31-أغسطس-2020

كاريكاتير لـ E L E N A . ospina/ كولومبيا

خرجت الشعوب العربية على أنظمتها السياسية الحاكمة طلبًا للعدالة والحرية، لكن هذه الشعوب انحرفت أو خضعت خلال ثوراتها لضغط النخب الثقافية الاجتماعية المسيطرة تاريخيًا التابعة للأنظمة السياسية: رجال الدين، الفقهاء، أبواق الصحافة والاعلام، الفنانين.. بل خضعت هذه الشعوب الثائرة أيضًا لضغط قيم اجتماعية متأصلة في وجدان العربي أينما كان، فبدا أنّ تحالف السلطات الاقتصادية الاجتماعية الثقافية ينتصر على الشعوب ويضغط لصالح السلطة السياسية الحاكمة، أو يوافق على إسقاطها دون أي تغيير في بنية باقي السلطات، أو دون أي تغيير في القيم المتوارثة التي هي عائق حقيقي أمام إنجاز الإسقاط الكامل للأنظمة واستبدالها بأنظمة جديدة أفضل وأرقى.

يأتي الصراع الجندري ضمن الصراعات الكبرى المستحقة عربيًا، فهو لذلك حق وضرورة لكونه صراعًا فطريًا وكونيًا عابرًا للزمن والمجتمعات

يأتي الصراع الجندري ضمن الصراعات الكبرى المستحقة عربيًا، فهو لذلك حق وضرورة لكونه صراعًا فطريًا وكونيًا عابرًا للزمن والمجتمعات. وهو تاريخي وراهن ومستقبلي. وهو ربما يكون أضخم من الصراعات السياسية، لذلك يؤكد وجوده بين الفينة والأخرى على شكل نزاعات شخصية ضيقة وفردية، وهو ما يمكن أن يكون في "لا وعي الحياة الجمعي" تنفيسًا مؤقتًا عن ضغط الحمم المتراكم عبر أربعة آلاف عام من قهر ذكوري للنساء، لكن هذه "التنفيسات" هي أيضًا تعبير عن انفجار القهر السياسي الاقتصادي الذي يمارسه نظام عصابة على شعب.. وربما تؤدي إلى تهميش الصراع الأساسي مؤقتًا، الذي هو الصراع مع النظام السياسي الاقتصادي المافيوي الحاكم، الذي تعمل عليه نخبة الثورة والمعارضة لهذا النظام.

اقرأ/ي أيضًا: إشكالية التمثيل والوصاية.. هل يستطيع التابع أن يتكلّم؟

صراع جندري ضمن الاستعصاء السوري الطويل

تطفو على السطح بين يوم وآخر سجالات على خلفية خصومات فردية شخصية أو جماعاتية هي خصومات عادية، وأغلبها عفوي، تحدث في كل زمان ومكان وظرف وبيئة، لكن لأسباب متعددة يبدو أن العادي يصبح غير عادي أو استثنائي، ويصبح الشخصي عامًا.

إن تداول أي نزاع شخصي وتحويله إلى قضية رأي عام يحوله للأسف إلى نزاع عام علني عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وربما ينتقل النزاع الى وسائل الاعلام فتكبر ندفة الثلج لتصبح كرة، وربما انهيارًا ثلجيا.. هكذا تسلب فطرية وبراءة العفوي والعادي اليومي لصالح شحنه بطاقة شر عفوي غير منضبط، أو شر قصدي موجّه فاعل بقصد احداث أكبر اذى عام ممكن

وتحويل النزاع الشخصي (بين زوجين أو حبيبين أو صديقين) أيًّا يكن هذا النزاع وأيًّا تكن أدواته كلاميةً أو جسديةً، تحويله الى قضية رأي عام ربما يمنع حل النزاع الشخصي الأصلي (مع أن العكس هو المفترض، فهذه إحدى إدوار مؤسسات الرأي العام، المغيّبة -أي دور الإصلاح والحل- سوريًّا وعربيًّا). الأمر الذي يمكن أن يولد نزاعات شخصية تشبهه لأن من طبيعة البشر أن يتأثروا بما تتناقله تلك الوسائط والوسائل الاخبارية الاجتماعية، وفق مبدأ الانعكاس (المبدأ الذي تعمل وفقه كل الإنتاجات المرئية للسينما والتلفزيون لغاية صناعة جمهور بقيم وأولويات محددة مسبقًا. وهذا موضوع آخر).

عكس ما يفترض بنخبة مثقفة صاحبة قضية وتدافع عن شعب، ويفترض بها أن تعيش في المنفى متلاحمة أو متعاونة، يظهر خطاب، فيسبوكي على الأقل، علاماته التوتر والتشظي والتشفي والهدم، خطاب مأزوم منحرف عن أولوية الصراع ما بين شعب ونخبة ثورة والنظام.

هو خطاب هدم نخبة الثورة إذا اعتبرنا أن مثقفي وإعلاميي وأطباء ومهندسي وفناني وكتاب سوريا المعادين والمعارضين للنظام هم نخبة أو طبقة أو قطاع بشري يتحمل مسؤولية الصراع، ومسؤولية إسقاط واستبدال النظام الاستبدادي القهري.

عكس ما يفترض بنخبة مثقفة صاحبة قضية وتدافع عن شعب، ويفترض بها أن تعيش في المنفى متلاحمة أو متعاونة، يظهر خطاب علاماته التوتر والتشظي والتشفي والهدم

تحويل الصراع مع الخارج- النظام الى صراع مع داخل يؤدي إلى اصطفاف جديد وانقسام بيني داخل نخبة الثورة على أساس جندري هذه المرة: نساء - رجال.

اقرأ/ي أيضًا: مسودة في نقد النسوية

يصبح لدينا صراع جديد تعمل عقولنا ونفسياتنا وفق متطلباته عبر آلية: التكتل التحفيز الهجوم. وفي النهاية فوز فريق أو سقوط الفريقين والعودة الى المربع الأول.

يفترض في الصراعات البينية داخل النخبة أو الطبقة، لاسيما الصراعات المعلنة عبر وسائل التواصل، أن تضبطها مجموعة مبادئ أو قيم عامة بدهية، وأهمها ان الصراع مع العدو-النظام هو الأولوية ومسموح فيه جميع "الأسلحة".

أما الصراعات البينية فيجب أصلًا أن لا تكون ظاهرة، ولا معلنة، وأن تكون هناك دائما مجموعات ورموز أو شخصيات محترمة من الجميع، تسارع للتدخل وحل أي مشكلة أو توتر بطريقة حبيّة وعادلة قبل أن يتحول الى صراع داخلي.

لكن أي فوز في صراع الداخل (داخل النخبة أو صفوف نخبة الثورة والمعارضة) هو تعبير للفشل في الصراع مع الخارج- النظام، وهو إضعاف للداخل وتشويش عليه.

أخطر ما في صراعات الداخل أنها تشوه وعي الرأي العام المتمحور حول ثنائية ثورة معارضة – نظام، تشوّه الوعي الذي دفع شعب كامل ثمن تبلوره، وتُضعف الداخل (النخبة الطبقة) بل تفقدها البوصلة فيحدث انزياح واستبدال -ـقله مؤقت- ما بين العدو والصديق.

الدكتاتوريات الشرقية هي أكبر داعم للاستبداد بكل أشكاله بما فيه الاستبداد الجندري أو الفقهي أو الطائفي أو الاقتصادي

إذا كثرت الصراعات البينية دون إيجاد آلية لحلها أو إيجاد جهة موكلة بالحل، تنتهي القضية الأساسية للنخبة (وهي هنا الصراع مع العدو) إلى الفشل، والقضية الأساسية للنخبة هي الثورة والمعارضة طبعًا.

اقرأ/ي أيضًا: كتابة المرأة تأنيث العالم

إذا كان المطلوب التأخر عن الصراع مع النظام لصالح الصراع المستحق تاريخيًا مع الذكور (من وجهة نظر النساء المثقفات أو نساء النخبة. وهو صراع جزئي لكنه ذو أولوية أو ذو اعتبار عند نصف المجتمع - النساء) فلا بد من معرفة أن تأخر سقوط النظام أو استبداله جذريًا هو أمر واقع، وبالتالي يجب عدم التأفف أو اليأس من هذا التأخر. لأن أي صراع جانبي سيكون على حساب الصراع الأساسي، وبالتالي يصبح التأخر في إسقاط النظام تأخيرًا نتحمل مسؤوليته نحن، أي النخبة أو الطبقة "الحاملة" للثورة والمعارضة.

وهنا ملاحظات في شان الصراع الجندري ضمن شرطي الثورة والمنفى:

  1. الصراعات التاريخية -والصراع الجندري أهمها - لا تنتهي إلا بسحق جهة وانتصار جهة.
  2. هكذا صراع معقد وعميق وشامل يحتاج إلى بيئة موطن، ولا يتم خارج البيئة الموطن وهي هنا سوريا.
  3. البلد الأجنبي يشجّع على الأجنبة وهذه تشجع على التجدد والتفلسف والإبداع والتصارع، لأنها توفر الشروط الأساسية للإنسان المفتقدة في موطنه. وهذه نزعات أصيلة لكن الأجنبة تشجع أيضًا -بما تقوم عليه من حرية- تشجع على ما هو زائف يدعي التجدد والتفلسف يحول نزعة التصارع إلى "تصرصع" مثلًا!
  4. الصراع الجندري السوري يحتاج لحركة تحرر نسائية استنادًا للفقرة 2 ولا يتحقق دون هذين الشرطين: الموطن البيئة والحركة.
  5. الدكتاتوريات الشرقية هي أكبر داعم للاستبداد بكل أشكاله بما فيه الاستبداد الجندري أو الفقهي أو الطائفي أو الاقتصادي.
  6. المكاسب التي يتم تحقيقها من الأجنبة لا تدخل في سياق التطور التاريخي للموطن، وبالتالي فأي مكسب في سياق الأجنبة يبقى مكسبًا لمن هم خارج الموطن خارج البيئة. وفي حال عادت هذه الطبقة أو النخبة المنفية إلى الوطن فإن مكتسباتها تبقى فاعلة داخلها ولا يتم الاعتراف بها من البيئة الموطن، وتحتاج إلى صراع جديد لفرض مكتسباتها أو الاعتراف بها في الموطن البيئة. يمكن للنخب الثورية في موطنها إطلاق صراع جندري يمكن أن تحقق فيه نجاحًا متواضعًا أو غير متوقع شرط ألا تستند فيه إلى دعم السلطة الحاكمة وتوجهاتها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

معضلات النُخب.. مداخل للتحليل

معركة الثّقافة.. في ممارساتِ السلطة ونخبها