16-فبراير-2021

تهدد الشعبوية مسارات الانتقال الديمقراطي (Getty)

غاية تشكيل الأحزاب والممارسة السياسية كما تطورت واستقرت في التاريخ الحديث هي الوصول إلى الحكم. يجتمع أفراد ويقررون تشكيل حزب، يحددون أدبياته ويضعون له برنامجا ويبدؤون في العمل في قطاعات مختلفة، نقابات وطلاب جامعات وجمعيات ومؤسسات، وغايتهم تجنيد العامة خلف الحزب وغاياته، وتنظيم فاعلين اجتماعيين، في مسار طويل يحتاج سنوات وعقودا، وصولا للمشاركة السياسية إما بالاحتجاج والحضور في المعترك العام والإعلام ثم المشاركة في الانتخابات وفرز مرشحين في المجالس الطلابية في الجامعات ثم النقابات ثم البلديات والهيئات المحلية، وصولا للبرلمان، وفي النظم الرئاسية ترشيح مرشح حزبي للرئاسة أو التحالف خلف مرشح. والغاية القصوى غالبًا ما تكون الحكم.

يجد "الشعبوي" نفسه رئيسًا، في أعلى سدة الحكم، وعندها يبدأ بالتفكير في ممارسة السياسة وهو عديم الخبرة بالممارسة السياسية. يريد التجريب، فيقامر بالناس ومصائرهم

وغالبا ما يكون المرشح في الديمقراطيات الحزبية قد تدرّج في المواقع والأدوار، من الجامعة حتى العمل حتى المجال العام ومؤسساته ثم البرلمان وصولا للرئاسة. يمر بمسار طويل من الفعل السياسي يستهلك منه عمره كله. وفي هذا المسار تتشكل رؤيته السياسة ويختبر الممارسة السياسية ويعرفها عن كثب. تبرد نظرته إلى هتافات الجماهير، ينظر بعين عقلانية لإغواءات التحركات الشعبية خلفه، يفكر طويلا قبل رفض مسار أو إعلان الانقلاب عليه، يملأ حاجاته النفسية إزاء لعب أدوار كبرى.

اقرأ أيضًا: عزمي بشارة "في الإجابة على سؤال: ما الشعبوية".. مصادر المفهوم ومساراته

ولكن ما الذي يختلف حين يصل إلى رأس الحكم، الرئاسة، شخص لم يعرف هذا المسار، لم ينضو إلى حزب ولم ينخرط في ممارسة سياسية طويلة؟

يحصل هذا اليوم، نراه في رئاسة دول، نجد رئيسا يمارس الحكم دون هذا المسار الطويل. بلغ الموقع بسبب حالة ديمقراطية ناشئة، مسار ديمقراطي انتقالي بعد ثورة وإسقاط للاستبداد، يشهد الواقع الكثير من انعدام اليقين ورثاثة أداء الأحزاب التقليدية والناشئة، ما يسمح بوجود أفراد من خارج هذا المسار، يحملون خطابات فضفاضة، قد يصوت لها الناس. خطابات صار ثمة اتفاق على وصفها بالشعبوية. تقوم أول ما تقوم على التهجم على السياسيين واعتبارهم طبقة فاسدة واحدة بلا تمايزات ولا اختلافات، يجب التخلص منها. ازدراء للسياسيين، يبدو عند التمعن فيه أن جوهره هو الطموح للعب دورهم.

يجد "الشعبوي" نفسه رئيسا، في أعلى سدة الحكم، وعندها يبدأ بالتفكير في ممارسة السياسة، يريد ممارسة السياسة وهو عديم الخبرة بالممارسة السياسية. يريد التجريب، فيقامر بالناس ومصائرهم، يجرّب بمؤسسات الحكم نفسها.

من اللافت هنا كيف يتجلى انعدام التجربة، ويتضح بعده النفسيّ. لا يعرف الشعبوي ما معنى تجييش الجماهير، لا يعرف الثمن المقابل لبث خطابات ضد قطاعات عامة من المجتمع، لم يجرب يوما أن يخطب في تظاهرة ويرى كيف تتحول الكلمات إلى أفعال، دموية في حالات كثيرة (يذكرنا هذا بترامب وغزوة الكونغرس). لم يشبع رغبته بلعب دور القائد في تنظيم طلابي في الجامعة، لم يكتف من هتافات الجماهير وهو يترشح داخل الحزب على منصب في هيئته القيادية، لم يختبر التفاوض داخل حزبه مع مختلفين معه، ولم يعرف الدبلوماسية وصياغة التوافقات داخل لجان برلمان، لم يسهر أياما يخطط لكسب أصوات لتمرير قانون في البرلمان، لم يظهر في مناظرات عديدة مع أحزاب أخرى.

تستيقظ فيه كل هذه الرغبات وهو رئيس، وتوفر له وسائل التواصل الحديثة إطلالة لحظية على الشعب، فيقول ما يريد، يلتقط الصور متى ما أحب ويصور فيديوهات يتناقلها مستخدمو وسائل التواصل في لحظات. وزيادة على ذلك تضطر وسائل الإعلام لنقل كل كبيرة وصغيرة يفعلها، فهو الرئيس.

ثم يدرك أخيرا أنه بلا تيار ولا جماعة، فيقرر تشكيلها وهو في الحكم، في الرئاسة. يطلق تياره مستخدما موقعه الأعلى في الدولة، ويصر على اتهام كل الأحزاب والتيارات السياسية بالفساد، ومزيج من تهم غامضة، التعامل مع الخارج، والمصالح المادية، والانحياز للباطل، يذكي بكل ظهور نظريات المؤامرة ويقول إنه لن يسكت وهو يعرف الكثير من المكائد وما يجري في السر.

تهم هي نفسها وقود وصوله إلى الحكم في الفترة الانتقالية الحرجة. بدل أن يكون عنوان التوافق والتعبير عن الإرادة الشعبية الجامعة بعد مسار ديمقراطي معقد، يصير عنوانا للشقاق والافتراق وتحطيم المسار الديمقراطي الذي أوصله إلى الحكم.

يقرر أن يصير سياسيا وهو في منتهى طموح السياسيين. تتفجر رغباته بسماع اسمه تهتف به الجماهير، بعد أن صار يحكمهم، ينتشي باختراع مناسبات للظهور بين الناس، يسد النقص الذي يعاني منه إزاء السياسيين التقليدين.

إن البعد النفسي بالغ الأهمية في حالة الشعبوي الرئيس، بل قد لا يجد المرء تفسيرا لما يجري على المستوى المشهدي الإعلامي إلا الدوافع النفسية. نحن نرى رؤساء وكأنهم في برنامج من تلفزيون الواقع، نراهم يوقعون ويكتبون الخطابات، ثم يطوونها في مغلف قشيب ثم ينادون حاجبا ليحملها إلى مرسال.. كل هذا مصوّر ويراه الشعب الغارق في الأزمات، من جوائح صحية وبطالة وتحديات أمنية وغياب يقين سياسي بالقادم.

في كتابه المرجع: "في الإجابة على سؤال ما الشعبوية"، يقول عزمي بشارة في سياق التحليل السياسي لظاهرة الشعبوية، إن خطورة الشعبوية تتمثل في تجاوزها الهرمية الحزبية التقليدية، ويشير بشارة إلى دور الحزب كوسيط، بين الزعيم والشعب، لأن العلاقة المباشرة بين الحزب والزعيم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مثلًا، تفتح المجال لكثير من التلاعب ونشر الأكاذيب والشائعات، ومخاطبة الغرائز من طرف الزعيم، رغم أنها قد تلعب دورًا إيجابيًا من ناحية توسيع حرية التعبير والوصول إلى المعلومة.

ويربط بشارة بين الموجة الجديدة من الشعبوية ووسائل التواصل الاجتماعي المتحررة من الرقابة الحكومية وغير الخاضعة للتحرير المهني، وغير الآبهة بتحري الحقيقة في الوقت ذاته. وهذه الوسائل تكسر بيروقراطية الوساطة التقليدية بين الزعيم والشعب، فيكفي أن يمتلك حسابًا في وسائل التواصل، لينشر ما يشاء أو يخرج في فيديو. ومن هنا افتتان الشعبوي بالمشهدية هذه ورغبات التصوير المستمرة. فوسائل التواصل الاجتماعي حسب بشارة لا تفتح المجال لنشر مشاعر الكراهية والخطابات العاطفية فقط، ولكنها أيضًا توفر مساحة لتنمية النزعات النرجسية والاستعراضية.

إن الشعبوية الأخطر كما ينظّر بشارة هي الشعبوية التي تتخلق في سياقات الانتقال الديمقراطي، وهذه تختلف عن الشعبوية في الديمقراطيات الليبرالية الراسخة، التي يعتبر أنها "أزمة دائمة" فيها، لكنها أزمة قابلة للاحتواء، ويمكن أن تتطور إلى خطوات إصلاحية.

إن خطر الشعبوية الأكبر إذَا يتجلى في مراحل الانتقال الديمقراطي بما تشمله من مؤسسات ديمقراطية لم تترسخ خلال عقود من الإصلاح والتعود، كما هو الحال في الديمقراطيات الليبرالية الغربية. وبالتالي فإن مهاجمة هذه المؤسسات ومحاولة نزع الثقة عنها يهدد مسار الانتقال الديمقراطي بمجمله. ومما يبدو جليا اليوم إلى درجة أنه قد لا يحتاج لتحليل هو موقف الشعبوي الرئيس من الانتقال الديمقراطي، ويصل الأمر ليقول صراحة إن ما تعيشه بلده ليس انتقالا ديمقراطيا. أما كيف وصل إلى الحكم إن لم يكن المسار انتقالا ديمقراطيا؟ فهذا مما يبدو الشعبوي غير قادر على تبريره بسهولة، ولذلك يسارع للحديث عن نفسه وكأن خلفه تيارا أو أغلبية شعبية، وهو في الحقيقة يحاول تشكيلها مستخدما موقعه في الحكم، ولأنه في الرئاسة وعلى رأس نظام الحكم يزعم أنه يمثل "الشعب".

أليس هذا ما يفعله ترامب حاليا؟ ومن قبله ماكرون؟ وهذا في ديمقراطيات ليبرالية مستقرة لديها مؤسسات قادرة على مواجهة تهديدات كبرى. أما في الحالة الديمقراطية الوحيدة عربيا بعد الثورات، ألا يبدو أن سيناريو شبيهًا هو تهديد وشيك للتجربة الديمقراطية برمّتها؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

المركز العربي للأبحاث في باريس يفتتح مؤتمره السنوي الثالث بنقاش عن الشعبوية

 عزمي بشارة وكتاب "في الإجابة عن سؤال: ما الشعبوية؟".. الديمقراطية في خطر