01-أكتوبر-2018

ليونيد أفريموف/رومانيا

صقيع 

كان  الطقس  شديد البرودة، السماء تبشّر بنزول الأمطار, هكذا حالها منذ أسبوع. 

نزلتْ من الحافلة حاملةً حقيبةَ ظهر سوداء تحتوي ما تحتاجه لسفرة قصيرة لا تتجاوز اليوم.

ارتدت قبعة معطفها ولفت جيدًا الوشاح الصوفي حول رقبتها وانطلقت بخطى حثيثة تعبر الطريق. عشر دقائق فقط وتصل شارع الحبيب بورقيبة. لم تكن تعرف العاصمة جيدًا لذلك اختارت ذلك الشارع الكبير كبر حلمها, رن هاتفها, نظرت إلى الرقم الظاهر على الشاشة ثم أجابت باقتضاب خمس دقائق وأصل.

أعادت الهاتف داخل حقيبتها التي تتدلى حتى فخذها, كانت تحملها بشكل مائل حتى لا تسقط من على كتفها وواصلت السير.

لمحتهُ يقف هناك بجانب تمثال ابن خلدون غير بعيد عن حشد من المتظاهرين, خطت نحوه بضع خطوات ثم لوحت له بيدها من بعيد وواصلت التقدم. لاحظت أنه قصير القامة نسبيًا وهي التي كانت تحلم برجل طويل تتعلم معه معنى الصعود.

تصافحا, قبلها على خدها ثم حضنها سريعًا, حاولت أن تشم عطره لكنه داهمتها رائحة التبغ وكأنها كانت تحتضن منفضة. عبر عن شوقه لها, كان صوته عذب تعشقه عندما يقرأ لها أشعار درويش, كانت تراقبه وهو يتحدث وكأنما أرادت أن تحفظ تقاسيم وجهه. فجأة رفعت يدها ووضعتها على وجهه, مررت أصابعها على حاجبيه, كانا طويلين وكثيفين وكأنهما سور يحمي تلك العينين السوداوين ثم تحسست شامة سوداء اختارت موقعًا جميلًا لتستقر فيه.

 

شامة
 

كلما فتحت كتابًا إلا وكنت فيه تطل بعينيك السوداوين تبتسم لي فألاحقك عبر الأسطر والكلمات. تفقد الفاصلة والنقاط معانيها, أقفز, أسرع علني ألمح وجهك هناك فلا أرى إلا تلك الشامة. كانت مرسومة بعناية على خدك الأيسر, هل تعلم كم أحب أن أمرر عليها أصابعي. 

علها كانت نقطة النهاية!

جبينك العريض يغويني, هل قلت لك سابقًا إنني أحب جبينك وإنني اشتهي أن اكتب عليه, أتأمل كل تفاصيل وجهك وأتحسسها بأصابعي حتى أصل إلى تلك الشامة المرسومة أقصى زاوية خدك الأيسر.
ألان فقط أدركت لماذا تشدني إليها, هي أيضًا تحب تشي غيفارا وتعشق أشعار درويش وأغاني إمام.

 

تذكرتين

اقتطعا تذكرتين وركبا المترو وهو لا يزال ممسكًا بيدها، لم تعد تحس بها، تلك اليد الباردة الصغيرة ذابت واختفت في كفه. ظلا واقفين وجهًا لوجه شبه ملتصقين. لوهلة أرادت أن تقترب أكثر لولا نظرات عجوز جالسة قبالتها؛ جعلتها تتراجع عن الفكرة. 
نزعت عنها طربوش معطفها فانسدل شعرها الأسود على كتفيها ومالت خصلة غطت نصف وجهها، فحاول أن يرفعها بيده، وعندما لامست أطراف أصابعه وجنتها، سرت في جسمها رعشة اهتزت لها كل أوصالها، فهتف لها الشوق احضنيه. لم تشعر بنفسها

إلا وهي تحتضنه، بل تعتصره، فاستسلم لرغبتها وأحاطها بذراعيه دون أن يهتما لنظرات العجوز الجالسة قبالتهما. تمتمت بكلام غير مفهوم واحتضنت عكازها الخشبي، وأغمضت عينيها.

نزلا من المترو وهو لا يزال محتفظًا بيدها في كفه. كانت الساعة حوالي الثامنة ليلًا , نظر إليها مبتسمًا محاولًا طمأنتها. حركة المرور بدأت تهدأ وانخفضت معها أصوات منبهات السيارات. لم تنطق بكلمة واحدة منذ أن نزلا من المترو عكس يدها التي كانت تثرثر بكلام كثير.  

 

صفعة باردة

لم يغمض لها جفن ليلتها. كان الفراش باردًا, الغرفة تعبق برائحة التبغ, كانت صغيرة تتسع فقط لسرير وخزانة تتدلى من رفوفها ثياب بعضها نظيف وأغلبها متسخ, قارورة عطر من النوع الرخيص, مشط ومرآة لا يتجاوز حجمها راحة اليد.

تقلبت يمينًا و شمالًا لكن بدون جدوى لم تقدر على النوم. هل من الطبيعي أن يجافيها النوم وأن تشعر بالبرد وهي التي كانت تتقد نارًا بين أحضانه, هل من الطبيعي أن تشعر بالبرد وهو نائم بجانبها؟

مدت يدها فوجدت جسمه دافئًا, حاولت الالتصاق به علها تشعر بالقليل من الدفء لكنه أدار لها ظهره وواصل النوم. لم يكن اللحاف نظيفًا, كان يحمل من البقع ما جعل لونه الحقيقي يندثر, خمنت أنها أثار من سبقنها إلى هنا, ربما يكون ماءً أو لعابًا أو دموعًا أو بولًا أو منيًا ربما كلها معًا. 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

هاروكي موراكامي.. كهف الريح

مونولوج أليساندرو باريكّو.. مسرح البحر مواجهًا يابسة الرواية