23-يونيو-2017

لم يعد للصحافة القومية المصرية تأثير محلي، فضلًا عن العربي والإقليمي (كيم بدوي/Getty)

هل يمكن إصلاح الحياة المصرية بجميع مناحيها وهياكلها دون إصلاح لأوضاع الصحافة والصحفيين المصريين؟ هل يمكن لمصر استعادة أدوارها الإقليمية في جميع المجالات في ظل استمرارية تدهور مستويات المهنة، وضعف أداء الصحف الحكومية والخاصة، وعلى مستوى التقاليد المهنية والقيم الأخلاقية؟

الإجابة جهيرة لا لبس فيها، بأن استمرار الأوضاع الراهنة والموروثة منذ تأميم الصحف المصرية، سوف يساعد بقوة على استمرار تدهور الأداء العام الحكومي والدولي ونشر الجهالة والأوهام والقدوة السيئة، وأنماط من السلوكيات الفاسدة، باتت موضعًا لملاحظة ورصد العيون الصحفية والسياسية التي تتابع الأوضاع المهنية داخل الصحف الحكومية/ القومية. 

وتنوء الصحف الحكومية القومية بتراكم الأزمات والسلبيات على نحو جعل من قانون الأمانة المهنية، مرادفًا لغياب المسؤولية والضمير المهني، وضعف الوازع الأخلاقي، أو ما يطلق عليه "الضمير الجمعي"، الذي اعتراه الصمت والسكون الفاضح على ما يجري من ممارسات ضارة منفلتة داخل المؤسسات القومية التي تدهورت في أدائها لمهامها عن مراحل زمنية سابقة، كانت فيها موضعًا مستمرًا للنقد المهني والسياسي والثقافي والإعلامي. 

لن تستطيع القيادة السياسية المصرية أن تضع أي مشروع للتطوير دون إصلاح جاد وشامل للمؤسسات الصحفية القومية

ومن أسف وأسى معًا أن مسلسل التدهور المهني يتزايد ويتراكم، ولا أحد يسأل أحدًا، وهو أمر بالغ الخطورة سواء من قبل مؤسسات الدولة، أو كبار رجال الحكم المؤثرين في اتخاذ قرارات اختيار رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف القومية.

اقرأ/ي أيضًا: شيخوخة الأهرام.. ديون وفساد وهيمة العسكرتاريا

لن تستطيع القيادة السياسية المصرية ولا بعض قوى المعارضة الرسمية ولا أي قوة فكرية أو سياسية تتسم بالنزاهة والوطنية والكفاءة، أن تضع أي مشروع لتطوير الدولة والنظام السياسي المصري والقوانين والأمن والتعليم والثقافة والصحة والاقتصاد، دونما تصور إصلاحي جاد وشامل لإصلاح المؤسسات الصحفية القومية أساسًا؛ لأن أشكال التخلف المهني وضعف مستويات تكوين غالبية ساحقة من الصحفيين الشباب ومن الأجيال الوسيطة، وحتى من بعض من ينتمون إلى الجيل الذي يدير تلك "الوسية". 

ويكاد يعرف الجميع بلا مواربة عن ضعفهم التكويني وعدم كفاءتهم وتدني مستويات معرفتهم السياسية والثقافية والمهنية، ويديرون بعض الصحف الكبرى التي يقف وراءها تاريخ مهني وصحفي طويل، إلا أن أسماء هذه الصحف "صارت في الأرض"، ولم تعد قادرة على حماية تاريخها بالنظر إلى ظاهرة تراجع تأثيرها السياسي في مجال إدارة الجدل العام وقضاياه على اختلافها، مفضلة أن تنتظم في طابور مؤيدي النظام الحالي مهما كان حجم السقوط المهني المضطرة لدفعه في سعيها لإثبات الولاء.

يتعجب كثر من المثقفين والقراء وداخل الجماعة الصحفية من "عبقرية" قادة جميع الصحف والمجلات القومية، ممن قدموا ومَن بقوا في مناصبهم بعد التعديلات الأخيرة التي أجراها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في ما عرف باسم "المشروع الوطني لإصلاح المؤسسات الصحفية القومية"، في اكتشافاتهم العجيبة لأقلام عليلة الإنتاج وركيكة الأسلوب وتافهة المعالجة، في صفحات الرأي أو كمصادر في التحقيقات والأخبار أو في المقابلات التي تتم مع شخصيات لا تقول شيئًا مهما في المجال الذي يتحدثون حوله! 

لا شك أن الهدف من كل خطوة يقوم بها النظام المصري هو تثبيت أركان حكمه وإحكام السيطرة على الفضاء العام، وإجهاض أي محاولة للنقد والتقويم. ولكن الحقيقة أن ضعف اختيارات ذوي النفوذ ممن يثق بهم النظام، تكشف عن قانون بالغ الخطورة في إضعاف الصحافة المصرية، ألا وهو أن معايير الاختيار للقادة الصحفيين تتمثل في الولاء التام والأعمى، وليس أدل على ذلك من متابعة الأداء العام لكافة الإصدارات الصحفية القومية قبل وبعد إقرار اتفاقية التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية. 

تراجعت المستويات المهنية لكافة الصحف المصرية القومية، حتى تحولت للاستهلاك المحلي فقط، وبالكاد، دون أي تأثير عربي وإقليمي

يترتب على ذلك أن الولاء صنو ضعف الكفاءة والمهارة والموهبة والخبرة، حتى يسهل توجيه هؤلاء وإصدار الأوامر لهم دونما مراعاة للقواعد المهنية أو الملائمة السياسية، ومن ثم القدرة على التأثير في الحياة السياسية والعامة.

اقرأ/ي أيضًا: مصر.. التعيينات الإعلامية إرضاءً لرجال الرئيس

إن تراجع المستويات المهنية لكافة الصحف المصرية القومية تبدو من تحولها إلى "صحف للاستهلاك المحلي"، إذ لم يعد لها تأثير عربي في الأوساط الصحفية والسياسية العربية كما كانت الأوضاع في عقود عديدة خلت، ولا سيما منذ المرحلة شبه الليبرالية حتى نهاية السبعينات في القرن الماضي.

ومنذ الثمانينات نشهد تراجعًا متزامنًا بين الدور الإقليمي المصري وعدم قدرة الدولة والصفوة الحاكمة في التأثير على التفاعلات والقرارات الإقليمية، أو المساهمة في توجيه القرارات الدولية أو التأثير فيها على الملفات الإقليمية السياسية والأمنية. ذلك التراجع ليس فقط تعبيرًا عن ضعف الأخيلة السياسية وأساليب التعامل مع السياسات الإقليمية، ولكنها أيضًا تمثّل تعبيرًا مكثفًا عن تراجع دور مصر الثقافي وقيام أطراف إقليمية أخرى بسحب البساط من تحت أقدامها، وعلى رأسها الدول النفطية التي استقطبت الخبراء المصريين في مجالات عديدة، أو التأثير بالتمويل على صناعات ثقافية رئيسية.

امتدت ظاهرة تراجع الدور الإقليمي إلى المجال الصحفي والإعلامي لاعتبارات عديدة، من بينها الإنفاق الخليجي على الصحف والتليفزيونات، والتي تحول بعضها إلى أن تغدو أبرز أدوات التأثير الإعلامي والصحفي والسياسي على توجهات الرأي العام العربي، ولعل أزمة العلاقات الخليجية الحالية خير مثال. 

ولكن مرة أخرى، تراجع مستويات التكوين المهني والثقافي لقيادات عديدة في الصحافة المصرية، انعكس على أساليب اختيارهم لمساعديهم ومعاونيهم، إذ يختار بعض الرؤساء الضعفاء مهنيًا وثقافيًا وخبراتيًا، مَن هم دونهم في المستوى، وهؤلاء يختارون مساعديهم ممن هم أقل مستوى، الأمر الذي أدى إلى حالة خلل مهني جسيم نشهده يوميًا.

إن اختيار الأضعف في الكفاءة والمهنية والتكوين والخبرة، من فرط استمراريته طيلة عقود الثمانينات وحتى الآن، تحوّل إلى قانون "الولاية والقيادة في الصحف الحكومية للأضعف"، ولا مجال أو دور للموهوبين والأكفاء والمثقفين من الصحفيين في عملية التدجين والتفريخ هذه؛ لأن الموالاة والانصياع لأجهزة الدولة وذوي التأثير والنفوذ في السلطة وأجهزتها الرقابية، جعل السيطرة وآلياتها على الصحف وإدارتها تعتمد على الولاء المطلق سياسيًا وأمنيًا، بصرف النظر عن نتائج أداء بعض رؤساء التحرير من ناحية النجاح في التعبير عن الاتجاه السياسي للسلطة والحكومة وأجهزة الدولة، أو القدرة والكفاءة على إدارة الجدل العام حول القضايا الأساسية.

الفوضى والعشوائية المسيطرة على الخطاب الصحفي الموالي للنظام، هي نتاجٌ  لاختيار الأقل كفاءة لقيادة العمل الصحفي

حالة الفوضى والعشوائية المسيطرة، والمعالجات الجهولة للمشاكل المصرية في غالب الخطاب الصحفي الموالي، من مقالات وتحقيقات وأخبار وتقارير؛ هي نتاج لقانون اختيار الأقل كفاءة لقيادة العمل الصحفي، وهي الطريقة التي لا يعرف النظام المصري، ورجاله، غيرها. 

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة في عهد "عبده هيصة"

وفي الأثناء، تلعب "الواسطة" و"المحسوبية" دورها في تعيين الأبناء والأهل والأقارب والأحباب في الصحف القومية، ويتداخل الإعلان بالتحرير، وتظهر تأثيرات نفوذ رجال الأعمال ورجال السلطة على التوجهات التحريرية الصحف. 

ثمة روائح تزكم الأنوف عن تحرير هو إعلان بامتياز، وبعضه لا يُدفع إلى إدرات الصحف، وهي ظواهر تقع خارج القانون وتمسّ نزاهة المهنة واستقلاليتها، ولكن لا أحد من الفاسدين سيشغل باله بحتمية المساءلة لأن المفسدين هم من جاؤوا بهم أساسًا.

في عقود خلت، كان الذي يدافع عن سياسة الرئيس والحكم بعض كبار الصحفيين المصريين ذوي الكفاءة، يختلف المعارضون معهم، ولكنهم يقدّرون مستوياتهم المهنية وقدراتهم، أما الآن فالوضع بالغ الغرابة. 

أصبح أداء القيادات الصحفية مثيرًا للشفقة، لدرجة عدم قدرتهم على مدارات كذباتهم لضعف مستواهم!

وبعض القيادات الصحفية والحكومية يبدو أدائها على الشاشات في حالة تثير الشفقة والرثاء، كاذبون لا يستطيعون مداراة الكذب، لضعف مستواهم وعدم قدرتهم على الدفاع عن سياسات الحكم، أما البعض الآخر فقد أدمن لعبة التماهي مع السلطة فصار محترفًا في الكذب والتدليس. 

اقرأ/ي أيضًا: قانون الإعلام الموحد في مصر.. انتكاسة أم إنجاز؟

وها نحن نعيش أسوأ مراحل الصحافة المصرية القومية، بتراجع تأثيرها وغيابها عن إثارة القضايا المهمة، بل وتعدّى الأمر إلى انتهاج السلطة لطريق الحجب والمنع لكل من يخالف توجهاتها وسياساتها، كي تفرغ الساحة لكتّابها وكهنة معبدها من الجهلاء الجدد والقدامى لإنتاج الموت، حيث جثث الكلمات وروائحها العفنة تملأ سماوات المدينة وتأكل روحها، روح مصر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"كوابيس السلطة الرابعة".. كيف تغيرت الصحافة العربية في 2017؟

هكذا رأى صحفيون وحقوقيون حظر 21 موقعًا في مصر