08-مارس-2020

والت ويتمان (mouseandhouse)

لا يختلف اثنان على أن الشعر في أمريكا، كما في كل مكان، يشهد أزمةً غير مسبوقة. فإذا كان عزرا باوند وتي إس إليوت الأمريكيا المولد قد أسّسا للحداثة في الشعر المكتوب بالإنجليزية عامةً في بداية القرن الماضي، يُجمع النقّاد على أن بداية القرن الحالي لم تشهد نهضةً تدفع به إلى آفاق جديدة من حيث طبيعته نفسها، باستثناء التنوع والشمولية التي سبّبها دخول أقليات لم تكن ممثّلة من قبل أو اختلاف المواضيع وانفتاحها على آفاق لم تكن واردة. بكلمات أخرى، يطال التجريب تيمة القصيدة أكثر من تقنياتها التي تمزج اليوم المدارس كلها تقريبًا.

يقول أول رئيس للجمعية التي تُصدر مجلة "شعر" الشهيرة جون بار في إحدى مقالاته بأن الشعر الأمريكي مستعدّ اليوم لشيء جديد، بسبب "مُحرّك الحداثة الصدىء" الذي لم يعد يلتقط الحياة المعاصرة.

وضع والت ويتمان المأخوذ بالسياسة أُسس قصيدة النثر الأمريكية، ثم امتدّ تأثيرها عربيًا إلى أمين الريحاني وجبران خليل جبران

اقرأ/ي أيضًا: تشارلز سيميك وقصيدة "رسالة"

ويُرجع بار سبب الركود الحالي إلى الطريقة التي يتعلّم بها الشعراء الكتابة اليوم، فما يسمى بالحداثة صار برامج كلاسيكية تُدرّس في الجامعات وتخرّج طلابًا برتبة شعراء، ضليعين في تاريخ الشعر وتقنياته ربما لكنْ بعيدين عن روحه، لأن معظم هؤلاء الطلاب يفكّرون بأن دراستهم للشعر في جامعات عريقة ستضمن لهم "مهنة الشعر" في المستقبل وهذا غير صحيح، فمعظم آباء الشعر الأمريكي أتوا من خلفيات غير أكاديمية أو أدبية. ويطرح بار سؤالًا جوهريًا هو "هل الشعر مهم حقًا؟" فاتحاً الباب أمام الجدل الأخلاقي للقصيدة التي لسبب ما تفشل في جذب الجمهور الذي – برأيه-  ما زال مهتمًا بالشعر كما كان في العصور كلها.

قصيدة الشارع الملوّنة

ليس هناك كلمة صعبة يقول إليوت الذي أدخل اليونانية ولغات كلاسيكية أخرى إلى قصائده و شكّل مع  باوند، الشغوف بتاريخ الشرق الأقصى الشعري من حيث اشتغاله على شكل الكلمات المكتوبة، صخرتا الحداثة، بعدما وضع والت ويتمان المأخوذ بالسياسة أُسس قصيدة النثر الأمريكية التي امتدّ تأثيرها عربيًا إلى أمين الريحاني وجبران خليل جبران. طبعًا شهد القرن الماضي مدارس كثيرة كانت انعكاسًا للتغيير الاجتماعي فالشعر الأمريكي هو الشعر الأكثر تنوعًا في العالم الناطق بالإنجليزية منذ انفصاله عن جذوره الأوروبية مع شعراء مثل آن ديكنسون وويتمان، حتى حركة البيت الشهيرة في الخمسينات مع ألن غينسبورغ وجاك كيرواك وغيرهما التي ركّزت على المضمون الثوري الهيبي للقصيدة محافظة على شكلها الكلاسيكي، ثم الستينيات التي شهدت "إعادة اختراع الذات الشعرية" باستخدام اللغة مع سيلفيا بلاث، وصولًا إلى السبعينيات و"حركة اللغة" التي ركّزت على النهايات المفتوحة وترك الاستنتاج للقارئ. المشهد اليوم يبدو أكثر ضبابية أو ربما صحّةً لأنه ليس هناك مدرسة واضحة كما في السابق: لا أيديولوجيا تسيّر القصيدة ولا شكل محدّد لها. الشعر الحالي مزج المدارس كلها، لا سيما مع انفتاحه على مجموعات عرقية لم تكن ممثّلة من قبل كالأفارقة الأميركان والمهاجرين، الذين أنزلوا الشعر إلى الشارع وعجنوا القصيدة بخبز نضالهم اليومي لتتخلّص من أوهام المركزية السابقة أو القوالب الجاهزة. هذا التنوّع الإثني ينعكس على عالم الجوائز الشعرية حيث يتزايد عدد الفائزين القادمين من خلفيات لم تكن ممثّلة شعريًا من قبل وهذا ما يحرج المؤسسات التقليدية ومدارس الشعر التي لا تنجح كثيرًا في استقطاب المواهب.

قصيدة من تحت المشرط

تصدر دوريات شعرية لا حصر لها في الولايات المتحدة اليوم، فبالإضافة الى مجلات تقليدية وعلى رأسها  "شعر" الصادرة في شيكاغو، هناك عدد لا يستهان به من المجلات الشعرية المتخصّصة بموضوع واحد يخرج من مؤسسات غير متوقعة: المستشفيات والمدارس الطبيّة، المطابخ، جمعيات الحفاظ على البيئة، جمعيات مناهضة العنف، وصولًا إلى مجلات الحيّ حيث ينشر الجيران قصائد لها علاقة بحياتهم اليومية. المجلات الشعرية الطبيّة يقوم بتحريرها أطباء وممرضون شعراء وتتحدّث عن كل شيء يحدث داخل جدران المستشفيات من جنون مواجهة الموت الدائمة وضعف الجسد الإنساني المريض.

الشعر الأمريكي هو الشعر الأكثر تنوعًا في العالم الناطق بالإنجليزية منذ انفصاله عن جذوره الأوروبية 

أما مجلات البيئة فشروط المشاركة فيها هي أن تدور القصائد حول الطبيعة، الطبيعة ليس بحسب المدرسة الرومانسية، بل كيف دُمّرت وسبل الحفاظ عليها. مجلة أخرى تفتح الشهيّة هي مجلة الطباخين الشعراء الذين يتناولون كل ما له علاقة بفن الطعام والمائدة، وقد يرفقون القصائد بوصفات معينة مستوحاة من الجو الشعري.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إليوت إلى إيميلي هيل.. حرب بين ميتَين

لم يعد هناك شيء غير صالح للكتابة الشعرية اليوم بحسب المشهد الأمريكي المعاصر، فالقصيدة تتجّه أكثر إلى التخصّص واكتشاف مواضيع بكر لم يتناولها الشعر من قبل، ربما لتتخلّص قليلًا من استنقاعها وعدم جماهيريتها. وبالإضافة الى هذا التجديد في المواضيع هناك طبعًا تجمّعات شعرية كثيرة حسب الانتماء كتجمّع الشاعرات النسويات أو الشعراء الملونين أو المثليين ومتحوّلي الجنس إلخ...أما عن انتشار الشعر فقد ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في نسف نظم النشر التقليدية وأتاحت لبعض الشعراء أن يتبنوا أسلوبًا أكثر تماشيًا مع روح العصر. القصيدة الأمريكية اليوم تبحث عن والت ويتمان جديد لترتمي بين يديه فيعيد لها الحياة أو لتقتله إلى الأبد وتعلن نهاية المدارس وربما الشعر نفسه؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

تشارلز سيميك.. ذبابة السيرة الذاتية

غينسبيرغ وفيرلنغتي.. تحية المسيرة العظيمة