04-مايو-2020

دانوتا بابوفيتش- ميشنو/ بولندا

وسواس

تجري عيناه مع الأطفال في الخارج يتدافعون يمنية ويسرة، يبنون عمودًا حجريًا بحصى متباين الأشكال والأحجام، تأكله رغبة ملحة بإعادة ترتيب الأحجار، يستفزه ميلها الذي يوحي بقرب انهيارها، كأنما قطع من وجهه ستنهار معها. يجري الأولاد فيلاحقهم بعينيه كأنهم يطأون صدره، يود لو يركلهم من مؤخراتهم طالباً منهم الانتظام كـ"الآدميين" في اللعب. هذه البلاد تعرش في الفوضى والارتجالية، غارزة مؤخرتها الضخمة فيها بلا أمل.

يقف في المطبخ بين أكوابه المرتبة بأبعاد منتظمة، وأكوابه المفروشة بهندسة دقيقة على الرفوف. ربما يصاب الزائرون بالهلع من المشي على الأرضية المصقولة، أو لمس الجدران الملمعة كقطع الكريستال، فقط لو كان هناك زائرون، لو لم يصبه مجرد ذكرهم بالقشعريرة والتقزز. يغسل يديه مرة أخرى، يجففها بقطعة القطن المخصصة، ويعيد طيها وتعليقها على الحامل الخزفي. وهناك يلمحه، تسري رعشة في عروقه، يبحلق بعينين معروقتين في كأس الماء المشروخ، من أين جاء الشرخ؟ لا يذكر أن حادثة وقعت فشرخت كأس الماء الوحيد الذي يثق فيه. كان ينظر إلى الخط الدقيق المتمدد في منتصف جدار الكأس وقد جف حلقه. هو لا يشرب في هذا الكأس سوى الماء، بل هو لا يشرب الماء في سواه.

مر وقت لم يعد يحصيه وهو واقف ينظر مرتعشًا في الكوب المشقوق، يقتله العطش، ويشعر بالصدع في رأسه يتسع. وبينما تتساقط في الخارج حصى الأطفال وتتبعثر متباعدة، يسقط في رأسه كوب زجاج ويتشظى في وجهه وعينيه، يمسك رأسه بكلتي يديه، فيلمح دمًا يجري على أصابعه.

 

شيزوفرنيا

يربت على الفأر الصغير الجائع تحته. يربت على النهر الذي جرى بين ساقيه، وعلى الأغصان الملتفة النابتة من أصابعه. يمر بتعرج على التراب المتجمع من جلده الميت، يطير منه شيء ما، يقبض عليه بقبضتيه، يفتحهما على مهل، لا شيء في عتمته الصغيرة. تتدلى فوقه أعشاش لا تكبر ولا يزورها أحد. ومن الزنزانة المجاورة يخرج الأنين كأنه زقزقة. كان قد عاهد نفسه ألا يعوي صبيحة إعدامه كما فعل الآخرون، وأن يطبق جفنيه على الضوء الشحيح المتسرب من عصابة العينين، هكذا ككل الشهداء.

في صبيحة اليوم التالي، كان السيد س متمددًا على أريكته، يطبق على جهاز التحكم بيد متخشبة، عيناه مفتوحتان، وعلى رقبته آثار حبال.

 

صحراء

"عزيزتي هيلين، أكتب إليك من جبهتي الحالية. لم أعد أميز أين أنا في هذه الأرض الخواء. أعتقد أن الأسماء تفقد معناها في صحراء تتناسل من بعضها كهذه البلاد. العطش ليست سمة الصحراء الأساسية كما درسنا في الابتدائية يا عزيزتي، بل هو التحايل. الصحراء بارعة في التحايل والخداع. تصور لنا خنادق العدو على مرمى حجر وعندما نجهز المدفعية لا تسقط قذائفنا إلا في فراغ. وحين نظن أن بيننا وبينهم أمدًا بعيدًا، ونعمد إلى طعامنا قبل أن يصلوا، تغص أقدامهم في حلوقنا كأن أقدامهم ابتلعت جبال الرمل بيننا وبينهم.

الصحراء حليفتهم، إنها تعادينا بصورة لا شك فيها. تخيلي أنها مفتوحة بما لا يدع مجالًا لسحلية أن تختبئ، لكنها تخبئهم كأنما في بطنها، إنهم يخرجون من الرمال، ويمشون في الرمال كما نمشي على الأرصفة، ويتلحفون الرمال كما نتلحف نحن معاطفنا، أصواتهم يا هيلين رمال أيضًا، والرمل لو تعلمين مؤذ ولئيم؛ إنه يتعاضد كالبراغيث ويأكل من أنوفنا وحلوقنا وعيوننا.

إني أشعر أنهم هم الصحراء، عيونها عيونهم تترصدنا كلما التفتنا، أفواههم مفتوحة في حلقها كفم جهنم، وينبت لهم فيها أقدام ثابتة وأجساد لا تُرى. كم هو صعب يا حبيبتي أن يحارب الواحد فينا صحراءً. هل ينجو الذين يحاربون الصحراء يا هيلين؟ من يدري، الرب وحده يدري!".

يضع الملازم الشاب قلمه، يطوي رسالته الصغيرة ويبتلعها، بينما يموج تحته رمل وتصفر في عينيه رياح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيان بالشمع الأحمر

وشاية على جسد الميت