25-سبتمبر-2018

تيم ساينزبيري/ويلز

تُبنى القصص في مجموعة "السيد أزرق في السينما" الصادرة أخيرًا عن دار الأهلية  للقاص الفلسطينيّ أحمد جابر، في مساحةٍ هي مزيح بين الواقعية والفنتازيا والسوداوية الخافتة والروحانية في آن. 

يتمكّن أحمد جابر من خلال تجارب كتجارب الموت والألم، من تكوين صورة عن الإنسان المغلوب، الذي جل ما يُحاول صنعه أن يتخلّص من واقعه 

في حين تُبنى الشخصيات في هذه القصص من زاوية تجهيزها لامتصاص ما يحدث في محيطها من أزماتٍ وصدماتٍ وأحداث غير واقعية، دون أن تكون مضطَّرة لتقبّلها أيضًا. كما يختار جابر من أمكنةٍ بعيدة مسرحًا لهذه القصص، ومن شخصياتٍ تحمل أسماء أجنبية أبطالًا لها. هو يبتعد عن واقعه اليوميّ، لا سيما الفلسطينيّ، مُحاولًا من خلال ذلك تقديم كتابة جديدة ومُغايرة تنهض على الاعتناء باللغة والأحداث الغرائبية. وإن بدت هذه القصص بسيطة في بنائها وأحداثها، إلّا أنّها مكتوبة بلغة مجازية تحتمل التأويل، وأبعادٍ نفسية متعدّدة.

اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى السيد عين: الاسكندرية والخريف

يبرز رأس فرانز كافكا حيًّا من جديد، أو بصورةٍ أدق، هاربًا من قبره، ومتسوِّلًا في عالمٍ يبتعدُ مسافةً هائلة عن ذلك الذي عاش فيه قبلًا. إعادة أحياء فرانز كافكا هنا، في زمنٍ غير زمنه، وربّما مكانٍ غير مكانه أيضًا، تبدو محاولة من الكاتب لتسوية خلاف كافكا العميق مع الحياة، ونفوره منها، متوسِّلًا هنا الشهرة التي حقَّقها الكاتب التشيكيّ بعد وفاته، بالإضافة إلى تبدّل الأزمنة، سبيلًا لردم هذه الهوّة العميقة بين الاثنان. 

[[{"fid":"103042","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"غلاف المجموعة القصصية","field_file_image_title_text[und][0][value]":"غلاف المجموعة القصصية"},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"غلاف المجموعة القصصية","field_file_image_title_text[und][0][value]":"غلاف المجموعة القصصية"}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"غلاف المجموعة القصصية","title":"غلاف المجموعة القصصية","height":375,"width":277,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

لكنّ ما يبدو واضحًا وصريحًا أنّ هذا الخلاف، من الأساس، غيرُ قائمٍ بين فرانز كافكا والحياة بعينها، إنّما بينه وبين من يعيش على متنها فقط. ويختزل أحمد جابر ذلك في قوله مُخاطبًا كافكا: "لستَ بحاجة لإخفاء وجهك، فلا أحد ممن يعرفونك ما زال حيًّا". وأيضًا: "كنت طوال الوقت لا تأتمن أي بشريّ". جمل كهذه لا تسعى لإعادة إحياء علاقات كافكا المضطّربة مع محيطه وتذكيرنا بها فقط، وإنّما تُشير إلى المآزق الوجودية التي يختبرها البشر يوميًا في علاقاتهم ببعضهم البعض. عوضًا عن أنّها تُثير عند القارئ أسئلةً مثل: ماذا لو كنّا جميعًا مثله؟ ماذا لو أنّنا أصبحنا يومًا كافكا الذي اختار أقلّ الأذى؟

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة أمير داود

فجابر، وإن أهمل تفاصيل كهذه في بعض قصصه الأخرى، إلّا أنّه يفعل ذلك لغرض بناء إضاءاتٍ غير مُباشرة على شخصياتها التي غالبًا ما تُلتقط وهي تعيش أقصى توتّراتها النفسية غير الظاهرة بشكلٍ صريح للقارئ. 

لا يسعى أحمد جابر خلف الخيال لتقديم جديدٍ يُذكر لجهة المضمون أو السرد فقط، بل لبلورة مأزق الفرد الغارق في أتون هزائمه الصغيرة والكبيرة والخافتة

تتبدى المفاجئة، ربما، حين يحوّل أحمد جابر هذه التوتّرات إلى مساحةٍ لكشف مكنونات هذه الكائنات التي تسير، أغلبها، إلى العزلة أو فقدان الذات أو ذوبانها في ذاتٍ أخرى. لا تبدو الجهة هنا مهمّة، المهم أنّها تبتعد في سيرها عن الحياة/ الواقع المتوتر، وتتوغل عميقًا في الخيال وعوالمه الغريبة، فنجد رجلًا يعثر على نظّارة غريبة تُتيح له رؤية ما يفكّر به الآخرون، شرط أنّ الفكرة تتجسّد على هيئة ظل. النظّارة بحدّ ذاتها انتهاك لخصوصية البشر، وأمر وجودها غريب دون شكّ، ولكنّ ما هو اشدّ غرابة هي الأفكار التي رآها ذلك الرجل تحوم حول صاحبها: "عصا بظلّ عجوز، بيتًا قديمًا بظلّ بندقية، ديوان شعر بظلّ نيرودا، سيارة بظلّ أشبه ما يكون بخارطة ألمانيا... مقعد خشبي بظلّ فتاة توفّيت فوقه لتوّها". وفي قصّة أخرى، يضعنا صانع "كأنّ شيئًا كان" أمام رجل آخر يضحك، يقهقه، قبل أن يولول ويبدأ بالبكاء لأنّ ما علقت به سنّارته لم تكن سمكة ضخمة، وإنّما طفلًا غريقًا.

هكذا يتمكّن، من خلال تجارب كتجارب الموت والألم، من تكوين صورة عن الإنسان في أيامنا هذه، حيث يظهر كائنًا مغلوبًا على أمره، جل ما يُحاول فعله أن يتخلّص من واقعه المرير بطريقةٍ يضمن بها حياةً مستمرّة. مُخيّبًا للآمال، مشتت، وهاربًا قدر ما استطاع إلى ذاته. ولا يسعى أحمد جابر خلف الخيال لتقديم جديدٍ يُذكر لجهة المضمون أو السرد فقط، بل لبلورة مأزق الفرد الغارق في أتون هزائمه الصغيرة والكبيرة والخافتة الذي تدفعه لبناء عوالمه الخاصّة، حيث من الممكن أن يصنع انتصاراته المزيّفة هناك، ويبني حياةً تُسير وفقًا لرغبته الشخصية، حياةً قد لا تتعدّى كونها انتقامًا من حياة أصلية سبق وأن سحقته قبلًا. وفيها، يصير من الطبيعي أن يجلس سور خشبي إلى جوار كائن بشري ليشاهد فيلمًا برفقته. أو يُسافر رجلًا من دولة إلى دولة أخرى مشحونًا داخل صندوق كرتوني. أو أن يصير الدم بديلًا للماء، وأن ينزف الجسد ماءً بدل الدماء.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عنف فرانز فانون.. أسئلة في التحرر ونفي التشيؤ

الوحيدون