24-فبراير-2017

آلة سينما (Getty)

في مقال سابق، أشرتُ إلى ملاحظة تتعلق بتناقص استناد الأفلام المصرية إلى النصوص الروائية على عكس الشائع عنها في العقود السابقة، ما يستدعى التساؤل حول وجود نوع من الخصام بين السينما والرواية، رغم أن الإنتاج الروائي المصري شهد زيادة ضخمة في السنوات الأخيرة مع تكاثر دور النشر ووفرة الأقلام التي تستسهل كتابة الروايات.

وثمة تساؤل آخر بخصوص الأسباب التي تقف وراء الجفاء الواضح بين صناع السينما وكتاب الرواية، فهل هي أسباب إنتاجية أم لعدم وجود سيناريست جيد لصياغة الرواية أم لأسباب تتعلّق بالممثلين النجوم والمخرجين اللذين لا يحبذون العمل على تقديم معالجة سينمائية لإحدى الروايات؟ هنا محاولة أولية لفهم هذه المسألة:

غياب الفنان المثقف

منذ بداية الألفية الجديدة، شهدت السينما المصرية إنتاج أقل من 10 أفلام فقط مستندة إلى أصل أدبي، أبرزها "تلك الأيام" لأحمد غانم، و"عمارة يعقوبيان" و"الفيل الأزرق" وكلاهما لمروان حامد، و"مولانا" و"عصافير النيل" (2010) وكلاهما من إخراج مجدي أحمد علي.  

منذ بداية الألفية شهدت السينما المصرية إنتاج أقل من 10 أفلام ذات أصل أدبي، أبرزها "تلك الأيام" و"عمارة يعقوبيان" و"عصافير النيل"

ويُلاحظ قلة الإنتاج الأدبي الجاد مقارنة بالعقود الماضية واختلاف ثقافة الفنانين والممثلين الحاليين عن نظرائهم السابقين معطوفًا على ابتعاد الأدباء أنفسهم عن متابعة الإنتاج السينمائي المصري؛ ما يشي بوجود خلاف واضح بين الطرفين.

وفي تاريخ السينما أربعة أسماء لمخرجين قاموا بربط علاقة صداقة بين الطرفين هم صلاح أبو سيف وحسين كمال وهنري بركات وعاطف الطيب، وبرحيل هؤلاء الأربعة لم يعد هناك مخرج مؤمن بأهمية تحويل الرواية إلى فيلم بنفس الكثافة.

قد يكون هناك حالة أو أكثر مثل داود عبد السيد (والذي تكشف سيناريوهاته عن ميل أدبي واضح)، ولكن لا يوجد من هم في نفس الحماس القديم لتحويل الرواية إلى السينما.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم الشبكة.. أيدولوجية الانقسام في مواجهة الإنسان

المشكلة أننا بحاجة إلى مخرج مثقف واعٍ للأدب، فصلاح أبو سيف قدّم كل الأجيال الأدبية التي مرّت بحياته ابتداءً من نجيب محفوظ وحتى يوسف القعيد مرورًا بإحسان عبد القدوس ويوسف السباعي وأمين يوسف غراب. وأكاد أزعم أن هناك كتابًا متميزين في جيل الستينيات لهم أعمال تصلح للسينما ولم يقترب منها أحد إلى الآن، فما بالنا بالكتابة الجديدة والطفرة الروائية التي حدثت في المسهد الأدبي المصري خلال العقدين الأخيرين.

سوء فهم

يتصور بعض السينمائيين أن هناك روايات صعبة ليس من الميسور نقلها للسينما، وهذا غير صحيح لأن السينمائي المبدع يستطيع أن يستلهم أفلامه مهما كانت ليخلق عملًا ذا قيمة، فالمحكّ الرئيسي هو قيمة العمل الروائي أولًا وكيفية استلهامه ليصبح عملًا سينمائيًا ذا قيمة (ولنأخذ على سبيل المثال تعامل المخرج الأمريكي بول توماس أندرسون مع رواية صعبة ومعقدة للغاية مثل "رذيلة متأصلة" لتوماس بينشون).

أيضًا هناك سينمائيون يتصورون أن الأدب الحالي يميل للسرد الوصفي والذاتية أكثر من طرحه للقضايا الاجتماعية وبالتالي أصبح من النادر وجود قصص وروايات صالحة للسينما، وهذا ادعاء مردود عليه لوجود العديد من الأسماء الروائية التي قاربت مسائل وقضايا اجتماعية معلقة بحثًا عن تفسير لما وصلنا إليه حاليًا، وليس محمد ربيع وهاني عبد المريد ومحمد عبد النبي سوى أمثلة لروائيين تصلح كتابتهم لاستلهامها في أفلام تحرّك المياة الراكدة في بحيرة السينما الأدبية.

سيناريست جيد غير موجود

ثمة اعتقاد شائع لدى كثير من نقاد التيار الرسمي بأن خصام السينما المصرية والرواية يعود إلى التجريب والتغريب في الرواية المصرية الحديثة الذي يضع حائلًا واضحًا بين الكاتب والجمهور والسينما مما يجعل هذه النصوص صعبة التحويل إلى أفلام، ولكن الحقيقة أن الأسباب الإنتاجية وعدم وجود سيناريست جيد يستوعب الرواية هما ما يقودان إلى الحصيلة الفقيرة للنصوص الأدبية المقدمة على الشاشة، حيث أن الرواية تحتاج إلى تمويل وإنتاج ضخم وإلى سيناريست لديه حسّ أدبي بقدر ما لديه من حرفة بحيث يستطيع استخلاص القيمة الموضوعية للرواية وتقديمها في عمل سينمائي رفيع المستوى.

في تاريخ السينما أربعة أسماء لمخرجين قاموا بربط علاقة صداقة بين الطرفين هم صلاح أبو سيف وحسين كمال وهنري بركات وعاطف الطيب

اليوم معظم من يكتبون للسينما لا وقت لديهم لقراءة الروايات إلا للخطف منها، فيكتبون سيناريوهات تجارية فيها بعض التوليفات والمشهيات، بالإضافة إلى الكارثة الكبرى التي أصابت الحقل السينمائي وهي ظهور "سينما النجم"، حيث أصبح هناك نجوم على قدر كبير من الهشاشة بحيث تكتب لهم الأفلام خصيصًا.

يُلاحظ كذلك أن معظم كتّاب السيناريو الموجودين حاليًا يقومون باختيار فكرة أيًا كانت ويقومون بتنفيذها حتى يوفّروا على المنتج نفقات العمل، كما أن هناك نجومًا يعرضون فكرة للسيناريست يبني عليها الفيلم، فأصبحت "سينما النجم" هي المتحكمة في القضية حيث يريد أن ينتهي الفيلم بسرعة كي يتفرّغ لغيره، كما أن المنتج يحاول قصر نفقات الدفع للسيناريست بدلًا من الروائي والسيناريست معًا.

اقرأ/ي أيضًا: أفضل 10 أفلام بولندية في القرن الحادي والعشرين

نحتاج لسيناريست جيد "يهضم" الخطاب الروائي ويستطيع تقديم فيلم جدير بالرواية المأخوذ عنها و في الوقت ذاته ينال قبول الجمهور (الكيت كات مثلًا)، وفي هذه الحالة يمكننا أن نرى العديد من رواياتنا الحديثة على الشاشات، وبالتأكيد سيسهم ذلك في التقليل من وتيرة التصريحات التي تقول بإعجام الرواية المصرية الشابة وتغريبها وما إلى ذلك من كلام مجاني يضرّ أكثر مما يفيد.

المقاولات طبعًا

في ثمانينيات القرن الماضي وبعدما كان الانفتاح الساداتي قد دار دورته وفعل أفاعيله، شهدت السينما المصرية دخول عدد من المنتجين الجدد إلى الساحة وكان من نتائج ذلك ظهور عدد كبير من الأفلام سريعة التحضير والتنفيذ أطلق عليها النقاد "سينما المقاولات" وحمّلها البعض مسؤولية تسطيح الفكر ونشر التفاهة في أوساط الجمهور العريض.

نحتاج لسيناريست جيد "يهضم" الخطاب الروائي ويستطيع تقديم فيلم جدير بالرواية المأخوذ عنها و في الوقت ذاته ينال قبول الجمهور

وبعيدًا عن الحكم الاخلاقي على تلك الأفلام، فقد كان المناخ حينها مواتيًا لمثل هذه "الظواهر" السينمائية: أزمة اقتصادية، معدلات تضخم مرتفعة، انخفاض القدرة الشرائية للجمهور، حالة هروب جماعي من مشكلات الواقع.

والآن يرى كثيرون أن التاريخ يكرر نفسه مع إصرار المنتجين الرئيسيين في سوق صناعة السينما المصرية على الاعتماد على توليفات درامية مضمونة ومأمونة النتائج، بعيدًا عن إدخال أنفسهم في مغامرات لا تأتي لهم بالعائد المادي المرجو.

المعادلة بسيطة والنتيجة مضمونة: فيلم منخفض التكاليف بمجموعة من الوجوه الجديدة يوفّر ما تحتاجه الفضائيات لسد العجز في فترات بثها وملأ الهواء حرفيًا. هنا يصبح الحديث عن إنتاج شركة السبكي، أو غيرها، لفيلم مقتبس عن رواية مصرية جادة ضربًا من الخيال!

اقرأ/ي أيضًا:
بين فيلمي "saving private rayan" و"Hacksaw ridge"
أوسكار أفضل فيلم أجنبي (1990-2016) لمن ذهبت؟