20-سبتمبر-2015

حكيم عاقل/ اليمن

احتل الحديث عن التقنية وعلاقتها بالإنسان حيزًا واسعًا من كتابات المفكرين والفلاسفة منذ تبلور ما يعرف بالمجتمع الصناعي، ناهيك عما كتب قبل ذلك. على المستوى العادي ظهرت في بريطانيا جماعة تعرف بأعداء الآلة.

كانت التكنولوجيا وما تزال وقودًا للكتابات الفكرية والأدبية على مستوى الموضوع

انقسم المهتمون بالآلة بمفهومها الواسع كموضوع جديد على الذهن البشري بين متحمس لها ومبشر بقدومها الحتمي، وهم الأقل على الضفة النظرية (معظمهم تقنيون من فنيي المعامل)، وقسم ثانٍ تملأ مؤلفاتهم أرفف المكتبات وتعج فضاءات الإعلام بحوارات ومقابلات مع الأحياء منهم، وجلّ هؤلاء من الكتاب الملتزمين والثوريين، ممن قدموا للعلم النظري ما لا يمكن حصره من الإطارات البحثية والنماذج والنقاشات الخلاقة الحرة (مفكرو اليسار على سبيل المثال؛ مدرسة فرانكفورت)، وقد ربط هؤلاء التقنية باستلاب الإنسان واغترابه.

كسر فكر الستينيات من القرن المنصرم جملة من مقولات الفكر الملتزم، وجعل من التقنية منطلقًا من منصات عدة لفهم الذات والمجتمع. أداة ورسالة في الوقت نفسه (فاعلية الإعلام مثلًا)، وإن اندمج الملتزمون في الصيغة الجديدة وأصبحوا فاعلين فيه ومؤثرين بشروط كيَّفوها لحركتهم.

ثمة مداخل متعددة للغوص في موضوع التقنية لا يمكن اختصارها في مقدمة صغيرة كهذه، وهناك التباسات تحيط بجذور القضية قبل أطرافها مثل تشابك بعض المصطلحات ببعضها من التقنية إلى التكنولوجيا، إلى الحاسوبية والمعلوماتية.

كانت التكنولوجيا وما تزال وقودًا للكتابات الفكرية والأدبية على مستوى الموضوع أو آليات الفعل الكتابي الواعي، وربما لهذا السبب تم الربط بين التكنولوجيا وظهور سرديات جديدة عند كثيرين.

يدرك المتتبع للرواية أن آليات الكتابة السردية تكاد تكون استنفدت قبل منتصف القرن الماضي، ولم يعد هناك جديد على المستوى الشكلي بخلاف المضامين باعتبارها آفاق حية وحيوية تكمن حيويتها في حقيقة أن لكل عصر حيثياته وأسئلته ومآزقه. باستثناء ما عرف في فكر ما بعد البنيوية بكتابة الرواية بالرواية أو بالنقد والسرود الوثائقية، وهو أمر تختلف فيه السينما عن الرواية كون الأولى حديثة نسبياً وما زالت تبتكر أساليب بداخل الأساليب القديمة والمستحدثة.

لقد خلق تشتت المضامين وأساليب الحياة ونسف الفكر الحر للأبجديات والحقائق، التي عاش الفكر مقتاتًا على مباهجها وانتصاراتها وانكساراتها، رواية يمكن وسمها بالرواية العائدة، رواية الحبكة المحكمة والتخطيط المفرط. كما ولّد في بعض الأحايين رواية سهلة مستندة إلى الحكمة والوعظية والمنامات (روايات باولو كويلو نموذجًا). كما عاد السرد الوثائقي والصحفي الذي تعده باحثة مثل فالنتينا إيفاشيفا من تأثيرات التكنولوجيا وهو اتجاه قديم في السردية انتعش بفضل التكنولوجيا ولم تخلقه.

الكتابة إنسانيتنا التي نحاول المحافظة عليها أمام طغيان التكنولوجيا

تستطيع كمتفحّص عند هذه النقطة أن تعد الإيهام بالوثائقية من مدخلات التقنية الجديدة، أن تؤكد على أن فضيلة تدوير المنتج والإبداع المتقدم زمنيًا أيضًا أصبح موجة عاتية في الإبداع الحالي، ولننظر مثلًا إلى فيلمي "المحاكمة"، المستندين على رواية كافكا التي تحمل الاسم نفسه، وهو اتجاه معلوم ومترسخ منذ زمن لولا تفاقمه وانتشاره في أزمنة ما بعد التسعينيات وبداية الألفية.

في حوار أجريته منذ زمن مع الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين، فاجأني برأيه أن الشعر هو الأكثر مقروئية على الشبكة العنكبوتية، وتساءل "من سيقرأ رواية كاملة على الحاسوب؟". لا شك أن الأجهزة الذكية قد حلّت جانبًا وافرًا من المشكلة وإن فاقمته في جانبٍ آخر. لماذا راجت الرواية إذًا في الأزمنة التكنولوجية؟ هل يمكن القول: إنها تغريدة البجعة الأخيرة قبل الانتفاضة الرقمية القادمة؟

ليس هناك أكثر وجاهة من تساؤلات تنحو هذا المنحى وتبتغيه. يجري التواطؤ هنا حول مجتمع الرواية أو لنقل مجتمع الكتابة حتى لا ندخل في تساؤلات الرقمية وما بعد الرقمنة. تبحث الرؤية هنا وتستفهم في ظلال مجتمعات الظلال (المجتمعات الكتابية التي لم تصل إلى الرقمية بعد، والتي في حالة تحققها ستنفي ما نعالجه حيث سيصبح الأدب الرقمي والرواية الكاملة الرقمية السبيل الأقرب للتناول والحركة). 

الكتابة إنسانيتنا التي نحاول المحافظة عليها أمام طغيان التكنولوجيا، ولعل في رواج الرواية حديثًا خير دليل على ذلك. يهرب القارىء، الفاعل والخامل، إلى قراءة الرواية كملجأ مما أذاقتنا إياه التكنولوجيات والمعلوماتية من تشتت. يهرب الكائن الحالي إلى رواية أو سردية تأخذه لأيام، إلى عالم يعيش في ظلاله متماسكًا وجديًا لبعض الوقت وإن كان هروبًا كاذبًا ومضللًا.