ينقسم اللصوص في الذهنية الشعبية السودانية، لصغار يتسورون المنازل والمتاجر في جنح الليل ويخرجون بما يسد رمقهم، وأخرين يمتطون الفارهات ويمارسون عملهم في وضح النهار، تحت سمع الدولة وبصرها، ومعظمهم يحظون برعاية ودعم حزب "المؤتمر الوطني" الإسلامي الحاكم، الذي سرق من السودانيين ديمقراطيتهم في منتصف ليلة الثلاثين من حزيران/يونيو في العام 1989 بانقلاب عسكري ثلثه "أسلمة" للمجتمع كانت نتيجتها أن أدخل الإسلاميون الناس للمساجد عنوة، ليتركوها لهم ويدخلوا الأسواق مبتغين متع الدنيا وملذاتها، حسب السخرية الشعبية الشائعة التي تفسر نشوء طبقة الأثرياء الجدد المفاجئة.
وقد ظلت سياط النقد تلاحق أثرياء النظام الجدد، لتتوالى فضائحهم في مدينة لا تعرف الأسرار، وإزاء هذه الألسن الحداد، كانت سلطات "الدولة/الحزب" مكرسة لتخفيف وطأة الوصمة على منسوبيها فأسمت سرقتهم في المحاضر الرسمية بالتجنيبات تارة والتجاوزات تارة أخرى، ولم تعترف به كفساد الا مؤخرًا لتشكل مفوضية خاصة لمكافحته لم تصمد لأكثر من عام، وسرعان ما يتعرض رموز النظام بدءًا من رئيسه البشير وحتى أصغر أعضائه للهجوم من جديد، ففي كل يوم يزدادون فيه غنىً، ترتفع معدلات الفقر وأسعار الدولار وتضخم الاسعار.
للمرة الأولى يحتفي السودانيون على وسائط التواصل الاجتماعي وفي مجالسهم الخاصة بلصوص سرقوا مبالغ مالية كبيرة، لتتصدر أخبارهم صحف الخرطوم
الا أن الأسبوع الماضي كان استثنائيًا تمامًا، فللمرة الأولى يحتفي السودانيون على وسائط التواصل الاجتماعي وفي مجالسهم الخاصة بلصوص سرقوا مبالغ مالية كبيرة، لتتصدر أخبارهم صحف الخرطوم، التي خرجت في اليوم التالي، مشيرة إلى أن زوار الليل استولوا على 28 ألف يورو، و32 ألف دولار بالاضافة لمبالغ أخرى بالعملة المحلية وعملات أجنبية أخرى، من شقة الدكتور صابر محمد حسن، رئيس القطاع الاقتصادي بالحزب الحاكم، ومحافظ البنك المركزي السايق.
وفور ذيوع خبر السرقة المليارية في الخرطوم، تناثرت التساؤلات حول ثروة القيادي الإسلامي، فإذا كان يحتفظ بهذه المبالغ الكبيرة في شقته، ترى كم ستكون قيمة أرصدته في البنوك العالمية والمحلية؟ وما علاقة هذه المبالغ بالسوق السوداء للدولار التي أصبحت المتحكم الأوحد في أرزاق الناس، وتناسلت التساؤلات حول المبالغ المماثلة التي يكنزها قادة آخرون، ولأن الحديث عن فساد النظام وقادته في السودان، أضحى مملًا لكونه أصبح من المعطيات التي يعلمها القاصي والداني، انتقل المغردون في "فيس بوك" و"تويتر"، للاحتفاء باللصوص الذين اقتحموا شقة محمد الحسن، في تعبير عن ضيقهم من الفساد الذي أفقرهم، واليأس المقيم الذي أصابهم بعد أن استطال ليل الظلم والفقر والجوع والتشريد.
اقرأ/ي أيضًا: لا أمل
وقد بلغ المغردون في احتفائهم درجة توصيف طرق للنجاة بالمبالغ الكبيرة، مبينين لهم كيفية استثمارها بشكل أمثل خارج السودان، على ذات منهاج قادة النظام في تهريب الأموال.
سهر كثيرون من أجل الصلاة لمن سرقوا، متمنين من الرب أن ينجيهم من مقاصل النظام، لتزداد وتيرة صلواتهم وتعليقاتهم الساخرة، عقب إعلان الشرطة السودانية عن تمكنها من توقيف أحد المتهمين دون أن تحصل على الأموال، فالشرطة ألقت القبض على "عروسين" في حلة زفافهما بعد أن أشارت التحريات إلى أنهم أنفقوا الأموال على "ترتيبات الزواج" الزوج بتهمة السرقة والزوجة بتهمة استلام مهر مسروق، لتتجدد الإشادة بالزوجين اللذان يقضيان شهر العسل في الزنزانة، وهي المفارقة التي دفعت كثيرين لتعداد الزيجات التي كان يمكن أن تتم بمبالغ محافظ البنك المركزي السابق، مشيرين إلى أن الشباب اليائس اختار "طعن الفيل" مباشرة، في إشارة للتفاوت الطبقي الذي تزداد حدته كل يوم بسبب انفراد حزب واحد بالسلطة وتمتع بطانته بثروات البلاد الغنية، فيما يموت شبابها في البحر بحثًا عن عيش كريم، ومن ينجو من مصيره تتلقفه المنافي محرومًا من الأهل والنيل ومراتع الصبا.
يقول أحد المغردين: "بسبب أمثال صابر محمد الحسن يقضي ملايين السودانيين، أكثر من نصف حياتهم في المنافي لأجل شراء منزل وإكمال ترتيبات الزواج في حين بلادهم بمساحتها الشاسعة ومواردها الضخمة تتسع لضعف عددهم".
هذه العبارات التي تشير إلى غياب العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة، لن تمثل شيئًا لمحمد الحسن الذي أدار المصرف المركزي وتحكم في اقتصاد البلاد لما يربو عن الـ16 عامًا، فما يهمه الآن أن يمثل "العروسين" وغيرهم أمام القاضي حتى يسترد "أمواله" التي بددوها في زواج سخيف، كان بإمكانهم أن يعيشوا محرومين منه مثل الآلاف من أبناء الشعب الفقراء.
لكن متى كان محمد الحسن يحفل كثيرًا بأحكام القضاء؟ وهو أول مصرفي سوداني ضرب بها عرض الحائط في قضية "متقاعدي البنوك الحكومية" الشهيرة، فمنذ أن تسلم الرجل وعصبته السلطة أحال 2000 من موظفي القطاع المصرفي السوداني إلى التقاعد الإجباري فيما عرف حينها بـ"الصالح العام".
بيد أن المصرفيين لم يصمتوا على قراراته، ليخوضوا معركة استعادة الحقوق بعد أن فقدوا عملهم وتشردت أسرهم، ليقضي منهم 500 متقاعدًا نحبه من القهر وجبن الرجال، الا أن المعركة تصاعدت بالحملات الإعلامية والوقفات الاحتجاجية، وغيرها من طرق النضال السلمي، وحتى صدور القرار الوزاري رقم "1110" للعام 2000 الذي ألغى اللائحة الخاصة بحقوق وامتيازات معاشيّ البنوك الحكومية، لينقلوا معركتهم لساحات التقاضي مقدمين عريضة لدائرة الطعون الإدارية بالمحكمة العليا، التي جاء قرارها بإبطال مفعول القرار الوزاري، وهو الأمر الذي أكدت عليه محكمة الاستئناف العليا، ودائرة الطعون الإدارية بالمحكمة العليا، التي أيدت إلغاء القرار، ثم محكمة الاستئناف العليا، ودائرة المراجعة بالمحكمة العليا، ليكلل الانتصار القضائي بتأييد المحكمة الدستورية للحكم في العشرين من نيسان/أبريل في العام 2003، ما دفع مجلس الوزراء لإلغاء قراره استجابة لأحكام المحاكم ولكن "صابر محمد الحسن"، محافظ بنك السودان آنذاك رفض الاستجابة لأحكام المحاكم وقرار مجلس الوزراء دون أن يجرؤ قاض على مسائلته، لتظل حقوق الـ2000 أسرة معلقة في عنقه، فلم ينل أي منهم حقوقه حتى اليوم.
ترى هل يلجأ الرجل لنفس القضاء الذي رفض تنفيذ أحكامه ذات يوم، ليسترد المبالغ الضخمة؟ عندها بإمكان أي قاض أن يسأله عما أقترف في حق آلاف الأسر والإهانة التي وجهها للنظام القضائي برفضه تنفيذ أحكام قضائية، لكن من يجرؤ ومن يذكر؟ فذاكرة الحقوق هشة في السودان، ستمضي إجراءات التقاضي لعقاب من سرقوا الفتات.
اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان.. صراع متجدد في دولة هشة
نظرة سريعة في السيرة الذاتية لـ"الشاكي" ستغير مجريات القضية، فهو المسؤول الأول عن انهيار قيمة الجنيه السوداني، وضعف احتياطيات النقد الأجنبي بالبلاد
لكن نظرة سريعة في السيرة الذاتية لـ"الشاكي" المولود في مدينة دنقلا شمالي البلاد في العام 1945، ستغير مجريات القضية، فهو المسؤول الأول عن انهيار قيمة الجنيه السوداني، وضعف احتياطيات النقد الأجنبي بالبلاد، إلى جانب فشله فى بناء احتياطيات فى ظل تدفق عائدات النفط وارتفاع أسعاره عالميًا، تلك الفترة التى استمرت لـ10 أعوام، إلى جانب تدخله الإداري فى تحديد أسعار الصرف وتعيين مديري البنوك ومجالس الإدارات، وفشله فى إدارة ملف التعثر ليتفاقم التعثر المصرفي فى عهده ويسيطر "السماسرة" على البنوك، وإنقاذهم من كبواتهم بإعادة تمويلهم بموجب خطابات من البنك المركزي.
ليترك "الشاكي"، المنصب الحساس مخلفًا وراءه، أزمة يجملها وزير المالية السوداني الأسبق، سيد علي زكي في إفادة سابقة لصحيفة "الرأي العام" اليومية بأزمة في النقد الأجنبي وارتفاع فى الدولار وانخفاض فى قيمة العملة المحلية بسبب التحكم الإداري فى سعر الصرف والحوافز التى طبقها على شراء وبيع النقد الأجنبي لتزيد من أسعارالصرف في السوق، ويشير زكي إلى أن هذه الحوافز لا تتعدى خداع النفس، الأمر الذي أدى لتفاقم الأزمة بأوجهها المختلفة من انعدام للمؤسسية وتدهور للاقتصاد وتراجع للصادرات وزيادة فى أسعار الصرف.
كل هذه الحيثيات مقرونة باعترافه بفشل ما يعرف بـ"البرنامج الثلاثي"، الذي يعتبر أحد منظريه، مشيرًا إلى أنه لم يفلح في تخفيض الانفاق الحكومي وأضاف أعباء جديدة على الشعب، كل هذا كفيل بجعله المتهم الأول لا الشاكي، فأبرز نتائج برنامج حزبه الثلاثي كانت حزمة الإجراءات التقشفية التي تم بموجبها رفع الدعم عن المحروقات في العام 2013، وهي القرارات التي كانت السبب وراء اندلاع انتفاضة سبتمبر المجيدة في ذات العام، ليخرج الناس رافضين لقرارات محمد الحسن وفقرها، فما كان من أجهزتهم الأمنية إلا أن تحصد أرواح أكثر من 290 من الشباب السوداني بدم بارد، لم ينبس محمد الحسن حينها إزاء هذه الدماء ببنت شفة، لكنه اليوم يصرخ مطالبًا بـالالاف اليوروهات والدولارات التي لم يخبرنا من أين له بها.
ولم تكن حادثة محافظ المصرف المركزي السابق الأولى، فقد تعرض القيادي بالحزب الحاكم ورئيس جهاز الأمن الأسبق قطبي المهدي قبل أعوام لأمر شبيه، هجم 9 أشخاص على مكتبه الخاص واستولوا على مبالغ يؤكد تنوع عملاتها حجم الثراء الذي يتمتع به قادة دولة تتذيل دول العالم في كافة المجالات، عثر اللصوص حينها في منزل المهدي على 40310 يورو و11 ألف فرنكًا سويسريًا و9 آلاف ريال سعودي و5 آلاف جنيه استرليني و645 ألف ليرة لبنانية، و420 ألف ليرة سورية، و20 ألف جنيه مصري، و26 ألف دولار و91 ألف جنيه سوداني وموبايل.
اقرأ/ي أيضًا:
السأم السوداني
"قطع الطريق".. كرم سوداني فريد في رمضان