05-أبريل-2019

حسام بلان/ سوريا

أتنبّهُ إلى أنّ مقاعد المتنزهين قريبة من بعضها، كيف نسيتُ هذا! ولِعِلْمي أنّ الناس تستهويهم مراقبة بعضهم بعضًا، أتوتّر، وأُعيد شَفرة الحِلاقة بهدوء إلى حقيبة حاسوبي المحمول، بعد أن كنتُ سحبتها منها منذ ثوانٍ. كفّاي المبقّعان بالحروق كافيان وحدهما للفت الأنظار، فكيف بهما إن حملتا شفرة حلاقة في متنزّهٍ عامّ!

أستغرقُ دقائقي الأولى هنا محدّقًا في الواجهة الزجاجية للبناية الشاهقة البادية من خلف سور الحديقة. يخطفُ بصري الانعكاس المتلألئ لأبنية المدينة على مرايا الواجهة. انعكاسٌ يبدو مثل لوحة عملاقة تُثيرُ فيّ انطباعًا سُرياليًا. في المرايا العليا تنعكسُ زُرقة سماء صافية، بينما تكتظُ المرايا الأقل ارتفاعًا بانعكاسات البناء الأبيض الحديث، المُقام على أنقاض القديم المُجرّف.

بينما أمعنُ بصري فيه، يختفي ما حوله من بؤرة نظري، ويبقى الانعكاسُ وحدهُ معلّقًا أمامي هنيهات قبل أن ينقلب في مخيّلتي رأسًا على عقب. أعجزُ عن وقف دورانه مئة وثمانين درجةً في ذهني. أعجزُ عن كبح جماح مخيلتي من أن تُحوّل الزرقة السّماوية إلى صفحة بحر، وتُغرق أسطح البنايات رأسيًا فيها. وبينما لا يزالُ وسواسُ العبثِ بالشفرة يتدفّعُ في خاطري، تسقط ذاكرتي في دوّامةٍ تسحبها إلى البدايات.

*

كان آخر ما يمكن أن يخطر ببالي وأنا أوقّعُ بفخرٍ ديواني الشعريّ الثاني قبل سنتين، أنّ هذه هي الفسحة الأخيرة لي في مرابع الشعر. مدّت حينها السيّدة حوراء نسخةً من الديوان أمامي على منضدة التوقيع، تمتدحُ ما أكتب. طيّرني مديحُها السخيّ في منطاد النشوة لحظاتٍ قليلة، قبل أن يُثقب المنطاد وأهوي في سابع أرض. فقد تكشّف لي أنّ إطراء السيّدة كان لغايةٍ، ليست فقط أنها لا تقترب من غاياتي الشعرية، بل وإنها توشك على نسفها.

"لعلّ هذه الموهبة لا تذهبُ سُدىً على الرفوف"، قالت بابتسامة مُلطّخة بالكثير من أحمر الشفاه، أوحت لي بالخير الوفير. ثمّ غمزتني بعينٍ مُدرَّبةٍ وطلبت منّي موافاتها إلى دار النشر التي تُديرها في الوقت الذي يناسبني.

دار النشر التي تُديرها! هذه آخر دار نشر كنتُ لأفكّر يومًا بصعود سلالمها. لكنني، أنا الشاعرُ الباحثُ عن صدىً لقصيدتي ولم أجده، العريس المُعدَم الموحِل بالدّيون، لم يتطلّبني الأمر أكثر من شَهرَيْ غبار تكدّسا على ديواني الجديد في المكتبات، كي أعلم أنه يسيرُ على خطى سابقه، فأفقد الأمل بغاياتي وأصدّقُ أحمر شفاهها الوفير، وأُسارع زاحفاً على سلالم السيّدة حوراء، في واحدة من هذه العمارات البيضاء الشاهقة.

في زيارتي الأولى لها، جلستُ ذاويا. قهرٌ مسمومٌ غلى في بطني مؤخرًا، ثمّ استقرّ راكدًا فيه قبل أن يتلقّفني هذا المقعد الوثير.  تصاعد الغثيانُ عامودَ دخانٍ من قاع معدتي إلى حنجرتي فرأسي، ولم تتوقف أصابعي عن العبث بالقماش المُبطّن لجيبتي بنطالي طوال جلوسي.

وقفتْ السيّدة حوراء تفتّش بحماسةٍ في رفوف مكتبية تمتد لارتفاع مترين من الحائط، ونظري في هذه الأثناء يتلمّسُ طريقه بصعوبة إلى عناوين الكتب على جانبيّ عجيزتها الهائلة. سحبتْ عدة كتب، وبعباراتٍ منمّقة كما فِخاخٍ سحرية، استفاضتْ في شرحها لي عن فنيّات الكتابة للأعمار الفتيّة. حدّثتني عن شخصية الطفل واهتماماته، وبشّرتني بما يسدّ الرمق في سوق الكتابة هذا.. بينما أنا، وطوال شرحها، لم تفارق رأسي فكرة واحدة: أنّ الرفوف المقابلة مكتظة بما لم ولن يراودني الفضول يومًا لتصفّحه.

أربكتني حالتي كيفما ديّرتها في عقلي. لم أقتنع للحظة أنّ مكاني هنا. إنني كما قطعة نافرة، تستحلُّ غير مكانها، في لعبة تركيب الصور. بحتُ لحوراء ببعضٍ من هواجسي، فطمأنتني؛ قالت إنّ موهبة الكتابة أصيلة لديّ، وهذا هو المهم، إذ أستطيعُ تطويعها نثراً، شعراً، كيف أشاء. جانبٌ من نفسي رغب في تصديقها، فإلى جانب بضعة قروش، أردتُ النجاة بيمامتي من غيلان السوق التي تبتلعُ يَمامَ الشعر وتبتلعُها قصصُ الأطفال! قلتُ أُخفي يمامتي في جعبة قصّة حينًا من الوقت فيشتدّ عودها، فلا تقوى لها الغيلان.

*

أُطالعُ المتنزّهين يتقلّبون في جوّ نديّ شفّاف، في حين تتقلّبُ في داخلي عوالمُ مضغوطة، تحاول التحرر فلا تستطيع. لا يمامةُ شِعري التي لطالما حلّقت في هذه العوالم بقادرة على الرفّ بجناحيها ثانيةً فيها، ولا أجد في هذه العوالم من أقصاها إلى أقصاها مُتّسعًا بعدُ لحكاية أطفال. أشعرُ بساعديّ يتيبّسان. هما الساعدان إياهما اللذان عبرتهما الأشعارُ جسرًا إلى الفضاء مرارًا وتكرارًا فيما مضى. كانت اليمامةُ إن رفّت بجناحيها بين جوانحي أفلتت البحور من منابعها؛ واندفعتْ تموج في شرايين ساعديّ، متدفقةً من رؤوس أصابعي إلى الأوراق البيض. اليمامةُ هَامدةٌ الآن والساعدان يتصلّبان، أتراني أصْدُق هذه المرة مع نفسي، فأغلق حاسوبي وأغادر هذه الساحة إلى الأبد، بساعدين غيرُ مدميّين وكفّين بريئين من الحروق؟!

*

قبل أن أكتب قصّتي الأولى، قرأتُ كافة القصص التي أعارتنيها حوراء. قصصٌ يُفتَرَض بها أن توقظ الطفل في داخلي -كما قالت- وتقرّبني من عالم الصّغار. قبل القراءة، وتّرتني فكرة الاقتراب من هذا العالم، وبعد القراءة اشتدّ هذا التوتّر. كُلّما خططتُ كلمة، محوتُها. كلّما هبط إلى مخيّلتي مشهدٌ تساءلتُ إن كان يصلح لطفلٍ أم لا، قبل أن أقرّر استبداله بآخر...

الفضاءُ اللانهائيّ الذي اعتدتُ الطيران والشقلبة فيه بانسيابية لاعب جمبازٍ كلّما كتبتُ الشّعر، صار في هذه الكتابة الجديدة يتحوّل إلى ساحة من التردُّد، أتجمّدُ في وسطها خشية التعثُّر، مرعوبٌ من التقدّم سنتيمترٍ واحدٍ في أيّ اتجاه. في محاولاتي الأولى، مرّات كثيرة كنتُ أفقدُ الاهتمام وأُقرّرُ الانسحاب من هذا الحقل المُلغّم، لكنّ حوراء كانت تفقد أعصابها في كل واحدةٍ من هذه المرّات، أثناء إصرارها على زرع شيءٍ من المبالاة في نفسي، فتعيدني إلى المحاولة مجّدداً.

وفي غمرة دهشتي أمام إصرارها على تشغيلي في هذا الصنف من الكتابة، سألتها مرةً أن تكشف لي من غير لفّ ولا دوران سبب هذا الإصرار، فقالت: "لأنّ لك جمهورًا في سوق الكتابة". في هذه اللحظة أوشكتْ أن تفلتَ منّي قهقهةٌ كانت لتقتلني من شدّتها لو أنها أفلتت، فأسرعتُ وكتمتها، كونها طريقة غير مُشرِّفة أنهي بها حياتي. لَعمرُها، أيّ جمهورٍ للكتابة تقصدُ هذه والمطبوعات على الرفوف ما فتئت تُناطحُ بعضها بعضًا تثاؤبًا! إلاّ إن كانت تعني بهذا الجمهور بضعةً من مقاهي الشعراء، المشمئزين من بطالتهم، وسط البلد.

في ذلك الوقت من البدايات، وحوراء ترى ما بي من تخبّط وتقطّعٍ للوحي في هذا اللّون الجديد عليّ من الكتابة، اقترحتْ أن أرافقها إلى حفلة في إحدى رياض الأطفال، فقُلت: "نُجرّب".

*

أحاول انتشال نفسي من خنقة الذكريات، لكنّ مراقبتي لكل هذه الأعداد من الأطفال في الحديقة لا تساعد في هذا. ذكرياتُ رياض الأطفال بالذات تخنقني أكثر ممّا سواها، ولا يفيدني تذكّر كلّ تبريرات حوراء لِما كنّا نقوم به في تلك الرياض، فنوايانا لم تكن مُخلصة لفرح أولئك الصغار، وكفى.

ما تزالُ زيارتي الأولى إليهم يرتدُّ صداها في قاع جمجمتي كأنما حدثت بالأمس...

*

برعشةٍ في الأطراف لا تليق بمن يهوى الإبحار إلى هذا العالم الجديد، جلستُ مع حوراء بين الأطفال وأمّهاتهم. كانت هذه المرّة الأولى التي أعود فيها إلى روضة أطفال بعد تخرّجي الغابر منها. تصالبتْ عشرةُ مزاليج في إطباقها على قلبي وأنا أُدقّقُ في تفاصيل المكان ومن فيه. وإذ كنتُ أفعلُ هذا، كانت عواصفُ الاغتراب تنأى بدواخل نفسي عمّا حولي، فينقطعُ كلّ أملٍ لي بالتقارب مع هذه البيئة الطفولية. بدا لي كأنّما أدرك الأطفالُ، بحدسهم الفطريّ الصافي، تطفّلي وفجاجة تواجدي بينهم، فظلّوا يحدجونني بنظرات مُستغرِبة يرافقها صمتٌ حَذِر. وفي هدأة صمتهم ذاك لم أستطع إلاّ أن أسمعَ ازدراءً بارداً يلسعُ ضميري إذ يهمسُ لي: "قُبِّحتَ من كائِن".

قدّمتني حوراء إلى الأطفال وأمّهاتهم ومُربيّات الروضة في حفلة عيد الأم على أنّني كاتبٌ للأطفال، رغم أنني إلى حينها لم أكن قد أتممتُ لهم نصًّا واحدًا. وأحبّت المرأة أن تكرَم بالعِيار حبّتين فعبّرت للحضور عن شغفي –أنا المتصنّم أمامهم كحائط- بمجاورة الأطفال واللعب معهم لاستلهام القصص.

ويحها كم دلّستْ! بقيتُ ساكتًا أتمنى لو بإمكاني كفّ سمعي عمّا تقول، أفتعلُ ابتسامةً أخفي من تحتها توقًا إلى التقيّؤ على نفسي وعلى المتحدّثة الكريمة. الشغف بمجاورة الصغار خاصّ بمن يفهمهم، وأنا لا أفهمهم، ليست من لغة مشتركة بيننا، وتواجدي بينهم كان ضحكًا على الذقون. لكنّ هذا التدليس غير المتفق عليه مسبقًا بيننا هو من بنات أفكار حوراء، وآه من حوراء... عندما يتعلق الأمر بالسّعي في تحقيق أهدافها مستعدة لأن تتحوّل إلى خيّاطة أكاذيب.

قبل أن يُزَجّ بي في كابوس المواجهة العارية مع الأطفال، كنتُ أتمعّنُ تحوُّط الأمهات حول حوراء، خلال مقدّمتها الرنّانة التي حفّزت حواسهن وبثّت التشويق في احتفالهنّ المُمِلّ (أو هكذا ظننته). يا لموهبتها في التزحلق على أمواج الأحاديث كلّها! خصوصًا ما يتعلق منها بعالم الأطفال. أبدت الأمهاتُ حماسةً لفتح مساحات نقاش لا تنتهي معها، وهي لم تعدم حديثًا معهن. فإن لم يتحدثن حول قصص الأطفال، تحدثن حول الأطفال أنفسهم، وإن لم يفعلن هذا أو ذاك تحدثن حول أنفسهن وعلاقتهن بالأطفال. سمعتها وهي تعطي وصفة طبية لإحدى الأمهات بخصوص طفلها: "انقطي له الزيت في سرّته ودلّكيها". وفي مرة أخرى تطمئن أمًّا ثانية بشأن سلوكٍ مضطربٍ لطفلتها: "هذا طبيعي، لا تخافي، كلها حاجات نفسية للطفل". سرعان ما أدركتُ أنها فنّانة في ادّعاء المعرفة والاستحواذ على انتباه من حَولها، وأنّ هذا هو مبدأُ صنعتها، بل استراتيجيتها في الترويج لشخصها أولًا ولمطبوعاتها ثانيًا.

في هذه الأثناء، وددتُ لو أقدرُ على كسر لوح الصمت البارد بيني وبين الصغار، أقلُّها، حفظًا لماء وجهي بعد الصورة الودودة التي رسمتها لي حوراء أمامهم. أصابني تحديقهم المستمر بالحَرَج، عرفتُ أنّهم يتوقعون منّي مزحة أو مداعبة، مثلما اعتادوا عليه من البالغين، لكنني لم أستطع المبادرة بتلبية توقّعاتهم. كانت حوراء ترشقني بنظراتها الخاطفة بين الدقيقة والأخرى، فهمتُ أنها تحثّني على مخالطة الصغار، لكنني تظاهرتُ بعدم الفهم، وتركتها بين النساء تتقلّى من بلادتي كما دودة في مقلاة. وحين ظننتُ أنني سأتركها لمجابهة الموقف وحيدة وأنفذ بجلدي، أتاني ما خشيتُ منه...

تقدّم ابن الخامسة مني، بعيون متّقدة، يخطو ببطء، قال: "هل ينفع أن تكتب لي قصة؟" طَرَفتْ عيني إلى حوراء فوجدتُ ملامحها ترقصُ غبطةً بعد أن سمعتْ الصغير. أجبتُ الولد، مُصطنعًا مودّةً مُبالَغًا فيها: "عن ماذا تحبّ أن أكتب لك؟"

- "عن أيّ شيء.."

-"لا تجري الأمور بهذا الشكل، يجب أن تطلب منّي موضوعًا مُحدّدًا..."

وهبّت حوراء في هذه اللحظة إلينا كأنّما تسعى لإنقاذ الحوار، الذي كنتُ أعتقد نفسي أُبلي حسنًا فيه. وسّعت عينيها وبالغت في فغر ابتسامتها وهي تسأل الولد بلهجة طفولية محببة: "أتُحبّ أن يكتب لك صديقنا سامر قصة عن نونو الذي يكره الحليب على الفطور؟". فردّ الماكر، وجاءني إحساس أنه يتعمّد في هذه اللحظات إذلالي: "لا. أُريده أن يكتب لي قصّة عن العصفور الذي يهوى مرمغة جناحيه في روث الأحصنة". للمفارقة، وممّا فاجأني من نفسي، أنني استطعتُ فيما بعد تطوير فكرة المرمغة هذه لتصبح قصّتي الأولى للأطفال، والتي كنتُ من قبلها أنوي سحب خطوتي من هذا الكار إلى الخلف بهدوء.

بعد أن قلّمتُ مخالب لغتي، نقّيتُها من الموبقات حتى ما عدتُ أتعرّف عليها، وكتبتُ قصّتي الأولى للأطفال، لم يمضِ وقت طويل حتى ألحقتُ الثانية بها، فالثالثة. ويمامةُ قصائدي أثناء هذا تواصلُ اختباءها من جعبة قصّة إلى أخرى. إن رفّت بجناحيها هدهدتُها. إن أفلتت بحور الشعر من منابعها، واندفعتْ في شرايين ذراعيّ، موشكةً على التدفق من رؤوس أصابعي إلى أزرار الحاسوب حَبَسَها قنوطٌ ثقيل؛ جمّدها في مكانها، لم يُخلِ لها السبيل. وكأنّ هذه الأصابع، التي باتت تتحالفُ مع مطالب حوراء، أعجبها ملمسُ الورقات الخضر فأغلقت المرور أمام سُبُل اليمامة الفقيرة بالمتاريس.

مخالطةُ الأطفال في أماكن تجمّعاتهم ظلّت استراتيجية ناجحة لي في التعرف إلى اهتماماتهم وطرق تفكيرهم، لاستلهام القصص. لكنّ أزمتي الأولية بقيت طوال هذا الوقت على حالها؛ فقد كنتُ أبذلُ في مخالطتهم طاقةً أقوى من احتمالي، أتصنّعُ المتعة في استكشاف عالمهم، إلى أن بدأ يرهقني قناعُ التصنّع.

*

هأنذا مستغرقٌ في مراقبة الأطفال في المتنزّه، مثلما علّمتني حوراء أن أفعل كلّما جافاني الإلهام، فلا أعود أرى فيهم سوى كُتَل مجهولة مُبهمة على الفهم. عاد الصقيع يتغلّبُ على مشاعري نحوهم بعد أن نجحتُ في تذويبه سنتين كاملتين. مُدّة استطعتُ خلالها التفاعل بالحد الأدنى معهم، وكتابة عدد من القصص لهم.

أراني أنتكس من جديدٍ في علاقتي بهؤلاء الصغار، والظاهر أنني سئمتُ إقناع نفسي بأنّ لديّ اكتراث جادّ بمُجريات عالمهم. لماذا الخداع، قد أستلطفهم كزوّار يجلسون بتهذيبٍ إلى جانب ذويهم، لا ينطقون ولا يتحركون، أو كمارّين من جانبي على الرصيف، أيضًا بصحبة ذويهم، من غير همس ولا تحديق. مسافة أقرب من هذه إليهم، ومن غير وسيط، تصيبني بالدُّوار.

ساعةٌ إضافية تمضي وأنا أنقّلُ بصري في المتنزّه، وشاشة الحاسوب في حِجري ما تزال على بياضها. أحدّقُ فيها فتزغللُ عينيّ، ثمّ يغشى البياض كلّ ما حولي لهنيهة. صيحاتُ الأطفال المتراكضين هنا وهناك لا تفعلُ شيئًا سوى أن تشتت تركيزي. أقرّرُ رفعَ هاتفي والاتصال بحوراء...

- أهلًا يا باشا، طمنّي

- أنذا في المتنزّه، لم تختلف هذه الزيارة عن آخر زيارتين

- لمْ تكتب إذًا؟

- ولا حرف. وأظنني سئمتُ منهم تمامًا

- من تقصد؟

- الأطفال

- أخفض صوتك يا مجنون! هل من أناس حولك؟

- كل الناس حولي

- إن كان أحدهم يعرفك وسمعك تتحدث عن الأطفال بهذا الشكل سينتهي مستقبلك ككاتب أطفال، أتعلم!

- فلينتهِ

- كيف بمقدوري مساعدتك هذه المرة! اسمع، أتجرّب أن تكتب للناشئة؟

- تقولين الناشئة؟ فليذهب الناشئة إلى ...

 أنتبه إلى فتياتٍ بجواري وقد صمتن يتنصّتن كلامي. فأُصحّح باقي جُملتي: إلى جنةٍ عرضُها السماوات والأرض

- وووووف!  أنا مشغولة الآن، نتحدث لاحقًا، سلام

- سلام

ثوان قليلة تمرّ قبل أن تعاودني باتصال يبدو صوتها فيه مترددًا وجلًا:

- تحمّلني بهذا السؤال عزيزي. أتشعر أنّ لهذا الأمر علاقة بكونك لم تنجب حتى الآن؟

- هه! بأشدّ الصدق أقول لكِ: لا أشعر بعلاقة بين الأمرين. ولا أظنني سأكون تعيسًا إن لم أحظ بطفلٍ مدى الحياة

- غير معقول أنتَ يا سامر! تُشعرني أحيانًا أنك بحاجة إلى مصحّة نفسية. الطفل ليس تُحفة فنية قد تستلطفها أو لا، هنالك عاطفة غائرة في تكوينك تُحبّب الأطفال إلى نفسك...

أتردّد، إنها تُحرجني فعلا، وتُشعرني أنني صُبّة اسمنتية في هيئة بشرية.

- أنا لا أقول إنني أكرههم، بل إنني مجرد شخص-اعتبريني يا سيّدتي من مصحّة مجانين- لا يملك أيّ فضول تجاههم.

- يالها من مصيبة أن أتلقّى تأمّلات مريضة كهذه من شاعر وكاتب أطفال! اسمعني جيدًا، أنا التي سئمت تقاليعك المزاجية. بيننا عقد تُسلّمني بموجبه سلسلة من عشر قصص. بقي عليك من العشر اثنتان، تنتهي منهما ولتخطفك القرود بعدها..

- ......

- ألو... هل ما زلتَ على الخط؟

- ألم تقولي إنك مشغولة؟

تُقفلُ الخطّ في وجهي، هي في الغالب الآن تلعنُ جُدودي مثلما ألعنُ جُدودَها. أولعُ سيجارة، وأبدأ بالتساؤل عن الوقت الذي أصبح الأطفالُ فيه مهمّين إلى هذا الحدّ! كنتُ في يومٍ ما طفلًا في روضة، تقرأ له مربّيته القصص، لكنني لا أذكرُ أنّ جمهرةً من الكُتّاب، على شاكلتنا نحنُ فريق حوراء، كان يتوالى أفرادها في زيارتنا وتسجيل اهتماماتنا وحواراتنا في مفكراتهم، وكأنّهم مُفتشون حكوميون.

تنتابني رغبةٌ ملعونةٌ بأن أُربِضَ علّةً في قلبها ولا أُكمل كتابة السلسلة لها، ولتغرز رأس الدبّوس الذي بين منكبيها في الطين. ولِأحرمها شيئًا من سَكرة الاختيال الفارغ الذي تسعى وراءه عندما ترتاد محافلنا نحنُ الكتّاب بكعبها اللابوتين، نافشةً ريشها كالطاووس وهي تُعلن للملأ أنّ نصف الحاضرين يعملون لحسابها.

أُحضِّرُ هاتفي أُريد قذف قنبلة قراري لها في رسالة، أتذكّر فجأةَ صديقي الشاعر، الذي أخلص عمره لقصيدته. لقد فضحته زوجته مؤخرًا بين الأمم. فعلتْ هذا في اليوم الذي احتفى فيه على صفحته الفيسبوك بصدور ديوانه الخامس. علّقتْ له: "لقد خَرّبتَ بيتنا أيّها الجميل" قبل أن تطلب الطلاق. لقد بات في هذه المرحلة الرذيلة من العمر يعيش صدمة اكتشافه أنه توجّب عليه منذ خمس عشرة سنة توطيد علاقته مع ناشر سلسلة "فُلّة ومغامرات الربيع". ياللحياة عندما تدلعُ لك لسانها مثل طفلٍ وقح. أدسُّ الهاتف ثانية في جيبي وأبصقُ قهرًا.

ها هي تعاود الاتصال للمرة الثالثة!

- ماذا؟ هل نسيتِ شتيمة؟

- بحقّ الخبز والملح الذي بيننا أن تجيبني بصراحة، ألستَ تتقوقع الآن على الحاسوب كالسلحفاة وتراقب الأطفال من بعيد؟

 - بلى

ويندفع صراخُها عبر السمّاعة يُزلزلُ كينونتي السلحفاتية: تحرّك واندمج معهم! كم مرة عليّ أن أكرر هذا الكلام. كيف سيواتيك الإلهام من غير الحديث معهم؟ تقدّم إلى حيث يلعبون، اخلع عنك دروعك التي تحملها، وألقِ بنفسك في الرمل معهم، اعفرهُ على ملابسك، ارقص فيه، تحرّر من عُقدك البائسة وعُد طفلًا بينهم...

- حسنًا

- أتعدني أن تفعل؟

- نعم

- الآن؟

- الآن

- دعنا نرى إذًا، سلام!

- سلام

تريدني أن أخلع دروعي وأتحرر من عُقَدي وأرقص في الرمل! ههه، هذا بالضبط ما كنتُ أفعله عندما أطفشُ في براري الشِّعر. الشِّعر.. الشِّعر.. أتذكرُ يمامتي التي فقدتُها في جعبة إحدى قصص الأطفال فيبدأ الحنينُ يُنازعُ السيجارة في يدي إلى مصير أخواتها. أقلبُ عاليها سافلها بين أصابعي وأبدأ بسحقها: مرة، اثنتين، ثلاثًا، أربعًا، على أصابعي، على ظاهر وباطن كفي الأيسر. أفعلُ باليد اليمنى ما فعلتُ بأختها. مُسنّان على مقعدٍ مقابل تنفرُ عيناهما من محجريهما وهما يُراقبان ما أفعل. ليفزعا بقدر ما يشاءان، فسأجعلُ من جحوظ المفزوعين في تقاليعي المزاجية - على رأيها- آخر اكتراثي من الآن فصاعدًا، فما الذي يجعلني آبه ما دام الضميرُ نفسه لا يَفزَع وهو يُشاهد صاحبه يقوم بإطفاء السجائر في جلد يديه.

 ثلاثُ ساعاتٍ تمضي على جلستي ذاتها في المتنزّه، يمور الأسى خلالها في نفسي كما يمور زيتٌ كَدِرٌ في قِدرٍ فوق النار. وكأنّ دائرة الزمن تدور بي فتعيدني إلى جلوسي الأول على مقعد حوراء الوثير؛ يركدُ الزيتُ الحارّ في قاع بطني ويُحيلني إلى جثّة هامدة عن المقاومة. أرفعُ نظري ثانيةً إلى المرايا الشاهقة خلف سور الحديقة، لا، أنا لم أكن أتخيّلُ هذا! الزرقةُ السماوية في الأسفل بالفعل! والبنايات تغرقُ رأسيًّا فيها. بطني تُقرقع، أحسُّ هذا، هي إذن قادمة... الكلماتُ الأولى تفقسُ كالفقاقيع في حرارة الزيت الكَدِر، فتُسارع أصابعي الخائنة إلى نقرها على أزرار الحاسوب. الصفحةُ البيضاء في الشاشة أمامي تتنمّشُ سوادًا شيئًا فشيئًا. القصّة التاسعة من السلسلة في مخاض الولادة القيصرية، هانَت، انبسطي يا حوراء. أعرفُ أنني لستُ بخير. شعورٌ اعتدتُه في مثل هذه اللحظات. الشفرة. أمدّ يدي في حقيبة الحاسوب وأسحبها. أكشفُ عن ساعديّ المدميّين. اجحظا أيها المسنّان إن كان باستطاعتكما رؤية هذه الجراح القديمة الداكنة. وإن كنتما لا تريانها، فلكما أن تريا الجديدة وأنا أحزّها بالشفرةِ، وأُراقبُ الدّم ينزُّ منها قطرةً تَزهدُ بقطرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:​

عنكبوت متعبٌ من الزوايا

شروق يشبه الغروب كثيرًا

دلالات: