخرى صرف النظر عن التمييز، وعن الفصل أيضًا. إن تحليل "الصَّفْح"، وتحليل كلمة "صَفْح" لا ينتهي. مجدّدًا، إذنْ، ينبغي التمييز، ليس فقط بين الثأر والمعاقبة، وإنما أيضًا بين العقاب أو المعاقبة والحقّ في المعاقبة، ثمّ بين الحقّ في المعاقبة بصفة عامة وبين حقّ المعاقبة القانوني، الشرعية الجنائية. وبإمكان حنّه آرندت أن تقول أيضًا إن الصَّفْح لفظ متلازم "للعقاب" دون أن نستنتج مع ذلك وجود بعد قانوني بالضرورة. المثال المجسّد بامتياز، أقول تجسيد، لصَفْح مطلق وسيادي كحقّ في الصَّفْح، بِعَدِّه حقّ معاقبة، هو حقّ العفو الملكي. بالطبع، فَبَيْن الصَّفْح والعفو (مثلما يكون الأمر بين الهبة و"الرحمة"، "رحمتي التي يكون فرد ما تحتها")، يوجد توافق يأتينا من تاريخ، لا يسبر غوره، من تاريخ ديني وروحي، سياسي، ثيولوجي سياسي، يجب أن يكون في قلب تفكيرنا. إن التقييد الوحيد للصَّفْح في القانون، وفي التشريع القانوني، هو بدون شكّ حقّ العفو، حقّ ملكي من أصل ثيولوجي – سياسي لا يزال قائمًا في ديمقراطيات عصرية، وجمهوريات علمانية مثل فرنسا، أو ديمقراطيات شبه علمانية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يحظى حكّام الولايات والرئيس (الذي يؤدّي اليمين على الإنجيل) بحقّ سيادي في "العفو" (علاوة على ذلك، تستعمل اللغة الإنجليزية في هذه الحالة الكلمة نفسها "pardon" المستعملَة في اللغة الفرنسية).

اقرأ/ي أيضًا: جاك دريدا.. مراثي النقّاد

 إن حقّ العفو الملكي المذكور، والسيادة العظيمة المذكورة (وهي سيادة مشتقّة من حقّ إلهي) تضع حقّ الصَّفْح فوق القوانين. إنه بدون شكّ الميزة الأكثر سياسية أو الأكثر قانونية لحق الصَّفْح كحقّ معاقبة، ولكنه أيضًا ما يُحْدِثُ انْقطاعَ نظامِ القانوني – السياسي في القانوني – السياسي عينه. إنه الاستثناء من القانوني- السياسي داخل القانوني-السياسي. لكنْ، ومثلما الأمر دائمًا، هذا الاستثناء وهذا الانقطاع سياديان، يؤسّسان ذاك عينه الذي يَسْتبعِدان ويُسْتَثْنَيَان منه. كما الأمر دائمًا، يكون الأساسي مستبعَدًَا أو مستثنيًا من البنية ذاتها التي يؤسّسها. منطق الاستثناء، منطق الصَّفْح كاستثناء مطلق، كمنطق استثناء لا نهائي، هو ما سيكون موضوع تأمّلنا من دون توقّف. لا ينبغي للمرء أن يكون قادرًا على قول عبارة "صَفْحًا!"، على طلب أو منح الصَّفْح إلا بكيفية استثنائية إلى أبعد حدّ. وعلاوة على ذلك إذا كنّا نصغي إلى كانط (كما سينبغي لنا أن نفعل غالبًا، وخاصّة فيما يتعلّق "بالشّرّ الجذري")، إذا أصغينا إليه بخصوص حقّ العفو، وبالضبط في كتابه عقيدة الحقّ (الجزء الأول من ميتافيزيقا الأخلاق)، في أثناء معالجته للقانون العام، وبداخله لحقّ المعاقبة والعفو(مدخل إلى § 50 والصفحات الموالية)، يحتفظ ما يقوله كانط لنا بمدى كبير، بمجرّد ما ننقله إلى الصَّفْح. إنه يقول لنا بالأساس ما يلي: إن حقّ العفو (ius aggratiandi, Begnadigungsrecht) حقّ تخفيف أو استبدال عقوبة مجرم ما، هو من بين حقوق الحاكم، الأكثر حساسية، الأكثر انزلاقًا، الأكثر مفارقة (das schlüpfrigste). إنه يضيف القدر الأكبر من اللمعان إلى عظمة وسمو الحاكم، إلى السيادة (وسيكون لزامًا علينا التساؤل عما إذا كان يجب أن يكون الصَّفْح "سياديًا" أم لا). لكنه يشكل من هنا أيضًا، بالنسبة للحاكم مخاطرة إتيان الظلم، التصرّف بشكل جائر (unrecht zu tun) في أعلى درجة. لا شيء يمكن أن يكون أكثر ظلمًا من العفو. ويضيف كانط هنا تحذيرًا أساسيًا. إنه يضع حدًّا داخليًّا لحقّ عفو الحاكم: لا يمتلك هذا الأخير، ولا ينبغي أن يكون له بأيّ حال من الأحوال، حقّ منح العفو من أجل جريمة مقترفة، لا تستهدفه هو بالذات؛ لا ينبغي أن يمتلك حقّ العفو من أجل جرائم، يقترفها أفراد الرعية ضدّ أفراد آخرين- وبالتالي من أجل جرائم، تتمّ بين مَنْ هم أيضًا أغيار، بالنسبة له. لأن إسقاط العقاب (impunitas criminis) سيشكل أكبر ظلم اتجاه الرعايا.

لا ينبغي أن يمارس حقّ العفو - وبالتالي حقّ الصَّفْح - إلا في حالة جريمة ضدّ الحاكم ذاته

اقرأ/ي أيضًا: ميشيل فوكو.. المنظور الفلسفي للسلطة

لا ينبغي أن يمارس حقّ العفو - وبالتالي حقّ الصَّفْح - إلا في حالة جريمة ضدّ الحاكم ذاته، جريمة المساس بشخص الملك (crimen laesae maiestatis) وفي هذه الحالة أن يمارس الحاكم حقّه في العفو إلا بشرط أن لا يشكّل هذا الأخير بأيّ وجه من الأوجه خطرًا على رعاياه. وبحصرنا إيّاه بصرامة، يكون هذا الحقّ هو الوحيد المستحقّ لاسم الجلالة، ولاسم حقّ الجلالة (Majestätsrecht).

 

اقرأ/ي أيضًا:

ما بعد الحداثة كبروباغندا للأنظمة

الحياة العاطفية للفلاسفة