30-مارس-2025
جدارية لبانكسي في الضفة

(Getty) جدارية لبانكسي في الضفة

قلتُ مقتبسًا من بسام حجار: "أعمل في حديقة الحيوانات"، ثم تراجعت عن ذلك خجلًا من إنسانيتي. لكن مع الأيام، اكتشفت أنني فعلًا أعيش في حديقة حيوانات. لا لأن من حولي يشبهون كائنات في أقفاص، بل لأنهم مقتنعون تمامًا بأنهم بشر. وهنا تكمن المأساة: في هذا الإيمان المطلق بالوهم.

أحدهم يظن نفسه أبو الوطنية، يلوك التحليل السياسي كما لو أن إدوارد سعيد سيخرج من قبره كي يتعلم منه، ويقتبس منه ياسر عرفات في نومته الأبدية.

شخص آخر متديّن، عاش عمره في هامش الهامش، لا يعرفه أحد، حتى قرر أن يظهر فجأة، لا كصوت أو موقف، بل كخطبة متنقلة. كأن التدين صار وسيلته للانبعاث، طريقًا مختصرًا للاعتراف.

تراه اليوم يمشي بين الناس بلحية مصقولة وكلمات محفوظة، كمن يقول للعالم: أنا هنا.. احترموني.

تظنه أحمد ياسين في زمن الفداء، لكنه في الحقيقة لا يزيد عن نسخة باهتة من حسن يوسف، حين قرر أن يصبح واعظًا في منتصف الفيلم.

ثم هناك ذلك المخلوق الثالث، مزيج من نقيضين لا يجتمعان، كأنما صيغ من مادة التناقض وحدها. يتكلم عن المبادئ كأنه وريثها، ويعيش كأنها لم تمر به يومًا. نسخة فلسطينية مشوشة من محمد رمضان، يلمع تحت الأضواء ويذوب أمام المرايا.

أما أغربهم جميعًا، فهو ذاك الذي وصل إلى الـ"تيك توك" متأخرًا، كمن وصل إلى حفلة لم يُدعَ إليها، لكنه أصرّ أن يرقص.

دخل كأنما إلى سيرك، يتقافز على إيقاع السخرية، يصطنع الضحك ليُضحك الناس، يلهث خلف الإعجاب السريع، وكأنه يبحث عن شيء أعمق من مجرد ضحكة.

ثم يعود إلى بيته، يسأل نفسه بصمت: هل ما أفعله فن؟ أم محاولة يائسة للظهور؟ لا يدري. لكنه يستمر. كأن الهاتف، ولو لوهلة، منحه مرآة لم يرَ نفسه فيها من قبل.

كل هذا لم يكن يزعجني. كنت أرى وأصمت. حتى جاءت الحرب فسقطت كل الأقنعة دفعة واحدة.

انكشفت الحديقة: أمير المؤمنين المزيف، الراعي الذي لا يرعى سوى ظله، الرجل الذي يظن نفسه قائدًا وهو بالكاد يذكر مبادئه. وقد أكون، بدوري، حيوانًا يظن نفسه كاتبًا. لكنني، على الأقل، أعترف. ربما أنا مجرد ولد صغير، سقط في فخ الوهم، وعاش حياته في هذا السرب الكبير الذي يُسمّى الشعر، أو الكتابة، أو الحب.

على كل حال، هو سرب من الكائنات التي تحاول أن تصرخ بأناقتها، بينما تُخبّئ قبحها في التفاصيل.

من لحظة استيقاظنا وحتى لحظة نومنا، لا يتوقف العنف. يُقال لنا ما يجب أن نفعله، ثم يُدان كل ما نفعله. نتّهم بالخيانة إذا ترددنا، وبالغباء إذا أسرعنا. فما المطلوب؟ ما هو هذا المعيار الغامض للبطولة؟ ربما لا جواب.

ربما الحياة كلها حديقة حيوانات، والكل فيها يرتدي قناع الإنسان. لكن وسط هذا السيرك الكبير، هناك من يصرّ على المشي باستقامة، حتى لو تعثّر.

يا عزيزي الإنسان، يا من ما زلت تؤمن بشيء، أي شيء، إن كنت تعرف الطريق، سر أمامي... وسألحق بك. وإن ضللتَ، لا بأس. على الأقل، نكون قد حاولنا أن نمشي.. دون أقنعة!