12-يوليو-2020

لوحة لـ مارك روثكو/ أمريكا

1

أنا صديقة سيئة، كلّ أصدقائي يعرفون ذلك، وهذا ليسَ إقرارًا أو اعترافًا، بل هي بديهية واضحة ومؤكدة، الكلّ يُدركها والجميع يَعرفها، إلا أنّ ذلك لا يمنعهم من اتباع أساليب دحضها ونفيها ما أن أقرّ بها أمامهم بعد كلّ عتاب. أجل، أنا صديقة سيئة، أعرفُ ذلك، وأصدقائي يعرفون ذلك، ومعرفتهم تلكَ تصل إلى درجة اليقينية؛ يقينية تنفي نفسها ما أن تشعر أنّ إقراري سيجعلني أحمل عبء السوء الثقيل وحدي، إنّني صديقة سيئة لأصدقاء جيدين يخافون عليّ تهمة السوء التي أقرّ بها، ويسعون إلى تبرئتي منها عبر نفيها أو دحضها أو مشاركتي بحملِ جزءِ منها من خلال إطلاق تسميات مجحفة بحقّ أنفسهم ك"أصدقاء السوء" مثلاً.

2

ولماذا أسمي ضحكة صديقي ضحكة إذا كان بإمكاني أن أفصّل لها اسمًا على مقاسها؟ أقصد مقاس ضجيجها وجنونها وطفوليتها وخروجها عن نمطية الضحكات العادية المألوفة التي عرفتها وأعرفها، أشكّ في أنّه حين أطلقها أمامي أوّل مرّة كان يعرفُ بأنني أوّل من سيعيد اكتشافها، أشكّ في أنّه كان يتوقع بأنني سألتقطها كما لو كانت شيئًا جديدًا أراه وألمحه لأوّل مرّة، وأنني سألجأ إلى البحث في جذوره وأصوله لأعثر له على اسمٍ يٌناسبه ويليق به، إذ من قال أنّ عليّ الالتزام بقواعد الإجماع حول اسم هذا الشيء الفريد الذي يطلقه صديقي دائمًا في لحظة سعادته الخالصة؟ من قال أن عليّ الأخذ بما هو متعارف عليه حول هذا الشيء النادر الذي بدا لي كما لو أنّه شكلٌ من أشكال الهستيريا الجمالية الخاصة التي يتداخل فيها الجنوني والطفولي والعفوي والعبثي واللامبالي؟ أجل، هي هستيريا جمالية جمعت بين أضلعها شغب الكون كلّه، وأدخلتني في حالة شغبٍ طفوليٍّ جعلني أخال نفسي وقد عدتُ إلى أزمنة أبي آدم، أقفُ أمامه والربّ يُعلمّه الأسماء كلّها، وأسأله أن يشي لي باسم هذا الشيء الفريد الذي طالما أَطلقه صديقي من فمه مرارًا وتكرارًا، هذا الشيء الذي يُشبه هستيريا جمالية لا أعرف لها اسمًا ويقول عنها الناس ضحكة!

3

قالت لي مرّة صديقة التقيتها بعد معرفة طويلة في الفضاء الفيسبوكي الأزرق: "ممتنة أنا لهذا الفضاء الإلكتروني الذي أتاحَ لنا فرصة الالتقاء بكلّ هذه الأرواح التي نحبّها وتُشبهنا"، ومنذ ذلكَ الحوار وأنا أبحث عن مسمىً ملائم لتلكَ الأرواح التي -وعلى رأي تلكّ الصديقة- نُحبّها وتشبهنا، لم أجد مسمىً ملائمًا لها، لكنني قررتُ أن أسمي أصحابها بالرفاق. أجل، أسميتهم الرفاق، وصرتُ أتحراهم كمن يتحرى القمر ليلة تمامه، إنّهم أقمار مكتملة دائمًا، أعرفهم بالذائقة، بالحرف، بالكتابة، بالموسيقى، وأتعرّفهم حتى لو لم أجري معهم حوارًا واحدًا، فهم أصحاب الصخب الصامت الذين تقودني آثارهم إليهم، والذين أحبّ أن أدعي معرفتهم حتى لو لم أعرفهم، وهم الذين تُحبّهم فراستي في تتبّع المشترك والجامع والبحث عن أثر الشبه، وتحبّ أن تناديهم الرفاق.

4

لي صديقٌ كلّما حزن كتبَ نصًّا حزينًا وعرضه عليّ لأقرأه فأبتهج، أقول له دائمًا بأنّ حزنكَ يا صديقي يُشبه حزنَ البنفسج، إنّك تحتفظ به في نفسك ولكنك لا تُخرجه إلى الملأ سوى في أشكال جمالية خالصة لا تُورث في النفس التي تراها سوى مشاعر الدهشة والابتهاج، وما حزنُ البنفسج سوى كلّ حزنٍ يتحفّظ على صفته ويتعالى عليها ويخرج إلى الناس في أشكالٍ جمالية زاهية تجعلهم يشعروا ما أن يرونها بعكسه، "وليه يا بنفسج بتبهج وأنتَ زهر حزين؟".

5

وحدهم أصدقاؤنا الجميلون من يطلبون منا أن نشاركهم أشياءنا الجميلة، وهم أنفسهم من نخاف عليهم من انسحاق كياناتهم تحت أذرع التشييء، ولولا هذا الخوف لبعثنا لهم صورهم ما أن يطلبوا منا مشاركتهم أشياءنا الجميلة ولشاركنهم أنفسهم.

6

أحبُّ الأصدقاء الذين يُجيدون سرد أنفسهم كما لو كانوا لا يعرفون مفهوم الخشية، أولئك الذين تصفهم إيمان مرسال في إحدى قصائدها وتقول: "الصرحاء كالقمامة"، أولئك الذين تخرج أخطاؤهم وخطاياهم من أفواههم كما لو كانت فضائل، والذين يعرفون كيف يستخدمون قوالب الصدق المطلق لإخراج قذاراتهم ورذائلهم في جلسات مصارحة علنية كما لو كانوا يتطهرون، الأصدقاء الذين يُسرون على ألسنتهم أساليب تعبيرية تشتم وتُقرّع وتلعن كلّ واقع لا يُرضيهم، فتتفجّر منها كما لو كانت ينابيع ماء زلال، أولئك الذين يعرفون كيف يستنطقون فيّ وجهي العاري الذي يخرج أمامهم دائماً في أنصع حالاته بلا أقنعة أو أوشحة تزييف ليخبرهم كم يحبّهم لأنّهم وحدهم من يَمثلون أمامه كنظائر وأشباه، إنّ أولئك الأصدقاء بالضبط هم "أشباهي" أو "الصالحون لصداقتي" كما قالت مرسال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثلاث قصائد أمريكية: اغفروا لي مَوت آخر الفهود الجميلة

غرفتي في دمشق على متن قطار فرنسي