"السيرة قبل الأخيرة للبيوت".. كيف تنسج الديار ذكرياتنا؟
27 سبتمبر 2025
"إلى الآن لم أجد إجابة.. ماذا تعني كلمة بيت؟ هل مجرد مكان أسكن فيه وليس مِلكي؟ متى أقدر على القول بأن هذا المكان هو بيتي؟ مكان تواجد أحبتي ليس بالضرورة بيتي، ولا المكان الذي أشعر فيه بالأمان". ربما تكون تلك هي الرواية الأولى التي أقرأها وتتناول البيوت بتلك الطريقة.
في رواية "السيرة قبل الأخيرة للبيوت" لمريم حسين (دار المرايا – 2024)؛ تبحث بطلة الرواية، مُدرسة الموسيقى ميمي في تنقلاتها عبر ثلاثة بيوت، بحثًا عن معنى الكلمة ذاتها. تتسم الرواية بروح دافئة ورقيقة، رغم أنها تحكي عن أزمات وتجارب صعبة في حياة شخصياتها، إلا أن بطلة الرواية تحكي كل ذلك بروحٍ ساخرة مُحبّة للحياة، وفيها شجن أصيل، لكن دون شعور بالكآبة أو القتامة.
تتخذ الكاتبة من البيت بطلًا أساسيًّا للرواية، تنشغل فصول روايتها، وعددهم 16، بثلاثة بيوت، وهي بيت "بشتيل" بمنطقة إمبابة وبيت "الشوربجي" بحي بولاق الدكرور وبيت "الهرم" الواقع في شارع العريش. ففي حياتها تنّقلت ميمي عبر البيوت الثلاثة، وفي كل بيتٍ تنقل للقارئ قصص جيرانها والعابرين بالمنطقة. كما أنها تطرح تشريحًا دقيقًا لكل منطقة شعبية سكنت فيها، وبدلًا من اعتبار تلك المناطق عارًا أو حديثًا خجولًا لا يجب مناقشته، تحكي عنه ميمي باستفاضة شديدة، بل بمحبة كبيرة لتلك المناطق الضيّقة على أهلها، والفقيرة في مواردها، لكنها رحبة في حكايات أهلها ومتناقضة في الآن ذاته.
تبحث بطلة الرواية، مُدرسة الموسيقى ميمي في تنقلاتها عبر ثلاثة بيوت، بحثًا عن معنى الكلمة ذاتها. تتسم الرواية بروح دافئة ورقيقة، رغم أنها تحكي عن أزمات وتجارب صعبة في حياة شخصياتها
ستأخذ ميمي القارئ من يده في رحلة عبر الثلاثة بيوت، وتبدأ في وصف كل بيت بدقة شديدة، رغم ضيقه ومحيطه الفقير، إذ أن بيت "بشتيل" مثلًا لا يوجد به مكان منفصل للحمام أو مكان للمطبخ، مع ذلك ستجعل ميمي من تلك المساحة الضيّقة لوحة حيّة بالتفاصيل، ومن شخوص كل بيت قصصًا متنوعة، أغلبها بائس صحيح، لكنها محكيّة بلسانٍ ساخر. مثلما حكت ميمي عن أبي أشرف الذي يعمل في ملء أسطوانات البوتاجاز في الدور الأرضي وهو يدخن السجائر.
ربما ذكّرتني هذه الرواية بروح فيلم "الكيت كات" (إخراج داود عبد السيد)؛ شخصيات متناقضة تعيش داخل منطقة شعبية خانقة، لكنك لا تملك إلا أن تحبها وتحب تفاصيلها وتتفاعل معها. فالكتابة عن التفاصيل اليومية الدقيقة بأسلوب سردي بديع، ربما يشبه في عاديته المتتالية القصصيّة "حجرتان وصالة" لإبراهيم أصلان، لكن مريم تمتلك أسلوبًا متفردًا يتسم بدِقة التفاصيل؛ ساعدها على ذلك دراستها للسيناريو، وكذلك لغتها التي تجمع بين الفُصحى والعامية. وهو مزيج تحبّه مريم وترى أن هذه اللغة هي الأقرب لها. فلا تستغرب حين ترى لفظةً عامية بين كلمات الفصحى، كأنها اللغة التي يتحدث بها شخصيات الرواية، إذ تنتصر مريم لغواية الحكي.. الحكي فقط.
لا توجد حبكة رئيسية في الرواية، بخلاف انتقال أسرة ميمي من بيتٍ لآخر، فالبيت هُنا هو البطل كما ذكرت، وبجانب البيوت الثلاثة الرئيسية، يوجد بيت "الفيوم" والذي تذهب إليه الأسرة في الإجازات، والمَدرسة التي تعمل فيها ميمي في منطقة "هضبة الأهرام"، ومكتب أبيها حسين المحامي في بولاق الدكرور.
السرد داخل الرواية ليس خطيًّا، بل الحركة فيه أشبه بالتموجات، فمن بيت الهرم، وهو آخر منزل سكنت فيه البطلة، إلى بيت الشوربجي، وهو ثاني منزل سكنت فيه، ثم إلى الهرم، وبعدها إلى بشتيل. فلا يوجد ترتيب منطقي هنا، بل كل حكاية تفرض نفسها، ونظل نتأرجح في الزمن هكذا. ربما كان ذلك الحل الأفضل، لأننا نعلم منذ البداية بموت الأب حسين، ثم تحكي لنا ميمي عنه بعد ذلك، وعن قرب علاقتها القريبة به.
"ماذا تعني كلمة بيت؟".. هو السؤال الرئيسي للرواية، وهو السؤال الذي سألته لنفسي أيضا خلال قراءتها، كان الانتقال من بيت لآخر خيارًا مفروضًا على ميمي وشقيقاتها رنا وريم، إذ أن أبيهم المحامي عشق الإقامة في المناطق الشعبية، بين ثراء شخصياتها، التي ينقلها إلى رواياته وقصصه، ولكن ذلك الخيار سيجعل العلاقة تتوتر بينه وبين زوجته سوسن التي أحبته وانصاعت لخياره ذلك.
السرد داخل الرواية ليس خطيًّا، بل الحركة فيه أشبه بالتموجات، فمن بيت الهرم، وهو آخر منزل سكنت فيه البطلة، إلى بيت الشوربجي، وهو ثاني منزل سكنت فيه، ثم إلى الهرم، وبعدها إلى بشتيل
ربما يظن البعض أن الرواية هي سيرة ذاتية لكاتبتها، خاصة أن البطلة اسمها ميمي، وهو كُنيّة -أو اسم الغنج - لمريم، كما أن والدها في الواقع اسمه حسين، ويعمل محاميًّا وروائيًّا، ومسقط رأسه هو الفيوم، لكن الرواية هنا أكبر من السيرة الذاتية، إذ أنها ضمّت شخصياتٍ عديدة متخيّلة، وتفاصيل كثيرة ليست حقيقية. كما نفت مريم بنفسها في حواراتٍ صحفية ولقاءاتٍ تلفزيونية أن تكون الرواية سيرة ذاتية.
تمتلئ الرواية بحيواتٍ كاملة، نرى ألعاب الأطفال وحيلهم، والأغاني التي تربت عليها ميمي ورنا في صغرهما "العيان أديه حقنة والجعان أديه لقمة، بدي أزورك يا نبي ياللي بلادك بعيدة، فيها أحمد وحميدة"، علاقتهم بوالدهما حسين، واللغة المختلقة بينهما. تشتاق ميمي لكل منزل عاشت فيه، رغم ضيقه وعشوائيته، ورغم كون أسرتها مختلفة تمامًا عن جيرانها. فهي كما تقول، يحبون القراءة والفن والموسيقى، بينما جيرانها ربما بالكاد "يفكوا الخط"، ومع ذلك يتآلفون مع تلك الحياة. ومع انتقال ميمي إلى بيت الشوربجي، تشتاق إلى بيت الطفولة في بشتيل، وبعد وفاة الأب وزواج الأختين الصغيرتين تنتقل ميمي ووالدتها إلى بيت الهرم، فتشتاق إلى بيت الشوربجي الذي قضت فيه فترة مراهقتها وشطرًا من شبابها، حتى أنها في البداية تخطئ وتعود بعد عملها إلى شارع "العشرين" في منطقة فيصل، وهو شارع في نهايته شارع الشوربجي، حينها تتذكر أنها انتقلت إلى منزل آخر.
قبل مغادرتها بيت الشوربجي قررت ميمي تصوير فيديو على هاتفها المحمول لتفاصيل المنزل الذي لم يكن أفضل بيت ولا الأكثر اتساعًا، لكنّه حمل أيامها وذكرياتها ومواقف عاشتها، لن تعود ثانية. تجيب ميمي في الفصل الأخير عن السؤال الذي يستمر طِيلة الرواية، فتقول: "أتعلم يا صالح متى أقدر على القول بأن البيت الذي أتواجد فيه هو بيتي؟ فقط عندما أقرر هدم حائط فيه ولا يعترض أحد أو حتى يتساءل. بل ربما يعرض المساعدة".