بعد يوم عنيف عاشته باريس السبت الماضي، لا تزال ملحمة الشانزيليزيه الدامية ترخي بظلالها، فمشاهد العنف لازالت تجوب قنوات الإعلام، والسترات الصفراء لا زالت في الشارع. بينما يجتمع ماكرون -عقب عودته المستعجلة يوم الأحد من قمة العشرين بالأرجنتين- ووزراءه لتباحث الوضع، قبل الزيارة التفقدية لميدان قوس النصر، والتي لم يجد فيها غير صوت الصفير المستهجن، والشواهد على الجدران: "ماكرون.. ارحل!".
"شبحٌ يجتاح أوروبا"، لعله الاقتباس الأنسب لوصف الحالة التي تعيشها فرنسا، غير أنه شبح أصفرٌ هذه المرة، وباريس بؤرته
هكذا كانت نهاية أسبوع مضى، بين الشارع ورأس الإليزيه، ترسم ملامح أسبوع من الترقب وانفجار اليوم، الذي كل السيناريوهات فيه محتملة مع تقدم ساعات النهار، وكل العُدد رهن إشارة جانبي الصراع؛ تحشدها كي تكون إرادتها المهيمنة على الواقع.
اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات فرنسا أكثر قوة.. تخبط يضرب خطاب السلطة
"شبحٌ يجتاح أوروبا"، لعله الاقتباس الأنسب لوصف الحالة التي تعيشها فرنسا، غير أنه شبح أصفرٌ هذه المرة، وباريس بؤرته، والمشاهد التي أمام أعيننا ما هي إلا حصيلة أحداث أسبوع.
الحكومة تتراجع
انتُظر خطاب الأحد إلى صبيحة يوم الأربعاء كي يفرج عن مخرجاته ببشرى للفرنسيين، فالحكومة قررت تعليق تطبيق الزيادات الضريبية لمدة ستة أشهر قادمة.
وفي جلسة برلمانية، في الخامس من كانون الأول/ديسمبر، انعقدت خصيصًا بغرض تدارس مستجدات حالة الاحتجاج التي تعيشها البلد، أخذ فيها رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب الكلمة المركزية، على طول نصف ساعة من الزمن، يشرح قرارات الحكومة في هذا الصدد.
"لا ضريبة تستحق المخاطرة بوحدة الأمة الفرنسية"، هكذا أعلنها رئيس الوزراء الفرنسي، مبينًا أن هذا التراجع المرحلي لفتح حوار اجتماعي، مع قابلية التخلي النهائي على القرار. هذا الحوار، كما قال، سيكون حوارًا عموميًا، بتنسيق رئيس اللجنة الوطنية للحوار الاجتماعي، وتحت تنظيم هيئة ضامنة لمخرجاته، يختارها هذا الأخير من كل الفعليات العامة.
"تحرير فرنسا من البترول، لكن ليس على حساب الفرنسيين"، يُقر فيليب، في تراجع ملحوظ لخطاب التعنت الذي أبانت عنه الحكومة منذ بداية الأزمة، وسيؤكده قرار رئيس الجمهورية بتوسيع مدة تعليق القرار إلى سنة كاملة.
تراجع ملحوظ لكنه نسبي، هذا ما نستشفه من الإشارات التي أرسلها إدوارد فيليب عبر خطابه، حيث قطع مع إمكانية إرجاع الضريبة على الثروة (ISF)، وهي الضريبة التي كانت المطالبات بإرجاعها عصب مطالبات السترات الصفراء بالعدالة الاجتماعية.
لا ذكر للسترات الصفراء بالاسم على طول خطاب رئيس الوزراء، وفي المقابل يوجه تحية خاصة لقوات حفظ الأمن قبل أن يدين ما وصفه بـ"العنف الذي جرح مشاعر الفرنسيين".
رواسب نزعة التعنت في خطاب رئيس الحكومة أمام البرلمان، وبالتالي خطاب حكومة ماكرون بأسرها؛ يؤسس موقفها الراسخ كنقيض للمطالبات الجماهيرية، مهما أبانت عن فهمها له وتراجعها، فذلك نابع من فقدانها قدرة المواجهة، أو مواجهة بتكتيك آخر هو الاحتواء.
إنها بمثابة محاولة احتواء مقرونة بترقب حذر، يحاول ما أمكن إدوارد فيليب ستره تحت غطاء اللغة الديبلوماسية، لكنه ينفضح في الأخير، مخاطبًا نواب الأمة بما يشبه الوعيد: "على كل الفاعلين أن يكونوا مسؤولين في تصريحاتهم خلال الأيام القادمة". داعيًا إياهم للتحدث إلى الشعب ومطالبته بالهدوء.
لكن لا هدوء بارزٌ، على الأقل خلال هذه الساعات، مع أنباءٍ تتوارد تباعًا بأن المساء لن ينتهي دون سقوط رؤوسٍ من الحكومة، وإدوارد فيليب نفسه اسمٌ مرشح بقوة، إضافة إلى وزير الداخلية كريستوف كاستانير، على أن يخاطب ماكرون الشعب يوم الثلاثاء القادم.
النقاش بين اليسار واليمين
تلى خطاب رئيس الوزراء سلسلة من المداخلات المستفيضة في الرد عليه، فيما الأضواء كانت مسلطة على المعارضة بتلاوينها المختلفة، وعلى جانبي السياسة اليمين واليسار، تنزل بسلاح النقض على دفوعات إدوارد فيليب.
"سمعت خطابك سيدي الوزير، لكن يخيل لي كما كثير من زملائي الآخرين، أنه خطاب وداع"، يفتتح المرشح اليساري للرئاسيات الماضية، جان لوك ميلونشون، مداخلته، مضيفًا: "ويظهر لي أنك بصراحة تخاطب المواطنين العقلاء بأن يلزموا بيوتهم يوم السبت"، أو بلغة أخرى يقول له: "لو كنت بكامل هذه الثقة في سياساتك، لما أنت خائف من يوم السبت؟".
"قل لسيادة الرئيس أن الأشخاص العقلاء سيبقون في الشوارع يحتجون عليه!"، هكذا انتقد وسخر زعيم حركة "فرنسا الأبية" اليسارية، من رئيس الوزراء، مبينًا أن ما يطلبه الجماهير هو التراجع الجذري عن كل سياسات التقويم الهيكلي التي تنهجها الحكومة، أو الرحيل.
وعلى موجة ميلونشون سبح فابيان روسيل، ممثل الحزب الشيوعي الفرنسي بالجمعية الوطنية، معلقًا على كلام فيليب بأن "ما ازداد ليست تكاليف العمل، بل هي الهدايا التي تقدمها الحكومة للأغنياء"، مستطردًا في جرد الامتيازات والمنح التي تدفع للمستثمرين من أموال دافعي الضرائب.
وعلى الجانب الآخر من المعارضة، على اليمين، أكد النائب عن الحزب الجمهوري كريستيان جاكوب، أن المسؤول الأساسي عن الوضع يقبع الآن في الإليزيه، يقصد ماكرون، مشيرًا إلى ما اعتبره خطأ مقاربة ماكرون للوضع، كونها أتت متأخرة، ما يجعلها غير قادرة على الاستجابة لمطالب الشعب، وفي المقابل ساهمت بشكل كبير في ما شهدته فرنسا من عنف.
بينما في حوار صحافي لها، عقب مغادرتها قاعة البرلمان، وجهت مارين لوبان، الزعيمة الفاشية لحزب الجبهة الوطنية الفرنسية، كلامها مباشرة إلى ماكرون، داعية إياه لمخاطبة الشعب عوض الطلب من الفاعلين السياسيين مخاطبتهم، لأنه هو الوحيد الذي يصوب الشعب له مطالبهم وانتقاداتهم.
كيف ردت السترات الصفراء؟
"لم أكن عنيفًا، لكنني بتُّ كذلك بعد سماع التصريحات"، يقول أحد أفراد الحركة، نقلا عن تقرير لقناة "Franceinfo". ويتسائل: "ماذا فعل الآن؟ هل تحدث عن المتقاعدين؟ هل تحدث عن قدرتنا الشرائية؟ لم يقل شيء كما هي العادة!". كما يضيف زميل آخر له: "لقد صبَّ الزيت على النار! ونحن الآن أكثر كرهًا وغضبًا من الحكومة".
كما قالت القيادية في حراك السترات الصفراء، جاكلين مورواد، في حديثها لـ"ألترا صوت": لقد أسمعنا مطالبنا لرئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، وجعلنا مشكلتنا مطروحة على العلن والعامة، والآن نحن بانتظار أن ياتي الرد الذي نود أن يكون مقنعًا من طرف إيمانويل ماكرون". وأضافت مورواد "لم نتجاوز الحدود العامة ولم نخرق أي قوانين، ولم نمارس العنف أو نطلب من أحد ممارسته، لكن الحكومة لم تجد في جعبتها سوى المقاربة الأمنية العقيمة للرد على مطالبنا".
تعطي هذه الملامح التي سجلها تقرير القناة الفرنسية نظرة كافية عن السيناريوهات المتوقعة لمصير حركة السترات الصفراء، كما لم تزد تراجعات ماكرون الطين إلى وحولا، زاد الغضب اتجاهه، وما كان يرجى منه التهدئة أشعل الوضع أكثر من ذي قبل.
كما استضافت ذات القناة في برنامج خاص حول قضية السترات الصفرات، ممثلة الحركة عن جهة "Haute Loire"، لتجيب على سؤال المذيع حول ما إذا كان تراجع الحكومة انتصارًا لهم، بقولها: "لا إطلاقا! كان سيكون انتصارًا لو أتى قبل أسبوعين، بينما الآن فهو لا عدو أن يكون إلا خطوة صغيرة". مؤكدة أن الحركة ستخرج اليوم.
ومع تصاعد الغضب الشعبي متوعدا اليوم بالانفجار، تتوارد الأنباء منذ أمس الجمعة عن اعتقال 10 ناشطين من الحركة احترازًا من أعمال العنف المرتقبة، كما أعلنت الشرطة الفرنسية في بلاغ لها حجز عشر قنابل مولوتوف وقنبلتين محليتي الصنع، في اعتصام للحركة بمدينة مونتوبان جنوب البلاد.
هم الآن بالآلاف في جادة الشانزيليزيه، يحاولون الوصول إلى محيط القصر الرئاسي، وفي كل ربوع البلاد كذلك، لا شعار يعلوا فوق المطالبة برحيل الرئيس، ومواجهات هنا وهناك، والمارسيلية تنشد مرارًا وتكرارًا كشعار لحشد الهمة. رغم الاعتقالات المتزايدة منذ الصباح، لم يفرج اليوم بعد عن حصيلتها، كما لم تأفل عزيمة الحركة التي "تسير وتسير لتحقيق النصر"، كما تغنت أناشيد كومونة باريس قبل أكثر من 150 عامًا.
كل فرنسا اليوم ضد ماكرون!
لم تبقَ الاحتجاجات في فرنسا رهينةً بالسترات الصفراء، وما كاد البلد يطفئ نيران أيام السبت المتلاحقة، حتى تفتقت الأزمة التي دفع بها الشعب نفسه لبؤر انتفاض أخرى.
هكذا أصبح الكل يدعو للخروج، بالتزامن مع غضب يقوده هذه المرة اليافعين، طلبة الثانويات والجامعات الفرنسية، بترسانة مطالب تقوم على إلغاء الزيادة المرتقبة في رسوم التسجيل للطلبة الأجانب، كما تطالب تحسين ظروف حياة الطلاب.
وبهذا الشكل انفتحت جبهة جديدة على حكومة ماكرون، أنتجتها سياساته، والتهديد في فرنسا سُنّة في المدارس والجامعات الفرنسية، فالطلبة جادون في احتجاجهم، ولليس للمقاربة البوليسية حل لإخماد تحركاتهم.
وبعد بث مقطع فيديو يُجلس فيه رجال الشرطة عنوة عشرات الطلاب على الأرض، موجهين لهم عبارات بعضها يحمل الإهانة؛ زاد اشتعال الطلبة ليكونوا كذلك أحد الأطراف التي تتوعد ناكرون بالنهاية.
كما يُضاف إلى معادلة محنة الحكومة الفرنسية إعلان نقابة VIGI لرجال الشرطة إضرابها المفتوح ابتداءًا من اليوم، وهو إضراب تدخله تضامنًا مع السترات الصفراء، رافعة شعار: "ما يهمنا إكمال الشهر برواتبنا، لا تغيير سجادات الإيليزيه بـ300 ألف يورو"، مطالبة بتحسين ظروفها وعدم إقحامها في الصراع مع المواطنين.
يوم دامٍ ونتاج حصيلة تراكيمة
اليوم يعيش نظام ماكرون أحلك أزماته، حصيلة لاستمراره في ممارسة نفس السياسة هذا الأسبوع كذلك، وبتعنت يخطو مع مرور ساعات النهار عبر عنق الزجاجة، ولازالت المقاربة الأمنية الماكرونية هي الجواب.
وبتعبئة 89 ألف من رجال الأمن للخدمة، موزعين في كل أرجاء البلاد، لباريس حصة الأسد منها بثمانية آلاف عنصر أمن. كما عُلقت عدد من المباريات الرياضية والأحداث الفنية اليوم، وأُغلق برج إيفيل ومتحف اللوفر أمام زواره، وطلب من أصحاب المحال التجارية بالشانزليزيه إغلاق متاجرهم طوال اليوم.
تميل السلطات الفرنسية لإدارة الأزمة بترتيبات تقارب حالة طوارئ دون إعلانها رسميًا، وهذا دليلٌ على شدة ما تواجهه
وتميل السلطات الفرنسية لإدارة الأزمة بترتيبات تقارب كونها حالة طوارئ دون إعلانها رسميًا، وقد يكون هذا دليلٌ على شدة وقع ما تواجهه كحصيلة تراكمية لسياساتها.
وعلى ما يبدو فإن الإستراتيجية التي تنهجها الداخلية الفرنسية منذ صباح اليوم، هي الاعتقالات العشوائية، والتي بلغت إلى حدود ساعة إعداد هذا التقرير، 700 معتقل، مع دفع الجماهير بعيدًا عن المراكز الحيوية الحكومية، غير أن الحديث عن نجاعتها هي ما ستبرزه تطورات الأمور.
في حين يضعها الشعب الذي يحتج لظروفه الصعبة، مع فشلها في استباق الأوضاع وإدارة الأزمة بالاستجابة له؛ في مأزق وجودي ليس إلا حصيلة الإصرار الحكومي على نفس النهج. ووحدها الساعات القادمة ستبين مآلات الأمور.
محاكاة أوروبية للسترات الصفراء
سرعان ما تدحرجت طبيعة التحليل الذي تقوم عليه شعارات السترات الصفراء في فرنسا، ليلامس جذر المشكلة التي تحيد إدارة ماكرون عن الاعتراف بها. أي حصيلة سنوات من سوء الإدارة وتقبل الشروط الأوروبية، المفروضة من البنك المركزي الأوروبي المهيمن عليه ألمانيًا. إضافة إلى صفقات ألستوم والفساد الطاقي التي ضلع فيها ماكرون نفسه.
ما يقوم به اليمين الشعبوي في أوروبا، ضمن مظلة إرشادات ستيف بانون، هو توظيف غضب الناس من المؤسسة وسياساتها ضد مصالح هؤلاء الناس أنفسهم!
إلا أن التفاعل مع السترات الصفراء لم يكن تضامنيًا بالضرورة عبر القارة الأوروبية. إذ انطلقت شرارة احتجاجات شبيهة في بروكسل، وإن كانت أصغر نسبيًا لناحية أعداد المشاركين. إلا أنها أتت بمقدار الجذرية وتلقي العنف البوليسي ذاته في شوارع عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيث خط المحتجون شعارات تتعلق بالضرائب والسياسات الاجتماعية المحلية البالية والمتسعلية على حقوق الفقراء والأغلبية، إضافة لجملة من الشعارات التي تندد بالسياسات الأوروبية بالمجمل.
أما لناحية التأطير السياسي، وإن دخلت كبرى النقابات الفرنسية cgt على خط السترات الصفراء متأخرة، لتعلن يومين من الإضراب الشامل لكل أعضاءها. إلا أن هذا التحرك كان له صدى أوروبيًا. إذ بدأت نقاشات وتهديدات نقابلة عمال الفولذ الألمانية بتصدر المشهد رويدًا رويدًا، لتنذر بموجة إضرابات واحتجاجات عمالية قد تشهدها مراكز الصناعة الألمانية قبل عطلة الأعياد.
كل هذا بالتزامن مع الوتيرة الاحتجاجية المتصاعدة في كل من باريس وبروكسل، وعودة تظاهرات العاطلين عن العمل في اليونان ومن فقدوا مساكنهم نتيجة الاشتراطات الأوروبية على أثينا، بسمة جامعة لكل بوادر الانتفاضات متداخلة العوامل، وهي أولوية المعيشي وورف1ض محاولات القوى السياسية الكلاسيكية التدخل واختطاف المطالب الاحتجاجية لصالح برامج سياسية. هذا على الرغم من المطالبات الاحتجاجية لم تنأى بنفسها عن الشعارات السياسية أيضًا. ما يقول بمعقولية التحليل المتعلق بتصاعد اليمين الفاشي أوروبيًا على أنه عرض للمشكلة وليس سببها المركزي، وهي ذات المشكلة التي تحاول السترات الصفراء اليوم التصدي لها، أي عقم السياسات العمومية، اقتصادية واجتماعية، الأوروبية عن إقناع دافع الضرائب أو تمثيل مصالحه. لتبقى أوروبا ساحة عبث وتجريب لنظريات ونصائح ستيف بانون الشعبوية مستغلًا غضب الناس ليوظفه ضدهم، لا بحثًا عن مكامنه وحلولها كما تجتهد القوى الشعبية المستمرة بالنزول إلى الشوارع دفاعًا عن حياتها.
اقرأ/ي أيضًا: