08-يناير-2019

أصبح للنساء يوم احتجاجي خاص من قلب حركة السترات الصفراء في فرنسا (أ.ف.ب)

للأسبوع الثامن، يبدو أن حركة السترات الصفراء لا تزال وفيّة لنهج العمل المباشر على الأرض، متشبثة بالاحتجاج في سبيل انتزاع مطالبها.

استغلت السلطات الفرنسية موسم أعياد الميلاد وضعف الزخم الاحتجاجي في الشارع، لتلقي القبض على عدد من كوادر السترات الصفراء

وبعد أسبوعين مرا طويلًا، عرفا زخمًا محتشمًا وتحركات قليلة، نظرًا لكونهما أسبوعي أعياد واحتفالات رأس السنة الميلادية؛ حان للحركة العودة للشارع بالقوة. 

اقرأ/ي أيضًا: "Vécu".. إعلام السترات الصفراء البديل في وجه فرنسا الرسمية

وإن كانت الأيام القليلة الخالية لم تحمل إلا تحركات صغيرة كمّا من طرف السترات الصفراء، إلا أنها شهدت في المقابل هجومًا قاسيًا من السلطات الفرنسية التي استغلت الفرصة لشن موجة اعتقالات شرسة طالت عددًا من كوادر الحركة الاحتجاجية.

وفي حين رأت الحكومة الفرنسية في إجازات أعياد الميلاد، وضعف الزخم الاحتجاجي في الشارع فرصة لإلقاء القبض على عددٍ من كوادر الحركة، يبدو أنها لم تدرك أن السترات الصفراء حركة احتجاج جماهيرية غير تنظيمية، لذا فإن كوادرها عمليًا ليسوا ذا تأثير تنظيمي على استمرار الاحتجاجات.

ما الذي كانت تُعد له الحركة؟

ربما يغيب عن المتابع لأحداث الحراك الشعبي المستجد في فرنسا، الجانب الآخر لما تشتغل عليه حركة السترات الصفراء، ففي حين تطغى على التغطيات الإعلامية صور التحرك المباشر في شوارع باريس، أو على طرق الريف الفرنسي؛ يبقى العمل التنسيقي الكبير والمتطور اطرادًا مع حاجيات الوقائع المتواترة، في الظل بعيدًا عن المشاهدة.

السترات الصفراء
إيريك دوريه، أحد كوادر السترات الصفراء الذين اعتقلتهم السلطات الفرنسية

وفي تفاعل مع إستراتيجيات القمع والاحتواء التي وسمت الموقف الحكومي الفرنسي، بوصفه نقيضًا في حلقة صراع يحتدم فيحمِّله مسؤولية الوضع كاملة؛ أنشأت الحركة خطوط مقاومتها الموازية، ناقلة الصراع إلى مناح أخرى غير الاصطدام المادي في الشارع.

وهكذا عملت الحركة على إنشاء إعلامها الخاص، معتمدة  في ذلك على وسائلها التقنية والمادية البسيطة، أخذت المبادرة في نقل مقاومتها إلى مجال آخر، مجال الخبر والصورة، والذي تستحوذ عليه رسميًا مليارديرات الاقتصاد الفرنسي.

وعبر هذا التحرك السريع، سحبت الحركة صوتها من تحت يد التحكم الأيديولوجي للدولة، "وفي وقت كان على المتتبع من بعيد، الرجوع إلى الصحف والقنوات الرسمية كي يحصل على المعلومة، والتي في غالب من الأحيان متلاعب بها، أو جزئها الذي يحجب الحقيقة كاملة؛ بات لديه الآن البديل الذي يقدم له المُعَاش اليومي للحركة"، أو كما علّق غابان فورمون، مؤسس صفحة "Vécu" لإعلام السترات الصفراء، في حديث لـ"ألترا صوت".

هذا البديل الذي تحدث عنه غابان فورمون، والذي أصبح اسمًا تعرفه كل فرنسا اليوم، لا تقف منافعه للحركة عند هذا الحد، بحيث لم يقتصر إنتاجه الإعلامي على نقل أخبار الحركة ومواجهة التعتيم عليها، بل صار منصة مفتوحة للتعبير لكل جماهيرها، ينظمون من خلالها تحركاتهم التالية، ويناقشون همومهم، ويبوحون عن جراحهم التي تلقوها وهم يقومون بفعل الاحتجاج.

وإضافة إلى التحرك الإعلامي الذي انتهجته الحركة، انبثقت نقاشات مثيرة، تخلص غالبًا إلى إبداع آليات احتجاج جديدة، هذا ما أنتج التحرك الأصفر النسوي الجديد، إضافة إلى المسيرات المعتادة في باريس كل يوم سبت، بما يراد له أن يصير تقليدًا بدايةً من هذا الأسبوع في يوم الأحد، بحيث يكون السبت للمسيرات المختلطة، والأحد مسيرة نسوية ترج العاصمة الفرنسية، ضاغطة على أركان السلطة لتلين وتستجيب.

أحدٌ بِنون النسوة

تعود فكرة المظاهرة النسائية بالأساس لـ"سيلين شيفي"، ربة منزل وأم لأربعة أطفال، دفعها قَدَر العيش لاعتمار السترة الصفراء والخروج إلى الشارع مطالبة بحقها وحق أبنائها.

وتوضح سيلين، في حديث لها مع "ألترا صوت"، السبب الرئيسي الذي ألهم فكرتها في الدعوة إلى تحرك نسائي مُوحّد من داخل حركة السترات الصفراء، قائلة: "ترتبط جذور الفكرة في تاريخنا كأمة فرنسية، وتعود إلى الوراء مسافة 300 سنة، أثناء الثورة الفرنسية، والتي كانت النساء عصبها الحيوي". 

وأوضحت: "فالنساء هن من حركن الثورة عندما طالبوا بقوت أولادهن، والنساء هن من قبضن على الملك وسلمنه للمقصلة. فليست هناك ثورة دون حضور النساء كما أقرها كونت ميرابو قائد الثورة الفرنسية".

سيلين شيفي
سيلين شيفي صاحبة فكرة أحد نساء السترات الصفراء

ومن هذه المنطلقات، دعت سيلين، ورفيقاتها الأخريات، إلى مسيرة يوم الأحد. مؤكدات أن النساء، بوصفهن المتضررات الرئيسيات من سياسات إيمانويل ماكرون، يجب عليهن "أن يكنَّ صوتًا واحدًا للضغط على الحكومة كي تستجيب"، مجابهات خوفهن، ويفعلن ما تستلزمه اللحظة، في حين تحول مطاوعة هذا الخوف دون التغيير المأمول، تأبيدًا للواقع؛ "شعب يكابد العيش في بيته، ويتأمل الأثرياء فيه أن يزدادوا ثراءً"، على حد تعبير سيلين.

وتركز الدعوة النسوية من داخل السترات الصفراء على كونها لا أيديولوجية، متحاشية فهمها كجزء من الأيديولوجيا النسوية، وبالتالي تصف نفسها غير منفصلة عن الحركة، وتنفي أي طموح لها في ذلك. وإنما هي "توحيد لكل قوى الثورة، وتنويع لأشكالها النضالية بقصد مضاعفة الضغط أكثر على الحكومة"، كما توضح سيلين شيفي.

واستطردت: "وكما اعتدنا منذ أول أيام الحركة أنت تكون المسيرات يوم السبت، فهذه المرة ستكون يوم السبت والأحد"، معتبرة أن دعوتها هذه كفيلة بأن تضع الحكومة الفرنسية في مأزق، "كونها تستنزف آلتها الإعلامية كل الأوصاف القدحية التي اعتادت رمي الحركة بها، واتهامها بالتخريب، وإن تمت مواجهتنا بعنف، سيكون ذلك كفيلًا بضياع ما تبقى من صورة فرنسا الحضارية".

قمع نهاية أسبوع

نهاية الأسبوع الثامن كانت ملتهبة على عكس الأسبوع السابق له، حيث إن حملة الاعتقالات التي تعرضت لها الحركة، ساهمت بشكل أكبر في اشتعال الاحتجاجات من جديد.

ومنذ الساعات الأولى لصباح السبت، توافد المتظاهرون إلى محيط الشانزيليزيه، محتلين الشوارع المتفرعة عنه، مع هتافات بإسقاط حكومة ماكرون. 

وفي بداية اليوم أعلنت قناة BFM، أن التجمهر لم يتعد 200 متظاهر، فيما يعتبره أعضاءُ الحركة إعلانًا تضليليًا، غير أنه زاد تأجيج الزخم الاحتجاجي، ومع الظهيرة، كان عدد المتظاهرين يربو على 50 ألف متظاهر، بحسب المصادر المحلية.

وكان التحرك الرئيسي للجماهير نحو قصر البرلمان، والشغل الشاغل للشرطة منعهم من الوصول إلى هناك باحتجازهم في الأزقة الضيقة، وتفريقهم بالغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت المحرمة أوروبيًا. فما كان من المتظاهرين سوى الرد على العنف المسلط عليهم، ودون الرضوخ إلى الخوف أو الألم، خاضوا المواجهة كرًا وفرًا في شوارع باريس الرئيسية.

مواجهات خلفت مشاهد دموية، ينقلها لنا جيسي، أحد المسعفين المتواجدين على الأرض يومها، في شهادته لـ"ألترا صوت"، قائلًا: "رجال الشرطة استعملوا عنفًا همجيًا تجاه المتظاهرين. ومن خلال الإصابات التي عالجناها، يتبين لنا أن تلك الأفعال كانت مقصودة لإحداث عاهات دائمة".

ويسترسل جيسي في وصف حجم الإصابات: "كانت هناك فتاة صغيرة مصابة في فخذها بقنبلة صوتية، ورجل كذلك مصاب إصابة مباشرة في وجهه بذات النوع من القنابل المحرمة أوروبيًا، وآخر مصاب على مستوى الصدر".

في المقابل ظلّ رد الحكومة الفرنسية -إضافةً للعنف الممنهج ضد المتظاهرين وحملات الاعتقال- في موضع الاتهام بالخيانة حينًا، والحماقة أحيانًا، كما قال المتحدث باسم الحكومة الفرنسية بنجامان غريفو: "إنهم حمقى"، في إشارة إلى المتظاهرين.

إلى أين تذهب الحركة؟

"مرت المسيرة في ظروف حسنة"، تصف سيلين شيفي الظروف التي مرت فيها المسيرة النسائية. ومن داخل المسيرة استقى "ألترا صوت" شهادات من مشاركين فيها، كالتي صرحت بها متظاهرة وهي أم وحيدة تربي طفلتها، قائلة: "أنا هنا من أجل ابنتي، نحن نعيش كل يوم بالمعجنات، وفي أيام آخر الشهر نضطر للاختيار بين الأكل وبنزين السيارة التي أعمل عليها. لهذه الأسباب نتظاهر اليوم".

وأضافت متظاهرة أخرى، وهي سيدة من ذوي الاحتياجات الخاصة، قائلة: "إنني هنا أطالب بحقي، كامرأة وذات احتياجات خاصة، فوضعيتنا أكثر صعوبة". بينما كان هتاف النسوة يصدح في ساحة الأوبرا: "إيمانويل ماكرون يا أبله! نحن قادمات لأخذك من بيتك!".

من قلب السترات الصفراء، خرجت حركة نسوية لزيادة الضغط على السلطات الفرنسية بإبداع أشكال متعددة من الفعل الاحتجاجي

وفي وقت كثرت فيه الأسئلة عن: إلى أين تذهب حركة السترات الصفراء؟ تبقى الإجابة عن هكذا سؤال رهينة بمراقبة تحركات الحركة الأخيرة. فبعد أن غلب الظن على موتها، انبعثت من رماد، مبينة أن ذلك الخفوت الملحوظ في فعالياتها الاحتجاجية لم يكن إلا استراحة محارب، ورجوعًا إلى الذات لإعادة تجديدها من الداخل في أفق الاستمرار في المسير إلى حين تحقيق المطالب كاملة. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

مُعاشٌ يومي.. السترات الصفراء من الداخل

أبناء الجوع.. بربرية فرنسية وإرهاب عربي!