27-يوليو-2016

برونو بفيرييتف

مؤشرات كثيرة تنبئنا بقرب سقوط دولة: انحلال اجتماعي، انهيار اقتصادي وسيطرة أوليجارشية مقربة للنظام الحاكم عل موارد وثروات البلاد، تزايد الفجوة بين طبقات المجتمع، وإحساس المواطن بالعيش في دولة بلا قانون ولا منظومة تؤطر حياته ولا توفر له أي حقوق المواطنة أو أدنى ظروف للحصول على العدالة، وتحول الطرق الملتوية وغير الشرعية السبيل الأغلب في الحصول على لقمة العيش.

أكبر الحماقات التي أدت إلى سقوط المماليك تمثلت في إقامة نظام طبقي، يفصلهم عن باقي المجتمع

أمثلة كثيرة نقلها لنا التاريخ عن صعود وسقوط الأمم، رغم قوتها الظاهرة، وإن كانت ذات جيش قوي، ولكن بتفشي تلك الظواهر السابقة يصبح سقوط هذه الأمم قريب أو أوشك على أن يكون محتومًا، مع استحالة استمرار الوضع تحت هذه الظواهر. ينقل لنا التاريخ مثال للدولة المملوكية التي لم تسعفها قوتها الظاهرة وبسطها لنفوذها على العديد من الدول، في الوقوف فترة طويلة أمام السياسات الغبية والتصرفات التي تبناها أمراؤها، قاد في النهاية إلى سقوطها وانحطاطها.

الدولة المملوكية في الأصل هي دولة عسكرية، قامت مع بداية انهيار الدولة الأيوبية، واتسمت بتقديس الفروسية والانضباط والولاء والطاعة للقائد، واعتبار الدفاع عن الأرض أعلى شرف ديني وعسكري، فهم في الحقيقة عبارة عن رقيق تم استقدامهم من بلاد فتحت حديثا، لتربيتهم منذ نعومة أظافرهم على حمل السلاح ليكونوا عونا للجيش في المعارك ضد الصليبيين إبان الحكم الأيوبي.

ولأن الفراغ يحتاج إلى أن يملأ، استغل المماليك الغياب التدريجي للأيوبيين في نهاية عهدهم، ليلعبوا دورًا بارزًا في الدولة والجيش ويحصلوا على العديد من الألقاب الرفيعة، وصلت إلى أمير، وبموت الصالح نجم الدين الأيوبي ثم اغتيال ابنه الوحيد، توران شاه، لم تجد شجرة الدر أمامها سوى الزواج من أحد القادة المماليك، وهو الأمير عز الدين أيبك.

اقرأ/ي أيضًا: هل نقرأ التاريخ؟

ونظرًا لأنهم عسكريون في المقام الأول، حقق المماليك الكثير من النفوذ والتوسع في بداية عهدهم، فتمكنوا من وقف الغزو المغولي، كما ركزوا اهتمامهم على إنهاء الوجود الصليبي في الشام، ونجحوا في إسقاط آخر معاقل لهم، ليبسطوا سيطرتهم على مصر والشام والعراق، ويقيموا علاقات قوية وتحالفات عسكرية حول العالم وصلت إلى أراضي المغول، بعد دخول جزء منها في الإسلام.

وبسيطرتهم على مناطق شاسعة تشكل نقطة ربط بين الشرق والغرب، أصبحت التجارة هي المصدر الأول الذي ترتكز عليه الدولة الوليدة والتي قامت على أساس الدور العسكري الذي يقومون به، رافق ذلك إقامة جهاز إداري مركزي قوي في القاهرة يشبه الأنظمة الحالية، يضم الدواوين التي تشبه الوزارات، إضافة إلى الولاة الذين يرأسون الإدارات المحلية في الأقاليم.

سبب آخر أدى إلى وهن دولة المماليك تمثل في تحول المواطن ودخله إلى ما يشبه مصدر موارد الدولة، بفرض ضرائب باهظة وغير مبررة

كما أعطى المماليك في بداية حكمهم اهتمامًا خاصًا بالتعليم لإعداد الموظفين ومسئوولين الدولة، فأنشؤوا العديد من المدارس مثل المدرسة الظاهرية، والمدرسة المعزية والمدرسة الناصرية وغيرها، كما بلغت العمارة أيضًا أوجهًا في هذه الفترة وأصبح للمماليك طرازهم الخاص في البناء، كما يظهر في العديد من المساجد والأحياء بوسط القاهرة.

ولأن الحال لا يدوم طويلًا، بدأت شمس المماليك في الأفول، نتيجة لحماقات السلاطين، وتبني سياسات سيئة جعلت المواطنين يضيقون سئمًا منهم، ويسعون للتخلص من حكمهم.

أكبر الحماقات التي أدت إلى سقوط المماليك تمثلت في إقامة نظام طبقي، يفصلهم عن باقي المجتمع، إذ إنهم عاشوا في عزلة عن المواطنين، ولم يسمحوا لطبقات الشعب بالانضمام للجيش أو حمل السلاح أو تولي المناصب العليا في الدولة، وبالتالي عدم إمكان الشعب الترقي إلى الطبقات العليا، الأمر الذي أحدث فجوة في طبقات المجتمع، فجاء في كتاب "تاريخ المماليك في مصر والشام" للدكتور محمد سهيل طقوش أن المماليك كونوا مجتمعًا مغلقًا خاصًا بهم، فلم يختلطوا بالناس بل ظلوا بمعزل عنهم، مترفعين محتفظين بجنسهم وعاداتهم، ما أوجد فجوة بين الحكام والمحكومين، فلم يشعر الحاكم بمشاكل هؤلاء، وبما يعانونه، لذلك لم يحاول إيجاد حلول لها، وإذا صادف وشعر بذلك فإن الحلول تكون مرحلية ومؤقتة. 

الخطأ الآخر الكبير الذي وقع فيه المماليك في نهاية عهدهم، يكمن في بذخ السلاطين والفساد الإداري وتوسع السلطات الممنوحة للأمراء ورؤساء الدواوين لاسيما بعد تدهور التجارة، نتيجة اكتشاف البرتغاليين طريقًا تجاريًا حول القارة الإفريقية، وبالتالي خسارة المماليك مصدر دخلهم الرئيسي المعتمد على كون البلاد طريقًا للتجارة بين الشرق والغرب.

اقرأ/ي أيضًا: اقتلوا الطاغية الذي نحيا بفضله!

ويقول صاحب كتاب "تاريخ المماليك في مصر وبلاد الشام"، الدكتور محمد سهيل طقوش: "أمَّا الأمراء فقد أحجموا عن الاهتمام بإقطاعاتهم طالما أنها غير وراثية، وازداد اعتمادهم على الرواتب النقدية والعينية، كما تراجع بناء الجسور والأقنية، وأُهمِلَ ترميم ما هو قائم منها، فتدهور الإنتاج الزراعي، وازداد عجز الدولة عن سد النفقات العسكرية، فاضطر السلطان إلى فرض مزيد من الضرائب بشكل تعسفي، فنتج عن ذلك انطلاق المقاومة الشعبية بكل أشكالها"، قبل أن يضيف أن الفلاح في العصر المملوكي قدم الكثير من الضرائب النقدية والعينية، وكانت طريقة تحصيلها تتسم في الغالب بالعنف والاضطهاد، وقد عانى إلى جانبها من التزامات متنوعة وقيود مفروضة عليه.

سبب آخر أدى إلى وهن دولة المماليك تمثل في تحول المواطن ودخله إلى ما يشبه مصدر موارد الدولة، بفرض ضرائب باهظة وغير مبررة، وكأن هذا الحل هو الوحيد دائما الذي يتوصل إليه الحكام المستبدون على مر العصور خلال الأزمات، يقول د. طقوش: "المماليك عبثوا بأرواح الناس وممتلكاتهم، وكثر الذعر وانتشر الفساد وعمت اللصوصية في عهدهم، دون أن تتمكن الدولة من كبح جماحهم، وهذه القلاقل تركت أثرها على ارتفاع الأسعار"، متابعا: "استحدث قايتباي مكس الغلة التي تفرض على بيع الغلال، ثم ضريبة المشاهرة والمجامعة، وهي ضريبة تجمع من العامة كل شهر للخزائن السلطانية، وكانت هذه الضريبة من أشد ما وقع في الناس من ظلم، ومن أكبر أسباب الفساد في حق المواطنين، واضطر الباعة إلى تعويض قيمتها عن طريق رفع أسعار السلع، فاشتد الغلاء، وعز وجود أصناف كثيرة منها.

سقطة أخرى وقع فيها المماليك تركزت في تغيير عقيدة العسكر، بين الحين والآخر، فتارة يتحالفون ويباركون العثمانيين وتارة يرسلون القوات لقتالهم

لم يكتف الجنود أيضا بالدور المنوط به لهم من حماية الأراضي ونشر الأمن، إذ إن ضعف موارد لدولة، قادهم إلى البحث عن سبل بديلة للحصول على المال، وساعدهم في ذلك تواطؤ القضاء، والمواطن دائمًا هو الحلقة الأضعف والحائط الذي يستند عليه جشع الجميع، يقول د. طقوش: "أضحى جشع الجنود والموظفين أمرًا مثيرًا للاستياء، حيث سعى الجميع وراء الكسب المادي السهل، وأضحى غياب العدالة عن المحاكم مجالات لحديث الناس، واقترنت سمعة كبار القضاة ومساعديهم بصفة رجال يرتشون".

سقطة أخرى وقع فيها المماليك تركزت في تغيير عقيدة العسكر، بين الحين والآخر، فتارة يتحالفون ويباركون العثمانيين الذين يحققون انتصارات هامة في الغرب، وتارة يرسلون القوات لقتالهم رغم اشتراكهم في الدين، بدافع الغيرة من توسعهم.

يمكن من خلال العوامل السابقة، التمييز بسهولة تفكك المجتمع وانفضاضه عن مؤسسات الدولة، والنظر إليها بدونية شديدة، وهو ما تحدث عنه د. طقوش: "شكلت مظاهر البذخ التي عاشها الحكام، تحديًا صارخًا للفقراء، ولنا في حياة السلطان محمد الثاني بن قايتباي مثلًا لما أصاب الدوائر الحاكمة من انحلال وفساد، فعندما أصبح هذا السلطان شابًا، بدأ حياة الخلاعة المتهتكة، فكان المغنون والمغنيات هم رفاقه وصحبه في حفلات ليلية على النيل.. ونتيجة لهذه الأوضاع المتردية، حصل انحلال في المجتمع المملوكي وبات من الصعب تصور انحطاط اجتماعي أكثر عمقًا من ذاك الذي أصاب هذا المجتمع في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، فانفضت كل فئات الشعب عن الحكومة وأصبحوا ينظرون إليهم نظرتهم إلى مغتصبين ومستهترين وفاسقين، واعتبرت ممارسة الوظيفة العامة عارًا وأصحابها بلاء".

اقرأ/ي أيضًا:

مجلة الحوليات والتاريخ الجديد

الكنيسة الغائبة.. أفكار عن الإسلام والسلطة