28-أغسطس-2020

موكب رهبنة الفرنسيسكان في كنيسة القيامة في القدس سنة 2004 (غالي تيبون/Getty)

يعرض فيلم Novitiate المنتج عام 2017 مسار تعلم الرهبنة في الدير الكاثوليكي والصراعات التي تعيشها الفتيات اللواتي انخرطن في سلك الرهبنة الطويل. تعددت أسباب كل واحدة من الفتيات لاتخاذ هذا الطريق الشاق، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إحدى الفتيات عاشت طفولة بائسة، وأخرى عايشت العديد من المشاكل الأسرية وطلاق للوالدين، وإحداهن نشأت في بيئة متدينة تضم العديد من الرهبان، ومنهن من تمردت على عائلتها الملحدة وفعلت عكس ما كانت عليه صورة والديها، وإحداهن من أجل إيجاد السكينة. تقول الراهبة الأم في شرحها علاقة الراهبات مع الحب "الراهبة تغرم بالله، وجميع الراهبات عرائس المسيح، إنهن متزوجات من الله والمسيح".

 هل الحرمان وعزل النفس عن العالم، والعيش بقية العمر داخل جدران الدير وأسواره العالية يوصل صاحبه حقًا إلى تمام المحبة؟

يطرح الفيلم مسألة الصراع النفسي بين الفتيات وبين متطلبات الرهبنة، وهل الطريق الأمثل للمسيح يكون بمنع رغبات الجسد الفطرية وفي مقدمتها الرغبة الجنسية؟ هل الحرمان وعزل النفس عن العالم، والعيش بقية العمر داخل جدران الدير وأسواره العالية يوصل صاحبه حقًا إلى تمام المحبة؟ هل يسمو بالنفس ويخلصها من الشوائب! أم أنه يوقع الراهب والراهبة في تناقض وصراع مرير مع نداء الفطرة الملح!

اقرأ/ي أيضًا: المسيحي في السينما المصرية: ماذا عن الرهبان؟

كما يصور الفيلم الإنسان في خلوته، في منامه، ماذا يدور في أحلامه، ماذا يفعل حينما ينزع عنه رداء الرهبنة ويرتدي ملابس النوم ويغلق عليه بابه! إذ يصور الفيلم الإنسان الحقيقي دون طلاء ولا زيف أو خداع. هنا الصراع المرير بين ما يطلبه نظام الرهبنة من "نذور العفة"، أو بمعنى أدق من إماتة الشهوة والرغبة الجسدية، وبين تصادم ذلك مع الطبيعة البشرية، وما ينجم عنه في النهاية من تشويش للذهن وتعكير للنفس واضطراب للروح. فكيف يحيا الإنسان/الراهب دون هذه الأبعاد الإنسانية؟

الاختبار المسيحي

في حديثه لألترا صوت يشير الخوري اللبناني أغابيوس كفوري، 46 سنة، وهو رجل دين يعمل كمدرس، "في المبدأ الإنسان في تكوينه يجب أن يعيش في ظل هذه الأبعاد الثلاثة، فلا يمكن للإنسان أن يعيش بدون حب وجنس وعائلة، وهي حاجات مهمة للإنسان".

ويشرح كفوري أن الاختبار المسيحي من خلال الحياة الرهبانية أو الحياة البتولية أثبت أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش بدون حب، ولكن يمكن للإنسان أن يوجه هذه الحاجات إلى الجنس والعائلة بطريقة مختلفة عن الطريقة التقليدية المتبعة من قبل معظم الناس. فالراهب، حسب رأيه، يتعالى عن الحاجة الجنسية ويحول العائلة من أشخاص من لحمه ودمه بيولوجيًا إلى أشخاص يرتبط بهم برابط روحي أقوى من الارتباط البيولوجي، وهذا ما يسمى بالعائلة الرهبانية.

فيما يرى كفوري أن الرهبان لهم دور أساسي في المرافقة الروحية والتعليم والتدريب على الصلاة والخدمات الروحية للمسيحيين، ويجسد الرهبان في معاشهم الحياتي الحضور القوي للروح القدس في قلب هذا العالم. فيسوع يقول "في الملكوت لا يتزوجون ولا يزوجون" والراهب بالتالي يعيش الحالة  لينال الملكوت.

ويضيف أن الكنيسة لغاية اليوم لديها كهنة  يعيشون الابتعاد عن الجنس سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، ولا شك أن هناك تجاوزات أو أخطاء عبر التاريخ فهذا شيء موجود وممكن، في النهاية هم بشر ولم يتخلوا عن صفاتهم البشرية بل قدموا هذه الحاجات والرغبات الطبيعية التي وضعها الله فينا كبشر، كتضحية وذبيحة بشكل روحي من أجل الجهاد الروحي الذي يخولهم العيش في ملكوت الله منذ الآن وبشكل مسبق. وهذا قرار نابع منهم بيولوجيًا وفيزيلوجيًا ونفسيًا لتوجيه هذه الرغبات وهذا لا يعني افتقارهم للمشاعر بل هذا قرار للتضحية والجهاد.

العفة ليست كبتًا كما يقول الخوري أغابيوس كفوري، العفة هي فعل وقرار إرادي شخصي وليس جبري لتوجيه هذه الطاقة، وهذا لا يعني نكران هذه الرغبات بل توجيهها إلى طرق الإيمان والصلاة والرياضة والفنون والنشاطات الأخرى. فالعفة فعل إرادي، حسب كفوري. فهناك رحمة وهناك مسامحة لمن يخرق مبدأ الرهبنة، والعقاب أو الرحمة والمسامحة كلها ترتبط بنوعية الخرق الذي فعله الراهب. اليوم مثلًا، التحرش بطفل هو سقوط لا يبرر ولا يغض النظر عنه، وأما السقوط بين راشدين فيمكن أن يكون له معالجة مختلفة. نحن بشر وأي إنسان معرض للسقوط، وهناك فرق بين سقوط وسقوط آخر. لا يمكن مثلًا مساواة الخطأ في العمل بالخيانة في الحياة الزوجية. الأخطاء واردة وهناك أخطاء إنسانية وهناك أخطاء سببها حالة مرضية.

مسار الرهبنة

لم تنطلق الحياة الرهبانية في الكنيسة بشكل مخطط، بل تمت بالصدفة. في بداية الكنيسة شجع القديس بولس على عدم الزواج، وهذا التشجيع جاء بناءًا على تصور أن نهاية العالم قريبة جدًا، لذا ليس هناك من داعي للإنسان أن يتلهى بالأمور الدنيوية كإيجاد شريك لحياته وتأسيس أسرة. بل يجب التحضير للحياة الآخرى ولقيامة الأموات. وبدأت فكرة الرهبنة في القرن الرابع بعد الميلاد عندما توقف الإضطهاد الجسدي الواقع على الكنيسة، قبل مرسوم ميلانو وقسطنطين، وانتشرت الرهبنة في كل أقطاب الكنيسة.

هناك رحمة وهناك مسامحة لمن يخرق مبدأ الرهبنة، والعقاب أو الرحمة والمسامحة كلها ترتبط بنوعية الخرق الذي فعله الراهب

مسار الرهبنة طويل، يبدأ بمرحلة أولى تسمى "الطالبية" تمتد من سنة إلى 3 سنوات حيث يعيش الطالب في الرهبنة بصفة طالب، والمرحلة الثانية تسمى "الابتداء" وتمتد من سنة وربما تصل في بعض الرهبنات إلى 13 سنة، ومن ثم يقوم بنذر النذور المؤبدة والالتزام الأبدي. يهدف هذا الوقت إلى عيش التجربة والاختبار الروحي والمرافقة الروحية من قبل أشخاص سبقوه لمعرفة إن كان مؤهل أو غير مؤهل لعيش هذا الحب والحصول على عائلة رهبانية.

اقرأ/ي أيضًا: الكتب المحرمة... أمثلة درامية على الرقابة السوداء

الراهب يخدم المسيح والكنيسة دون شرط أو تحفظ أو تردد من أجل الفوز بالحرية في الحياة الآخرة عندما يتحد الإنسان مع الله. وتنطوي الرهبنة على التضحية فكل علاقة قائمة على الحب والمحبة يجب أن يتخللها التضحية. فالراهب يضحي بنفسه من أجل الكنيسة حيث يضحي بتكوين أسرة وأن يكون له زوجة وأطفال في سبيل بناء خدمة الكنيسة والمسيح والرعايا كأب. والعنصر الثالث يتمثل في تقدير نعمة الحياة التي منحها الله للراهب ويقوم برد الهدية لله عبر طاعته المستمرة.

علم النفس وحاجات الحياة

هناك هرم الحاجات الذي رسمه أبراهام ماسلو يتحدث فيه عن الحاجات وأهميتها وتسلسلها، ويوجد في قاعدته الحاجات الأكثر إلحاحًا للإنسان ويصعب على الإنسان العيش بدونها، وتسمى الحاجات الفيزيولوجية كالمأكل والشراب والحاجات الجنسية، ويعتبر ماسلو أن لدى الإنسان قدرة خفيفة في التخلي عنها.

الشخص البالغ الذي يعزف عن الحياة الجنسية ويتعفف، ربما لاعتقاده أن الحياة الجنسية تزيد من ارتباطه بما هو دنيوي وغريزي تحجب عنه إمكانية الترقي إلى مستويات سامية بالعلاقة مع الله. ولفهم سبب إحجام بعض الأشخاص عن الحياة الجنسية يجب دراسة "الأنا" وكيفية تكون الشخصية الإنسانية، إضافة لفهم الأليات الدفاعية التي تستعين بها "الأنا" والتي تحمي الإنسان من القلق.

صورة تعبيرية من دير جبل اثوس اليوناني (ريك فيندلر/Getty)

القلق يتأتى إما من الداخل: الرغبات والنزوات والصراعات الجامحة والمندفعة والتي يصعب السيطرة عليهم. وإما ناتج من الخارج: الحياة الاجتماعية والمخاطر المترتبة عن الحياة الاجتماعية والممنوعات التي تفرضها البيئة الاجتماعية. و"الأنا" هي المسؤولة عن التوافق بين الداخل والخارج، وهي المرتبطة بالواقع، وهي التي تقيم وتقدر حجم السيطرة بين الداخل والخارج من أجل الحفاظ على أكبر قدر ممكن من التكيف كي يكون بمقدور الإنسان أن يتصرف بشكل صحي وسليم.

فالأنا  تشتمل على أدوات دفاعية هدفها حماية الإنسان وهي من أهم وظائف الأنا. فالتركيب النفسي مؤلف من ثلاث مستويات: المستوى الأول يسمى "الهو" مستودع الرغبات والغرائز ويظهر بشكل واضح عند الأطفال. وأما المستوى الثاني فهو "الأنا" والمستوى الثالث "الأنا الأعلى" الذي يتألف من الرقابة على الممنوعات والرغبات المحظورة والقوانين الاجتماعية. وهنا يأتي دور الأنا في التوفيق بين الهو الجامحة والأنا الأعلى الكابحة لخلق التوازن النفسي للإنسان.

ويعمل مستوى الأنا وفق مبدأ الواقع الاجتماعي وهو مستودع للمنطق الاجتماعي، إلا أن الرغبات الشرسة الموجودة في مستوى الهو تفلت أحيانًا إما من خلال سلوك الإنسان العادي وزلات اللسان والأفعال المغلوطة والأحلام أو عبر اختلالات في الشخصية. وهذه الاختلالات تؤكد أن الأنا كانت ضعيفة وفشلت في عملية التوفيق والتوازن بين الهو والأنا الأعلى، ويخضع الأنا لسيطرة الهو والأنا الأعلى وتبدأ الأمراض بالظهور.

هنا تتدخل الأنا دفاعيًا عبر  وسائل حماية الإنسان وهناك عدد كبير من هذه الوسائل ومنها ما يعرف بالتسامي. من هذا العرض يجب التركيز على التسامي في حالة تفلت رغبة تريد التعبير عن نفسها علنًا في الوقت الذي تمنع من التعبير عن نفسها بشكل فج ظاهر علني وغير مقبول اجتماعيًا. ليقوم دور التسامي بتحويل نزوة مدانة اجتماعيًا إلى نزوة مقبولة اجتماعيًا.

يعيش الرهبان في عالم غير مألوف بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، عالم لا يتم البحث فيه عن الملذات الجسدية وإشباع الرغبات الجنسية أو الاحتفال بالزواج، بل يحظر هذه المسلكيات. حتى لو كان البعض غير سعداء، فليست المسألة أمرًا سهلًا كي يغير الراهب من رأيه ويتخلى عن مشروعه. هناك صعوبة كبيرة في هكذا قضايا خاصة حين التعمق في سؤال الحب فلسفيًا، فيصبح الإنسان أمام خيارات صعبة بين التزامه الأبدي لله وبين رغباته الجسدية والنفسية والعاطفية. والإنسان يصبح أسير حياتين، يعيشهما سويًا دون أي رغبة بالتخلي عن أي واحدة منهما.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لبنان.. دير سيدة النورية وعجائبية المكان والزمان

شرفة في دير بعيد