28-فبراير-2016

نظر الإنسان القديم إلى النسر على أنه أقوى مخلوق في تلك العصور

عندما فكر رائد الفن التشكيلي في سوريا ناظم الجعفري بتصميم شعار يرمز إلى سوريا، وقع اختياره على طائر النسر، كانت تلك فكرته ولم يقترحها عليه أحد، لماذا؟ لأن النسر: "طير قوي، وهو من الجوارح، إنه رمز الشموخ والكبرياء" كما قال.

كان النسر شعارًا سوريًا قبل أكثر من عشرة آلاف عام سبقت ميلاد المسيح

واضح أن هذا الفنان العظيم لم يكن يعلم أن النسر كان شعارًا سوريًا قبل أكثر من عشرة آلاف عام سبقت الميلاد، لا لشيء إلا لأن الفترة التي رُسم فيها شعاره كان بداية لعصر الاكتشافات الأثرية في سوريا قبل نصف قرن تقريبًا.

اقرأ/ي أيضًا: "الله الصمد".. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم

عبر هذه السطور سنصيغ من الرموز المكتشفة في مهد الحضارة الإنسانية سوريا أسطورة طائر النسر السوري، ذلك الطائر الذي وضع للفكر الإنساني أجنحة، وجعله يحلق في السماء ثم يعبر على جناحيه المنشورين الحدود العليا الزرقاء التي تفصل عالم البشر عن عالم الآلهة.
 
نسر البلعاس
 
قرب مغارة تقبع في أحضان جبال البلعاس، التي تقع إلى الشرق من مدينة سلمية بمسافة 55 كم، اكتشفت البعثة الأثرية السورية الفرنسية رأس نسر نحته إنسان الكهوف الصياد على صخرة أمام مدخل مغارته. طول هذه المنحوتة يبلغ 25 سم وعرضها 15 سم، وقد حيّر شكله العلماء قبل عشرة آلاف عام.

اللافت في مكتشفات جبل البلعاس أن المغارة المكتشفة، التي يعود الاستيطان البشري فيها إلى 12 ألف سنة ق. م، تبعد كيلومترات قليلة عن أقدم قرية بشرية اكتشفتها البعثة السورية الفرنسية، ليتبين بشكل قاطع أن الإنسان استوطن الجبال كما استوطن ضفاف الأنهار.

في الألف التاسع قبل الميلاد، حدثت تحولات في بلاد الشام عرف الإنسان بدايات التدجين والزراعة

الخبير في عصور ما قبل التاريخ، المدير العام للآثار والمتاحف السورية الدكتور بسام جاموس، قال في لقاء أجريته معه في 2010 إن: "الوضع الطبيعي في سوريا ساهم على بداية الاستقرار القروي منذ حلول العصر الدافئ (الهولوسن) في الألف الثاني عشر قبل الميلاد، وخلال الألف التاسع قبل الميلاد حدثت تحولات في منطقة بلاد الشام عرف خلالها الإنسان بدايات التدجين والزراعة التي أدت إلى ظهور بدايات التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية، ثم تتوّجت تلك التحولات بظهور الثورة الزراعية الأولى التي انطلقت من موقع المريبط على الفرات خلال الألف الثامن قبل الميلاد، ليبدأ الإنسان تنظيم قراه، وهذا ما يظهر جليًا في المنشآت المعمارية المنظمة التي أظهرت آلية انتقال الانسان من مرحلة الصيد إلى مرحلة الهندسة والعمارة".

الثورة الزراعية التي أطلقها السوريون لم تكن الوحيدة لأنها ترافقت بثورة لا تقل عنها أهمية، إنها ثورة الرموز فقد أظهرت "اللوحات" الحجرية التي تم العثور عليها في مناطق الاستقرار الأولى في الفرات السوري: المريبط، الجرف الأحمر، الشيخ حسن، جعدة المغارة، حالولا، بقرص، أبو هريرة.. إلخ، وبعض القرى في الساحل السوري: أوغاريت، وقرى غوطة دمشق: تل الرماد، تل غريفة، تل أسود، وأخيرًا في جبل البلعاس؛ صورًا لطيور في مقدمتها النسور والبوم والعصافير الصغيرة، إضافة إلى نقوش حيوانية وهندسية.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كلمة "لي لي ليش" وحقيقة معبد "لالش" الأيزيدي

يشير الدكتور جاموس إلى أن المختصين في علوم اللغويات يؤكدون أن هذه النقوش كانت تشكل إشارات رمزية تصويرية قد تسبق الهيروغليفية المصرية بخمسة آلاف عام خلت، وأنها كانت لغة التعارف الأولى، حيث اكتشف فيها أيضًا نقوشًا تقرأ في العين كإشارات المرور حاليًا.
 
رمز المجتمعات القروية الأولى
 
يقول الدكتور جاموس: شهد موقع الجرف الأحمر (في الفرات) اكتشاف أول وثيقة تؤكد أن شعار النسر السوري فارد الجناحين انطلق من هذه الأرض، ثم أكدت المعطيات الأخرى التي عثر عليها الباحثون في موقعي جبل البلعاس في حماة، وموقع العبر على الفرات، أن طائر النسر كان يعيش في هذه المنطقة، وهو شعار الحضارة السورية منذ عشرة آلاف عام خلت، واستمر نقش هذا الشعار في فترات عصور البرونز في الألف الثالث قبل الميلاد حتى 1200 قبل الميلاد، ثم بفترات عصور الحديد (القرن التاسع قبل الميلاد) حتى فترة العصور الكلاسيكية (القرن الخامس قبل الميلاد).

الثورة الزراعية التي أطلقها السوريون ترافقت مع أخرى لا تقل عنها أهمية هي ثورة الرموز

يرى الدكتور جاموس الخبير في عصور ما قبل التاريخ أنّ تجسيد طائر النسر بشكل خاص في معظم اللوحات الحجرية التي تم العثور عليها على الأرض السورية يؤكد على "القوة والهيبة"، وانطلاقًا من ذلك فقد تم تمثيل هذا الطائر على الصعيد الاجتماعي والطقسي الشعائري، إضافة إلى كونه يمثل رمزًا للمجتمعات القروية لما تخيلوه من ضخامة في الحجم وكبر الجناحين وضخامة الصدر وقوة القدمين، لذلك اتخذ نقاشًا أساسيًا لفناني المجتمعات في هذه القرى، وأكبر دليل على ذلك استمرار تمثيل هذا النسر في شعارات الدول وفي مقدمتها سوريا، حتى يومنا هذا.

اللافت، والكلام لجاموس، أنّ: "بعض النقوش جسدت مع طائر النسر حيوانات أليفة لكنها كانت تمثل تحت جناحيه، لكن الاكتشاف الأخير في جبل البلعاس فتح أفاقًا مختلفة لأن تجسيد طائر النسر كان أمام إحدى المغاور، وهو ما يشير إلى أن الإنسان القديم نظر إلى النسر على أنه أقوى مخلوق في تلك العصور، لكن بفترات عصور البرونز والقرون الأولى قبل الميلاد، تم تجسيد حيوانات ضخمة كالأسود والفيلة أمام القصور والمعابد".
 
النسر والإنسان
 
خلال بحثي عن الدول التي اتخذت من النسر شعارًا لها لفتني لقاء صحفي أجرته جريدة "إيلاف" الإلكترونية في 2006 مع البروفسور العراقي ريان عبد الله الذي صمّم لألمانيا شعارًا جديدًا كان النسر بطله، وقد طبق هذا الشعار في أنحاء البلاد نهاية 1997 أثناء حكومة المستشار الأسبق هلموت كول.

يقول ريان بعد دراسات وأبحاث أجراها على طائر النسر، منها ما قرأه ومنها ما توصل إليه عن طريق المراقبة اليومية: "معروف أن النسر والأسد هما أكثر رمزين متداولين في شعارات الدول، لأن كل الدول تحب أن تصف نفسها بالقوة والهيبة وتختار ما بين ملك الغابة أو ملك الطيور"، ويضيف كل الدول الأوربية في فترة معينة كان شعارها النسر مثل ألمانيا وبولندا والنمسا وألبانيا ماعدا فرنسا اختارت الديك شعارا لها، ورغم ذلك هم سعداء بهذا الشعار.

اقرأ/ي أيضًا: السحر وامتلاك العالم

يتابع الخبير العراقي في تصميم الشعارات قائلًا: "النسر سيد السماء، وحين يكون في الجو كل الطيور تفسح له المجال، وله شخصيته وهيمنته"، وللنسر أيضًا "ميزات كثيرة أهمها أنه لا يهجم على الحيوانات إلا أذا كان جائعًا، ولا يأكل الميتة أو الفريسة، بل اللحم الطازج، إضافة إلى ذلك عنده قوة نظر عالية ويختار فريسته على أبعاد عالية جدًا وعنده دقة في الصيد مائة بالمئة".

في شعارات الدول، نظرة النسر إلى اليمن تعني أن الدولة "يمينية"، والنظرة إلى اليسار تعني "دولة يسارية"

كما أن بين النسر والإنسان نقاط التقاء هامة فمخالب النسر، كما يرى البروفيسور ريان، مهمة جدًا لأنها تمثل له ما يمثله "الإبهام" عند الإنسان كأداة حساسة جدًا لمسك كل شيء، وكذلك النسر بدون مخلبيه لا يستطيع التوازن أو الوقوف على أي شجرة، وهذه هي نقطة التشابه بينه وبين الإنسان، إضافة إلى "التركيز" على الحركة.

من وجهة نظر مصمّم الشعار فإن نظرة النسر لها خاصة، لأن نظرة النسر إلى اليمن أو اليسار تمثل توجه الدولة، فنظر النسر إلى اليمن يعني أن الدولة "يمينية"، والنظرة إلى اليسار تعني "دولة يسارية"، وعادة، كما يقول البروفيسور ريان "لا تنظر النسور أمامها، ودائمًا تتوزع نظراتها يمينًا ويسارًا، على ضوء ذلك اختارت الكثير من الدول النسر ذا الرأسين مثل النمسا وألبانيا، ففي شعاراتها نسور ذات رأسين تنظر يمينًا ويسارًا حتى لا تحصل لها أية مشاكل مع شعاراتها وتوجهاتها".
 
بعد استعراض آراء الخبراء في الرموز سأسرد في المقال القادم تفاصيل رحلتي إلى جبال البلعاس، الموطن الذي اكتشف فيه أول استخدام لشعار النسر رموز القوة، واستخلص أسطورة النسر السوري العظيم كما لمستها في رهبة المكان.

اقرأ/ي أيضًا:

"الفاروق" لقب المسيحيين السريان للخليفة عمر

تاريخ كلمة "مرحبا"