01-يونيو-2022
غلاف مسرحية "السيد بونتيلا وتابعه ماتي"

غلاف مسرحية "السيد بونتيلا وتابعه ماتي" (ألترا صوت)

في مقال بعنوان "برتولد، ما الذي سيبقى منك؟"، يتحدث ميلان كونديرا، بأسى، عن تلك الدراسات الأكاديمية التي تتناول الحياة الشخصية للأدباء بوصفها منبعًا لأفكارهم وصيغهم الفنية. أو، بالأحرى، بوصفها بديلًا عن ذلك. "لكي يعثر على الخطأ المقنع، يجب على الباحث.. أن يتمتع بوهبة المحقق وبشبكة من المخبرين. ولكي لا يفقد مقامه المعرفي العالي، عليه أن يستشهد بأسماء الوشاة في أسفل الصفحة، لأنه وبهذه الطريقة يتحول القيل والقال في نظر العلم إلى حقيقة".

الحوارات الذكية المرحة المترعة بالتأمل الذكي والمفارقات الكاشفة، وتلك الصيغة الشعبية البسيطة المزدانة بمفردات فولكلورية، هي ما تبقى اليوم من مسرحية "السيد مونتيلا والتابع ماتي"

النموذج الذي يستوقف كونديرا هو كتاب عن الأديب والمسرحي الشهير برتولد بريخت، كتبه أستاذ في الأدب المقارن في جامعة ميريلاند. وبعد أن "أثبت" الباحث، وبالتفصيل، "دناءة روح" بريخت (شذوذه الجنسي، ساديته، استغلاله لمساعداته، قسوة قلبه، ميوله النازية، ميوله الستالينية..)، يصل إلى جسده "وتحديدًا إلى رائحته النتنة التي يكرس المؤلف لوصفها مقطعًا كاملًا"، مستشهدًا بامرأة كانت تعمل مساعدة لبريخت، ويوثق المؤلف هذا "الكشف العلمي"، مؤكدًا أن المساعدة أخبرته بذلك يوم الخامس من حزيران عام 1985 "أي ثلاثون عامًا بعد وضع ذو الرائحة النتنة في التابوت".

ويتساءل كونديرا بسخرية ممزوجة بمرارة: "آه يا برتولد، ما الذي سيبقى منك؟.. رائحتك الكريهة التي احتفظت بها مساعدتك المخلصة مدة ثلاثين عامًا، والتي أعيد استخدامها فيما بعد من قبل العالِم الذي أرسلها إلى مستقبلنا الألفي، بعد أن قام بتكثيفها عن طريق المخابر الجامعية الحديثة".

تشاؤم له ما يبرره، ولكنه ينطوي على مبالغة. فقلائل هم الذين سمعوا عن تلك الرائحة، وقلائل كذلك هم الذي سيهتمون إن سمعوا، مقابل الكثيرين الذين لا يزالون يقرأون "أشعار بريخت"، و"قصص من الروزنامة"، و"السيد بونتيلا وتابعه ماتي".

في مسرحيته "السيد بونتيلا وتابعه ماتي"، ينسج برتولد بريخت على منوال "دونكيشوت سرفانتس"، فهنا ثمة سيد غريب الأطوار وثمة تابع ترهقه مغامرات سيده العبثية. غير أن فارس بريخت من نوع مختلف تمامًا، إنه إقطاعي فنلندي يملك عددًا من الضياع والغابات بفلاحيها، وهو يريد الخروج لإصلاح العالم فقط عندما يكون سكرانًا! يقرب الفلاحين إليه، ويغدق عليهم العطايا والمنح، ويعلن رفضه التام لهذه التراتبية البغيضة التي تفصله عنهم فتجعله سيدًا وتجعلهم أقنانًا، مهدرة شرط الإنسانية الأساس: المساواة.

بيد تمسك زجاجة خمر، ويد أخرى طليقة تشوح ذات اليمين وذات الشمال، ينطلق السيد بونتيلا بخطب رنانة لا تنتهي عن علاقة الأخوة التي تجمع البشر، وعن الظلم الذي يحيق بالفقراء، وعن قسوة الأسياد ولا سيما هو نفسه.

ولا يتوانى، في ليلة تصل فيها نشوة الخمر أوج هذيانها، عن الخروج إلى القرى والبلدات المجاورة ليداوي جراح الشابات الفقيرات العازبات. فيخطب، دفعة واحدة، أربعًا منهن! ثم يقرر إنهاء خطبة ابنته الوحيدة لدبلوماسي مرموق وتزويجها لسائقه وتابعه ماتي!

وما أن يصحو، إثر ليلة نوم عميق أو حتى إثر فنجان قهوة ثقيل، حتى يعود عن كل قراراته السخية، ماسحًا كل أثر لفلسفته الإنسانية، ليغدو مجددًا ذلك السيد الإقطاعي، بصياحه المدوي وأوامره الفظة وألفاظه الجارحة.

أما ماتي، فهو ليس مجرد تابع تقليدي. ففضلًا عن كونه شاهدًا ومراقبًا، فهو شارح ومعلق ولاعب أساسي. بيده مفاتيح سيده، وهو لا يكف عن التلاعب به وكشف تناقضاته، وفضح ازدواجيته الدائمة. عندما يقرر سيده، في لحظة انطفاء بفعل السكر، أن يزوجه ابنته، فإن ماتي لا يبتلع الطعم فيقبل هذه الهبة التي لن تلبث أن تُسحب منه في الصحو، ولكنه كذلك لا يجازف في الرفض المباشر.

هكذا يقرر إخضاع ابنة سيده لاختبار قاس لمعرفة مدى صلاحيتها لتكون زوجة سائق فقير، وفي مشهد ربما يكون الأكثر كوميدية نرى السيد بونتيلا وهو يعلن فجيعته بفشل ابنته أن تكون امرأة فقيرة مثالية!

لكي يعثر على الخطأ المقنع، يجب على الباحث.. أن يتمتع بوهبة المحقق وبشبكة من المخبرين

كتب بريخت مسرحيته هذه في الأربعينات من القرن المنصرم، في زمن آخر وعن زمن آخر، فما الذي بقي منها اليوم؟ لقد غدا الإقطاعي وتابعه مفردتين منقرضين، ولكن علاقة القوة التي جمعتهما لا تزال قائمة، والتراتبية التي تفصل البشر بقسوة لم تنقرض بعد. وبإمكاننا أن نضع، بدل الإقطاعي، مديرًا في بيروقراطية حكومية، أو رئيس شركة في قطاع خاص، أو موظفًا حزبيًا رفيعًا في دولة يحكمها حزب واحد.

أما ماتي فهو كل هؤلاء التابعين لهؤلاء السادة..

يبقى أيضًا تلك الحوارات الذكية المرحة المترعة بالتأمل الذكي والمفارقات الكاشفة، وتلك الصيغة الشعبية البسيطة المزدانة بمفردات فولكلورية والتي شكلت إطارًا للمسرحية. يبقى الفن.. فن المسرح.