11-مارس-2025
السودانيون في مصر

(The Africa Report) سودانيون يتدربون على عزف الموسيقى في العاصمة المصرية القاهرة

"قبل عام ونصف، ما كنت أتخيل أبدًا أنني أستطيع العيش خارج الخرطوم لأكثر من أسبوع. كان التفكير في هذه المغامرة مُرهقًا للذهن، مُتعبًا للمزاج، ومُجهدًا للروح. لكنها الحرب القاسية التي أجبرتنا على مغادرة بيوتنا وأهلنا. لكن، مهما طال الزمن أو قصر، سنعود يومًا ما، وسنعيد إعمار منازلنا المدمرة ونبنيها من جديد.. فنسيم الوطن لا يُعوض أيًا كان الوطن البديل". بهذه الكلمات، استهل عثمان الميرغني (56 عامًا) حديثه لموقع "ألترا صوت"، مستحضرًا ذكريات الأيام الأولى لمغادرته السودان هربًا من الحرب، متوجهًا إلى مصر.

يتفق الآلاف من السودانيين المقيمين في مصر مع عثمان، فبالرغم من اندماجهم السريع في المجتمع المصري، والتقارب الكبير بين الشعبين بحكم التاريخ والجغرافيا والثقافة، لا يزالون يحنون إلى العودة للوطن، ويمنّون النفس بهدوء الأوضاع وأن تضع الحرب أوزارها، ليحملوا أمتعتهم حيث مستقر الرأس، والروح، والجسد.

تُعد الجالية السودانية الأكبر بين الجاليات العربية والأجنبية المقيمة في مصر، وتتباين التقديرات الرسمية حول أعدادهم بشكل ملحوظ. ففي حين تُقدر مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد السودانيين المسجلين رسميًا لديها بأكثر من نصف مليون شخص، تشير الحكومة المصرية إلى أن العدد يتجاوز 1.2 مليون شخص. أما المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، فتقدّر عدد السودانيين في مصر بنحو أربعة ملايين شخص، ما يعادل قرابة 50% من إجمالي الأجانب المقيمين داخل الأراضي المصرية

لم يكن سهلًا قرار مغادرة الوطن 

قرار مغادرة الوطن لم يكن سهلًا، فهو أشبه بخروج الروح من الجسد، موتٌ إكلينيكي مدفوع بالضرورة القصوى. فالاختيار كان صعبًا: إما البقاء في معمعة الوغى والحرب التي لا تترك شجرًا ولا حجرًا ولا بشرًا إلا وتأكله، أو الرحيل عن الدار والأهل—خياران أحلاهما مرّ.

يتفق الآلاف من السودانيين المقيمين في مصر على أنهم لا يزالون يحنون إلى العودة للوطن، ويمنّون النفس بهدوء الأوضاع وأن تضع الحرب أوزارها، ليحملوا أمتعتهم حيث مستقر الرأس، والروح، والجسد

وبعد تفكير مطوّل استغرق عدة أسابيع، كان القرار النهائي الفرار بالروح من الوطن. وكانت مصر في ذلك الوقت الوجهة الأكثر احتضانًا للسودانيين الفارين من ويلات الحرب، وفقًا لما قالته إيمان الفاتح (أم محمد)، التي وصفت رحلة مغادرتها لأم درمان في السودان بأنها مغامرة محفوفة بالمخاطر.

تقول أم محمد ( 60 عامًا) في حديثها لـ"الترا صوت" إنه رغم إعفائها من الحصول على تأشيرة دخول لمصر، استنادًا إلى قرار القاهرة في بداية الحرب، الذي أعفى النساء والأطفال، بالإضافة إلى الرجال فوق سن الخمسين من متطلبات الحصول على تأشيرة، وذلك قبل أن تفرض الحكومة المصرية لاحقًا على جميع السودانيين الحصول على تأشيرة لدخول الأراضي المصرية، إلا أن الرحلة كانت صعبة، حيث تعرضت للعديد من المشاكل والأزمات التي وصلت في بعض الأحيان للمآسي، بسبب الابتزاز الذي تعرضت له طيلة الرحلة.

وأضافت "تبدأ الرحلة من أم درمان لأسوان جنوب مصر، بكلفة تقريبًا 350 دولارًا، ثم نستقل سيارة أخرى تنقلنا إلى القاهرة، حيث منطقة الهرم بالجيزة"، وتابعت "هناك يتمركز عشرات الآلاف من أبناء الجالية السودانية. لي أقارب وجيران ومعارف، وفضلت الذهاب إليهم للشعور بالأنسة والدفء العائلي، بدلًا من خوض تجربة تعارف جديدة".

وما أن يتم الوصول إلى القاهرة، يكون التوجه نحو المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين للحصول على بطاقة طالب اللجوء. وهي ورقة ثبوتية رسمية تقنن وضع اللاجئ السوداني، وتحميه من مخاطر الترحيل قسريًا بحسب القانون الدولي، وبموجبها يتم الحصول على العديد من الامتيازات المادية والخدمات الصحية؛ هكذا تنهي السيدة الخمسينية السودانية حديثها مع "الترا صوت".

وارتفع عدد طالبي اللجوء السودانيين في مصر من 294 ألف شخص قبل الحرب المندلعة منذ نيسان/أبريل 2023 إلى ما يزيد عن 731 ألف في وقتنا الراهن. ويمثل السودانيون 61% من نسبة طالبي اللجوء المسجلة لدى المفوضية، وهو الرقم الذي لا يتجاوز 20% تقريبًا من إجمالي السودانيين المقيمين في مصر، الذين دخل كثير منهم بطرق غير شرعية وبدون أوراق ثبوتية.

تحديات وفرص الاندماج في المجتمع المصري

لم يكن الاندماج في المجتمع المصري مسألة صعبة، فالقواسم المشتركة بين الشعبين المصري والسوداني، مثل التاريخ والثقافة والدين والامتداد الجغرافي، من شأنها أن تجعل من الانصهار والتناغم المجتمعي عملية سهلة وسريعة وغير شاقة على الإطلاق، إذا ما قورنت مثلًا بالوضع في أوروبا أو أميركا، أو حتى بلدان أسيا غير العربية.

والشعب المصري، في معظمه، شعب مضياف بطبيعته، يتعامل مع الوافدين إليه كأبناء وطن وأصحاب بلد. وربما تُعد مصر البلد الوحيد الذي لم يُطلق على ضيوفه—أيًا كانت دوافع قدومهم—لقب "لاجئين"، ولم يقم بنصب الخيام أو تحديد مناطق خاصة لإقامتهم. فبمجرد دخول الأراضي المصرية، يتمتع الوافد بحرية التنقل دون قيود أو عراقيل.

ويميل السودانيون في الغالب إلى الإقامة بجوار بعضهم البعض، مكوّنين كيانات أسرية كبيرة توفر لهم الدعم النفسي والاجتماعي، وربما المادي. وعليه، يُلاحظ التكدس الكبير في مناطق بعينها مثل الهرم، وفيصل، ومدينة نصر، حيث تحولت بعض شوارعها إلى ما يشبه شوارع الخرطوم، إذ أصبح عدد السودانيين فيها يفوق ربما عدد المصريين. وهذا أدى إلى ارتفاع قيمة الإيجارات في هذه المناطق مقارنة بغيرها.

"حين قدمنا إلى مصر، كنا نتوقع إقامة قصيرة حتى تنتهي الحرب، لكن مع إطالة أمد القتال في السودان، طالت إقامتنا في الأراضي المصرية، واليوم أكملت عامًا ونصف تقريبًا". هكذا تحدث حاتم عبد الوهاب (50 عامًا)، الذي أشار إلى أن الوضع في البداية كان صعبًا، لكن مع مرور الوقت، اعتاد على الظروف والأجواء، وبات، على حد قوله، "مصريًا أكثر من المصريين".

وأضاف حاتم في حديثه لـ "الترا صوت" أنه، وبعدما أيقن بطول فترة إقامته في مصر، بدأ بالتفكير في العمل وإطلاق مشاريع تدر دخلًا يعينه على تكاليف الحياة المرتفعة. وبالفعل، أنشأ مشروعًا صغيرًا في إحدى مناطق الهرم، عبارة عن محل لبيع التوابل الغذائية السودانية. ولفت إلى أن الغالبية العظمى من السودانيين في مصر يعملون حاليًا في مجالات التجارة، لا سيما في المصنوعات الجلدية، والتوابل، والعطور، والملابس.

أما النساء، فيعملن في مراكز التجميل، التي فرضت نفسها بقوة وحققت انتشارًا واسعًا، حتى بات الجمال السوداني مطلبًا جماهيريًا لكثير من المصريات، على حد قوله. وأشار حاتم إلى أن زوجته تمتلك اليوم ثلاثة مراكز تجميل، الأول في الهرم، والثاني في فيصل، والثالث في مدينة السادس من أكتوبر، وذلك خلال أقل من عام واحد فقط منذ دخولها هذا المجال.

وتشير حبيبة، زوجة حاتم، وهي خريجة هندسة طبية، إلى أنه في بداية قدومها إلى مصر، تعرضت هي وبعض السودانيات لحالات تنمر فردية من بعض المصريات، حيث واجهت انتقادات قاسية، تمحورت حول اتهام السودانيين بأنهم سبب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها مصر، وأنهم المسؤولون عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات. لكنها أكدت أن هذا الأمر سرعان ما تلاشى واختفى مع مرور الوقت.

وتقول في حديثها لـ "الترا صوت" إن الأمور أصبحت تسير بشكل طبيعي فيما بعد، وحدث اندماج كبير بين السودانيين والمصريين، وصل إلى حد الترابط الأسري والمصاهرة، حيث سُجلت عشرات حالات الزواج بين الشعبين خلال أشهر قليلة. ولفتت إلى أن المصريين من أقرب الشعوب إلى السودانيين، بعيدًا عن الخلافات السياسية بين الدولتين، التي قد تعكر الأجواء بينهما من حين إلى آخر، لكنها شددت على أن هذه الخلافات لا دخل للشعبين بها

تمسك بالهوية

يُعد السوداني من بين أكثر الجنسيات العربية حرصًا على التمسك بعاداته وطقوسه وتراثه، حيث يحافظ على زيه وسمته المعروف بهما، حتى لو كان في قلب البيت الأبيض. لذا، من السهل التعرف على هويته الوطنية دون الحاجة إلى سؤاله، فهو يعكس صورة بلده في ملبسه، ومأكله، ولهجته، وسلوكياته.

وفي مصر، ورغم التشابه النسبي في العادات بين الشعبين، تحرص الجالية السودانية على التمسك بهويتها والحفاظ على تراثها في مختلف الجوانب، بدءًا من طبيعة المسكن ومكوناته، مرورًا بالملابس التقليدية التي يرتديها الكبار والصغار، وصولًا إلى المأكل والمشرب واللهجات المستخدمة، بالإضافة إلى العادات والتقاليد في الأعياد والمناسبات

يحرص السودانيون في مصر على إحياء المظاهر التراثية كلما سنحت الفرصة، فتراهم في مقهى "مصر والسودان" بمنطقة فيصل في محافظة الجيزة، أو في حارة الصوفي بالقرب من شارع عبد الخالق ثروت بوسط القاهرة، يحيون الليالي بالأغاني والأهازيج السودانية، بمشاركة العديد من المطربين السودانيين المقيمين في مصر. وتُنظم هذه الحفلات بشكل دوري، ويشارك فيها مصريون وسودانيون على حد سواء

ويعد شهر رمضان فرصة سانحة لتعبير السودانيين عن تمسكهم بهويتهم وتراثهم، وهو ما يتضح من خلال إصرارهم على أن تكون الأكلات السودانية حاضرة في الموائد الرمضانية، والتي من أبرزها، العصيدة، وهي من الأطباق الرئيسية تُحضر من عجين الذرة المخمر ودقيق القمح، وقد تقدم بمفردها أو مع "ملاح التقلية"، وهو اللحم المجفف مع البصل المُقلي ومعجون الطماطم،  أو "ملاح الروب"، المكون من معجون الفول السوداني والزبادي، ويُقدم ساخنًا.

إلى جانب القراصة بالدمعة، التي تُعتبر بديلًا سهلًا ولذيذًا للعصيدة، هناك أيضًا البليلة العدسية، والتي تشبه المقبلات، إضافة إلى الرقاق، الذي يُصنع من عجينة القمح ويُقدَّم مع الحليب البارد، ويُعتبر من العادات الرمضانية حيث يؤكل في وجبة السحور. كما يُعد الأرز باللبن، وهو خليط من الأرز الأبيض والحليب، وجبة محببة للأطفال على وجه الخصوص، ويُستخدم أيضًا لإطعام المحتاجين خلال شهر رمضان.

يعود حرص السودانيين على الإبقاء على الأكلات الرمضانية السودانية على موائدهم خلال هذا الشهر إلى إيمانهم بأن تلك الأكلات تُعد رمز للتواصل بين الناس، ومرآة تعكس تقاليدهم وتاريخهم، وواحدة الأدوات المستخدمة لتجديد الروابط الاجتماعية، وتعزيز العلاقات الأسرية بين العوائل المقيمة في مصر.

علاوة على ذلك، يحرص السودانيون على أداء صلاة التراويح في المساجد إلى جوار المصريين، ثم اللقاءات العائلية ذات الطقوس السودانية الرائعة، كذلك حضور الليالي الرمضانية التي ينظمها بعض الأثرياء من أبناء الجالية، ويحضرها العشرات، وربما المئات، من أبناء المنطقة، يتبادلون فيها السمر والحديث، وتظل قائمة حتى السحور.

تحديات الغلاء والتضييقات الأمنية

يواجه السودانيون في مصر عددًا من التحديات التي تعرقل تواجدهم وتدفع كثيرًا منهم نحو الرحيل مع أقرب فرصة. أبرزها الأوضاع المعيشية الصعبة الناجمة عن ارتفاع أسعار السلع والخدمات، بجانب الإيجارات المضاعفة بالنسبة للسودانيين مقارنة بغيرهم من المصريين، وهو ما يفوق قدرات الكثير من السودانيين.

وتعتمد شريحة من الجالية على المساعدات التي يتحصلون عليها من مفوضية اللاجئين، والتي لا تتجاوز 200 دولار، نحو 10 ألاف جنيه مصري، غير أن الغالبية العظمى تعتمد على مواردها الخاصة، حيث الأموال القادمين بها من السودان، أو التحويلات التي تٌرسل لهم من الخارج عن طريق الأقارب والأهل، فيما لجأ أخرون إلى العمل والتجارة للإنفاق على متطلبات الحياة.

كذلك الصعوبات التي تواجه تعليم السودانيين في مصر، خاصة بعد توجيه الحكومة المصرية بإغلاق العديد من المدارس السودانية بسبب عدم استيفائها لبعض المسائل الفنية، وتدريسها لمناهج تعتمد خارطة جغرافية تقول إن حلايب وشلاتين، جنوبي مصر، سودانية وليست مصرية، وهو ما دفع بالبعض إلى نقل أبنائهم إلى المدارس الخاصة ذات الكلفة العالية التي لا يتحملها الجميع.

ومن أبرز التحديات التي تواجه الجالية السودانية في مصر، التداعيات الناجمة عن إقامة معظمهم دون أوراق ثبوتية صحيحة، وهو ما يجعلهم عرضة دومًا للمضايقات الأمنية بين الحين والأخر، خاصة في تلك الأوقات التي تشهد العلاقات بين القاهرة والخرطوم توترات سياسية، مما ينعكس بطبيعة الحال على السودانيين المقيمين في مصر، كما حدث خلال الأيام الأخيرة من حكم عمر البشير حين غردت السودان بعيدًا عن الرؤية المصرية في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي.

ويبقى الحنين للوطن حلم يراود السودانيين في الخارج،  في مصر وغيرها، هذا الحلم الذي لم يغب عن مخيلة أبناء النيل، مهما مرت السنوات، وطال أمد الغربة، ومع أول بارقة أمل في تحسن الأوضاع نسبيًا في الداخل السوداني، حيث النجاحات التي حققها الجيش وتحريره لبعض المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات الدعم السريع، حمل الكثير من السودانيين أمتعتهم عائدين إلى الوطن.

 ورغم عدم وجود أرقام رسمية لإجمالي من رحلوا، إذ إن الغالبية دخلت مصر بصورة غير قانونية وبدون أوراق ثبوتية،  إلا أن الأعداد لا تقل عن 300 ألف سوداني غادروا الأراضي المصري متجهين إلى بلدهم خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، حتى فيما تحمله تلك العودة من مخاطر أمنية وصحية كبيرة، إذ لم تنته الحرب بعد، ولا زالت البنية التحتية والاقتصادية تعاني من دمار شامل، غير قابل للحياة.