08-أكتوبر-2018

ارتبط استعمار أستراليا بتجارة العبيد بشكل مباشر (Getty)

في حين يفاخر بعض الأستراليين بأنَّ مستعمرتهم، مختلفة عن التجارب الاستعمارية الأخرى، التي قامت على تجارة العبيد، واستعباد السكان الأصليين، ويعتقدون أنها قد تأسست بواسطة "انتقالٍ منظمٍ وأنيق للتحضر البريطاني"، فإن البحث في أصول هذه السردية، يحيل إلى خطأ فادح داخلها. حيث يوضح كتاب "جزر قبالة سواحل آسيا، أدوات إدارة السياسة الخارجية الأستراليّة"، لأستاذ العلوم السياسية والمؤرخ كلينتون فرناندس، أن تاريخ النخبة الاستعمارية الأولى، لم يكن منفصلًا عن العبودية البريطانية، وإنما متصل بشكل وثيق وبنيوي بها، إذ حظي هؤلاء المستعمرون المؤسسون بالنفوذ من خلال التعويضات التي حصلوا عليها بعد سن بريطانيا لقانون منع تجارة العبيد، الذي قام على أساس اقتصادي أكثر مما هو أخلاقي. يقدم "ألترا صوت" ترجمة لمراجعة مطولة للكتاب، نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية.


بينما يلقي توالي العقود الضوء على معاملة الاستعمار الوحشية لسكان جزيرة أستراليا وجزر مضيق توريس، حرصت أستراليا على تطمنينا من أنَّ تاريخنا لم يلوثه على الأقل، خلافًا لبريطانيا وأمريكا، العار الشائن المرتبط بتجارة العبيد من الأفارقة وسُكان جزر الكاريبي الأصليين.

يوضح كتاب "جزر قبالة سواحل آسيا، أدوات إدارة السياسة الخارجية الأستراليّة"، للمؤرخ كلينتون فرناندس، أن تاريخ النخبة الاستعمارية الأولى في أستراليا، لم يكن منفصلًا عن العبودية البريطانية

غير أنَّه يتوجب على البحوث التاريخية الرائدة الآن أن تتروى وتُعيد النظر. إذ يتضح أنَّ بعض أبناء العائلات النبيلة المنتمين إلى مجتمع المستعمِرين قد أرسوا جذورهم في أستراليا باستخدام الثروة التي اكتسبوها من العبودية، إضافةً إلى التعويضات الرسمية عن خسارة مواردهم من العبيد، وذلك عندما ألغت الحكومة البريطانية في النهاية الاتجار بالبشر ذوي البشرة الداكنة.

قدِم إلى أستراليا محافظ جديد لولاية نيوساوث ويلز، وعُمدة لمدينة ملبورن، وقس بارز أسَّس أقدم جامعة في البلاد، والمصرفيون الذين اشتغلوا في المؤسسات المصرفية الكبرى، ومُلّاك لعقارات وأراضٍ ريفية شاسعة، بما في ذلك مدينة باركالدين العظيمة في ولاية كوينزلاند -التي شهدت تأسيس حزب العمال الأسترالي- وذلك بعد أن تحصَّلوا هم وعائلاتهم على الثورة الناتجة عن تعويضات العبيد.

ومن أجل التوصل إلى هذه الاكتشافات التي حملها كتاب جديد لأستاذ العلوم السياسية والمؤرخ كلينتون فرناندس من جامعة نيو ساوث ويلز بالعاصمة كانبيرا، اُستخدمت قاعدة بيانات للإرث المرتبط بملكية العبيد في بريطانيا بكلية لندن الجامعية، وهي مصدر بارز يهدف إلى التوثيق العلني لأسماء هؤلاء البريطانيين الذين عادت عليهم العبودية بالنفع المادي.

اقرأ/ي أيضًا: حدائق الحيوان "البشرية".. مشاهد من فاشية الغرب الباقية

وأثناء بحثه من أجل كتابه "جزر قبالة سواحل آسيا، أدوات إدارة السياسة الخارجية الأستراليّة" (Island off the Coast of Asia, Instruments of Statecraft in Australian Foreign Policy)،  سعى فرنانديس لإثبات رؤيته بأن المنطق الاقتصادي العقلاني كان سببًا مسؤولًا عن إلغاء العبودية بقدر الأسباب الأخرى مثل القيم الإنسانية.  وكتب فرنانديس، أنه "مع بداية القرن التاسع عشر، كانت مزارع قصب السكر في جزر الهند الغربيّة البريطانية شديدة الكثافة، لدرجة أنَّها تسببت بأزمة نتيجة لفرط الإنتاج. وقد كان انعدام الأرباح من المستعمرات القائمة على العبيد عاملًا رئيسيًا مؤديًا إلى قرار بريطانيا بإلغاء تجارة العبيد. رغم تأكيد الفهم الشائع في السنوات الأخيرة أنَّ الأسباب الإنسانية الخيرة، وليس الأسباب الاقتصادية، هي التي تقف وراء هذا الإلغاء. لكن الحقيقة هي أنَّ العوامل الاقتصادية كانت مؤثرة بشدة".

وفي حين كانت تخوم المستعمرات الأستراليّة تفتك بوحشية في السكان الأصليين (قُتل ما لا يقل عن 60 ألفًا منهم أثناء نزاعات مع "المستعمِرين"، والجنود، والشرطة)، نشأ الاقتصاد الأسترالي في البداية حرفيًا، "على كاهل الخراف"، فقد تأسس قطاع تصدير الحاصلات الزراعية على أراضٍ مسروقة من سُكان القارة الأصليين.

كتب فرناندس متحدثًا في هذا الشأن: "لم تكن هناك ثورة صناعية في تلك الفترة، لكن أستراليا شهدت ازدهارًا في مجال تصدير الحاصلات الزراعية الذي ساعد على خلق مجموعة من النُخب الريفية الغنية بمصادر الصوف. ظهرت طبقة رجال الأعمال العاملين في الصناعة بعد اكتشاف الذهب في خمسينات القرن التاسع عشر. ولكن في الـ 60 سنةً التي سبقت اكتشاف الذهب، كان يوجد مصدر للثروة غير معروف للكثيرين: ألا وهو العبودية".

تحقق إلغاء تورط بريطانيا في تجارة العبيد تدريجيًا، واستغرق ما يقرب من 3 عقود حتى يكتمل. اختلفت الإجراءات تبعًا للمنطقة الجغرافية. لم يحظر "القانون البريطاني لإلغاء تجارة العبيد (1807)" العبودية في الحقيقة، بل ألغى التجارة بالعبيد (التي تتضمن الشراء والبيع والنقل) بين إفريقيا والهند الغربيّة وأمريكا.

ومرَّر البرلمان في عام 1833 "قانون إلغاء العبودية في مستعمرات بريطانيا بالبحر الكاريبي وكندا ورأس الرجاء الصالح". وحتى بعد إصداره، استمرت العبودية في أراضي شركة الهند الشرقية بسريلانكا وجزيرة سانت هيلينا جنوب المحيط الأطلسي. دخل قانون عام 1833 حيِّز التنفيذ سنة 1834. وفي عام 1835، منح البرلمان البريطاني 20 مليون جنيه إسترليني (40% من إجمالي الدخل القومي البريطاني، وما يُعادل 300 مليار جنيه إسترليني بعملة اليوم) لمالكي العبيد السابقين تعويضًا عن خسارة مواردهم.

كتب فرناندس: "وفَّرت هذه الأموال نقطة البداية للعديد من الصناعات في أستراليا.. فقد استقرَّ مالكو العبيد -أولئك الذين صاروا الآن مالكين سابقين- في أستراليا مستفيدين من المبالغ التي اكتسبوها من امتلاك العبيد وتعويضات إلغاء العبودية".

قد تكون هذه الحقائق صدمة بالأخص لسكان جنوب أستراليا الذين كانوا يفاخرون منذ زمنٍ طويلٍ بأنَّ مستعمرتهم، وعاصمتها أديلايد، قد تأسست فعليًا بواسطة انتقالٍ منظمٍ وأنيق للتحضر الإنساني البريطاني، ما خلَّصها لحسن الحظ من التراث المُدان والمكروه للدول الاستعمارية.

وفي الواقع، بدأ فرناندس، وهو ضابط استخباراتٍ سابقٍ في الجيش الأستراليّ، أبحاثه حول الجزء المتعلق بالعبودية في كتابه بالتركيز على تأسيس ولاية جنوب أستراليا.

وقال: "أردت اختبار فرضيتي في الدور الذي لعبه تدخل الدولة -في الاقتصاد والحرب- في مراحل تحقق الازدهار بأستراليا. من المهم أن تحاول دحض فرضيتك، لا البحث عن معلومات لتأكيدها. لقد كانت المستعمرات الأستراليّة خالية من العبودية، لكنَّها كانت جزءًا من إمبراطورية لم تخلُ منها. لذلك ظننت أنَّ هناك شيئًا يُمكن اكتشافه. وبدأت بالبحث حول جنوب أستراليا لأنني أردت أن أثبت عدم انطباق فرضيتي على هذه الولاية، فهي تفخر بأنَّ بدايتها تمثلت في مجتمع بريطاني منظم قائمٍ على المستعمرات الحرة، لا جهود العمالة الذي أُدين لاحقًا".

في ولاية أستراليا الغربيّة، عمِل "السجناء" من السكّان الأصليّين حتى وقتٍ متأخّرٍ من القرن العشرين، في المباني العامّة والمشاريع الزراعيّة الخاصّة وهم مقيِّدون بعضُهم ببعضٍ مِن أعناقهم

وهكذا صادف أثناء بحثه جورج فيف أنغاس، المولود في إنكلترا (1789 - 1879)، وهو أحد الأركان الرئيسية في تأسيس جنوب أستراليا. ولأنَّه مالك مصرف استثماري، وصاحب أراضٍ، وبرلماني استعماري، وإنسان مُحسِن، فقد ساعد على تأسيس بنك الاتحاد الأسترالي (Union Bank of Australia) عام 1836، إضافةً إلى شركة جنوب أستراليا المصرفية (South Australian Banking Co). وقد كان ثريًا بما يكفي لشراء 4 آلاف فدَّان من الأراضي الخصبة على ضفاف نهري الراين وغاولر في منطقة وادي باروسا، ووفقًا لـ "قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ" (Australian Dictionary of Biography) (الذي يُعرِّف نفسه بأنَّه القاموس الأكبر للسيرة الذاتيّة لأستراليا)، كان جورج فيف أنغاس "مسيحيًا في المقام الأول، وعلى الرغم من مشاريعه التجارية المتنوعة، إلا أنَّه كان متحمِسًا طوال حياته لتكوين الجمعيات، والانضمام إلى اللجان الخيرية".

يقول قاموس السيرة الذاتيّة الأسترالي، إنه "انضم إلى الإصلاحيين المؤثرين في القتال من أجل تحرير العبيد، إضافةً إلى إعادة المبشرين والقساوسة المنشقين عن الكنيسة في هندوراس البريطانية إليها". أغفل القاموس ذكر أنَّه كان مالكًا للعبيد كذلك.

اقرأ/ي أيضًا: دماء "الهنود الحمر" من أجل غسل ذنوب إسرائيل

كتب فرناندس فيما يتعلق بهذا الشأن: "وفقًا لقاعدة بيانات كلية لندن الجامعية، تلقى جورج فيف أنغاس تعويضات عن أربع دعاوى في الهندوراس عام 1835. وشملت تلك الدعاوى أكثر من 6.942 جنيهًا إسترلينيًا مقابل 121 عبدًا".

أما إسحاق كوري (عاش من 1760 وحتى 1843)، وهو مصرفي في بنك Curries & Co وبنك إيست رايدنغ، فقد كان من الشخصيات الأخرى البارزة في جنوب أستراليا، كما "ارتبط اسمه بأربع دعاوى للتعويض في جامايكا، تخطت عائداتها أكثر من 15,379 جنيهًا إسترلينيًا مقابل 841 عبدًا"، وفقًا لفرناندس.

وفي 1835، تلقى التاجر الإنكليزي جون صامويل أوغست تعويضًا قدره 2362 جنيهًا إسترلينيًا مقابل 40 عبدًا هندوراسيًا. وقد مات عام 1839، تاركًا ثروته لزوجته وأبنائه الأربعة، ومن ضمنهم ابنته سارة. ووفقًا لقاعدة بيانات كلية لندن الجامعية، فقد "هاجر جميع المستفيدين من ميراث جون صامويل أوغست إلى مستعمرة أديليد في جنوب أستراليا، والتي كانت لا تزال جديدة التأسيس".

تزوجت سارة لاحقًا من ألفريد لانغورن، وهو قيِّم ومالك للأراضي، ومزارع ناجح اشترى مزرعة لافيرتون غربي ميلبورن، والتي تُعرف الآن بجمعية منزل ومزرعة ألتونا التاريخية (Altona Homestead). كان غودفري داونز كارتر (وُلد في 1830 وتوفي في 1902)، الذي حمل لقب عمدة مدينة ملبورن بدءًا من عام 1884 وحتى 1885، مستفيدًا من 472 جنيهًا إسترلينيًا تلقاها والده جون آدمز كارتر، الذي وصفه قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ بأنَّه "تاجر وصاحب مزرعة".

كتب فرناندس: "يقول قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ إنَّه وُلد في جامايكا ووصل إلى ولاية فكتوريا عام 1853. وما نعرفه من القاموس هو أنَّه عن طريق معيشته المقتصدة، نمت ثروته رويدًا رويدًا، وأصبح واحدًا من أكثر رجال الأعمال الجديرين بالاحترام والثقة في ملبورن. ولكن لم تُذكر كلمة واحدة عن خلفية امتلاك عائلته للعبيد".

أما جون بيليساريو، الذي يُعد أوَّل من استخدم التخدير في طب الأسنان، فقد كان "ابنًا لمالكَي عبيدٍ نشيطَين في جامايكا في ثلاثينات القرن التاسع عشر"، في حين كان جون بوهوت، وهو أوَّل من نجح في زراعة قصب السكر بأستراليا، "ابنًا لمالك عبيد في جزيرة باربادوس"، وفقًا لفرناندس.

ومرة أخرى يُنكر قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ الحقيقة، إذ يقول إنَّ بوهوت "وُلد في باربادوس" لأبٍ يعمل في "التجارة". يقول القاموس إنَّ تشارلز إدوارد برايت (Charles Edward Bright) (وهو مؤسس شركة Bright Brothers & Co للشحن بالسفن البخاريّة، ورئيس غرفة تجارة مدينة ملبورن، ورئيس لجنة ميناء ملبورن، والقيِّم على المكتبة العامّة والمتحف الفكتوريّ والمعرض الوطنيّ، ومدير بنك الاتحاد الأستراليّ، وقد وُلد عام 1829 وتوفّي في 1915) كان ابنًا لأحد "مُلّاك الأراضي البارزين"، غير أنَّ عائلته كانت مستفيدة من تعويضٍ بلغ 8384 جنيهًا إسترلينيًّا مقابل 404 عبدًا في أحد أراضيها بجزيرة باربادوس.

كما أنَّ أليكساندر كينيث ماكنزي (وُلد في 1769 وتوفي في 1838)، وهو أحد سكّان مدينة سيدني البارزين، والذي هاجَر من لندن إليها عام 1822، معروفٌ بتأسيسه "بنك باثورست" (Bathurst Bank)، وبأنَّه كان سكرتيرًا وأمينَ صندوق لدى "بنك نيو ساوث ويلز" (Bank of New South Wales). وقد كان أحد المشاركين المتحمّسين في الحملة التي أُنشِئت من أجل تخفيض التعريفة الاستعماريّة على الخشب، كما كان شخصيّةً مشهورةً في كلٍّ من مجتمع سباق الخيل والكنيسة الأسكتلنديّة.

لكن ماكينزي كان أيضًا -ولأكثر من عقدٍ من الزمن- تاجرًا للعبيد في سانت فينسنت. مرَّةً أخرى، يتجاهَل قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ هذه الحقيقة.

لقد خضَع الكثير من التاريخ الأستراليّ، مثلما خضعت القارّة نفسُها، للاستعمار والتطويع - فهو يحتوي تستُّرًا على الحقيقة الواضحة والبشِعة التي تُخبِرنا بالقصّة الصحيحة للغزو البريطانيّ، وطرد السكان الأصليين وسلْب أراضيهم، وعمليات القتل والحرب التي جرت على التخوم الاستعماريّة، والتوسع الرعويّ. لقد تناولتُ في كتاباتي لعدّة مراتٍ في السنواتِ الأخيرة الماضية كيفَ تغاضَت أجيالٌ من المؤرِّخين الأستراليِّين (أضف إلى هذه القائمة السياسيّين من جميع التوجُّهات، وكتّاب المسرحيّات والروائيّين) عَمدًا عن أفعال الحاكم الخامس لولاية نيو ساوث ويلز، لاشلان ماكواري (Lachlan Macquarie)، الذي حَظِيَ بسمعة معاملته الحسَنة لسكّان القارّة الأصليّين، وذلك على الرغم مِن أنَّه مسؤولٌ عن عمليات القتل الجماعيّ التي لَحِقت بهم، واستخدام أساليب "الترهيب" ضدهم، وسرقة أطفالهم.

لقد خضَع الكثير من التاريخ الأستراليّ، مثلما خضعت القارّة نفسُها، للاستعمار والتطويع، فهو يحتوي تستُّرًا على الحقيقة الواضحة والبشِعة التي تُخبِرنا بالقصّة الصحيحة للغزو البريطانيّ، وطرد السكان الأصليين وسلْب أراضيهم

ويُعدّ قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ أحدَ المُدافِعين البارِزين عن ماكواري وغيره، بإهمال جرائمِهم؛ بمَن فيهم جون باتمان، المُصاب بمرض الزُّهْرِي والقاتل السفاح لسكان تاسمانيا الأصليين، والمسؤول عن عمليات القتل التي لحقت بالشعوب الأصليّة في القارّة.

ويذكر قاموس السيرة الذاتيّة أنَّ زوجةَ ماكواري الأولى، جين جارفيس كانت "متلقّية لميراث من الهند الغربيّة"، لكنَّه لا يذكر ماهيَّةَ مِيراثِها، والذي كان عبارة عن مزارع للعبيد في جزيرة أنتيغوا.

ويكشف فرناندس أنَّ القسَّ روبرت ألوود (Robert Allwood)، أحدَ مؤسّسي جامعة سيدني ونائبَ عميدها السابق، الذي وُلِد في كنغستون بجامايكا، هو ابنٌ لمالِك عبيد يُدعَى روبرت ألوود أيضًا. ووِفقًا لقاعدة بيانات تعويضات العبوديّة، قدَّمَ القسّ "دعوى تعويض بأكثر من 10 آلاف جنيهٍ إسترلينيٍّ مقابلَ 202 عبدًا كانوا قيد الرهن في غيانا البريطانية عام 1836". هاجَرَ ألوود إلى سيدني في 1839، ومِن ثَمَّ انتُخِب زميلًا في كلية سان بول لدى تأسيسها. لا يزال ألوود شخصيةً تحظَى بالاحترام في دوائر الكنيسة والتعليم الأستراليَّين، ولا تزال صِلتُه بالعبوديّة تتعرّض للتجاهل.

كان أرشيبالد باول بيرت (وُلد في 1810 وتوفي في 1879)، شخصيةً ذاتَ شأنٍ في أستراليا الغربيّة حيث عَمِل رئيسًا للمحكمة العليا. يقول قاموس السيرة الذاتيّة إنَّ والده كان "صاحب مزرعة" في الهند الغربيّة. لكنَّ والده، جورج هنري بيرت كان في الواقع -إلى جانب كونه متحدثًا باسم مجلس النواب في سانت كيتس- مالكًا للعبيد أيضًا. يوضح فرناندس أنَّ أرشيبالد باول بيرت، القاطن في ولاية أستراليا الغربيّة، قد تلقى تعويضاتٍ عن ثلاثة مزارع للعبيد.

تُعرف بلدة باركالدين في ولاية كوينزلاند بأنَّها البلدة التي تأسَّس فيها حزب العمّال الأستراليّ، وبأنَّها المكان العظيم الذي التقى فيه العُمّال المضربون تحت "شجرة المعرفة".

في عام 1863، أنشأ البريطانيّ دونالد تشارلز كاميرون، المولود في غيانا (1814-1872) والذي نال لاحقًا لقب "السيد" (Sir)، مزرعة "باركالدين دوانز"، التي استقَت منها المدينةُ اسمَها. في عام 1835، تلقّى عمُّه، المعروف أيضًا باسم دونالد تشارلز كاميرون، ووالدُه جون كاميرون، تعويضاتٍ قَدرُها 46 ألف جنيهٍ إسترلينيٍّ مقابلَ خمسِ مزارع في غيانا البريطانيّة. وقد كان الابنُ وابنُ الأخ، دونالد تشارلز كاميرون، مستفيدًا مباشرًا من أموال التعويضات هذه. يقول فرناندس إنَّ الابنَ وابنَ الأخ، دونالد تشارلز، مَدِينٌ بثروتِه الضخمة (وقدرتِه على شراء مساحاتٍ شاسعة من الأراضي والعقارات في ولايتي فكتوريا وكوينزلاند) لِعقودٍ من أرباحِ العبيد التي اكتسبَها حين كان يَسكُن في غيانا البريطانيّة، إضافةً إلى مبلغ التعويض الكبير الذي تلقّاه كلٌّ من والدِه وعمِّه بعد إلغاء العبوديّة.

لا تزال أستراليا، وبالأخصّ ولاية كوينزلاند، تحاول التصالُحَ مع تاريخِها الخاص مما يُسمى بـ"بلاك بيردينغ" blackbirding - المصطلح الذي يعني سرقة السكان الأصليين من جزر سليمان وجزيرة فانواتو من أجل تشغيلهم فيما يُسمّى بـ"العمل بعقود طويلة الأجل" في مزارع قصب السكر. لم تُخصَّص تعويضاتٌ لضحايا ما تسمِّيه عائلاتُ أولئك الذين سُرِقوا وأُجبِروا على العمل في أستراليا باسمه الصحيح: "عبودية السكر".

اقرأ/ي أيضًا: "ديمقراطية الكربون" لتيموثي ميتشل.. لعنة النفط الشاملة

وفي ولاية أستراليا الغربيّة، عمِل "السجناء" من السكّان الأصليّين حتى وقتٍ متأخّرٍ من القرن العشرين -الكثيرون منهم لم يَرتكِبوا أو يُدانوا بأيّ جريمة- في المباني العامّة والمشاريع الزراعيّة الخاصّة وهم مقيِّدون بعضُهم ببعضٍ مِن أعناقهم. وقد سمَّى واحدٌ من أبرز الناشِطين في مجال الدفاع عن حقوق السكّان الأصليّين هذا الفعلَ باسمه الصحيح: "عبوديّة وحشيّة في أوجِ نشاطِها". أمّا أطفال السكّان الأصليّين فقد سُرِقوا وأُجبِروا على العمل في الخدمة المنزليّة والزراعة والرعي دون مقابل في جميع المستعمرات.

يجب على أولئك الذين يكتبون تاريخنا أن يُضمِّنوا في سجّلاتنا التاريخيّة الحقيقةَ القائلة بأنَّ الاقتصاد في مرحلة تأسيس أستراليا الاستعماريّة ملطَّخٌ بأرباح العبوديّة البريطانيّة. سوف تتوالى المزيد من الأبحاث، وربما سوف تكشف عن أسماء المزيد من العائلات الأوروبيّة الرائدة/المؤسسة التي انسحبَت من تجارة العبيد قبل صدور أحكام التعويض البريطانيّة عام 1835.

لكنَّ فرناندس يقول إنَّه يرفض التصديق الساذج بأنَّ قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ -الذي تُعدِّه جامعة أستراليا الوطنيّة في كانبرا- كان يجهل الروابط التي تجمع بين العبوديّة وأولئك الأشخاص الذين تُستخدَم قصصُ حياتِهم في مخطَّطٍ أعدَّه المتحكمون بالسلطة.

يقول فرناندس: "يصف عميد جامعة أستراليا الوطنية غاريث إيفانز، قاموسَ السيرة الذاتيّة الأستراليّ بالسجل الذي لا غِنى عنه، والذي يوثِّق مَن نحن، ومَن الشخصيّات التي جعلَتنا ما نحنُ عليه. أنا أتّفِق على أنَّه مشروع ممتاز، وكَنزٌ وطني في الواقع. لكنَّ التجاهل المنهجيّ لموضوع العبوديّة يَجب أن يَلقَى توضيحًا. إذ تعتمد القوميّة في الغالب على أن تعرِض لك تاريخًا مُزيَّفًا".

كما تنهال العديد من الشخصيات الأستراليّة البارزة الأخرى -من بينهم السياسيّ باري جونز، والمؤرِّخ جيوفري بولتون، ورئيس وزراء أستراليا الأسبق مالكولم تورنبول- بالثناء على أهمّية ومميّزات قاموس السيرة الذاتيّة الأستراليّ، وذلك على الموقع الإلكترونيّ للقاموس.

إنَّه لمن المُذهِل أنَّ الحكومة البريطانية لم تستطع إلّا في عام 2015 الوفاءَ بالقرضِ الموحَّد الذي يقدَّر بـ 20 ميلون جنيهًا إسترلينيًا (300 مليار بعملة اليوم) بنسبة فائدة بلغت 4%، والذي حصلَت عليه لتعويض مالِكي العبيد منذ عام 1835.

قال فرناندس متحدِّثًا بهذا الشأن: "سدَّد دافعو الضرائب جميعُهم تعويضاتِ إلغاءِ العبوديّة، لكن لم يستفِد من الـ 20 مليون جنيهٍ إسترلينيٍّ سوى مالكو العبيد الأثرياء. وبالنسبة لي، يُوضِّح هذا بإيجاز كيف توزَّع التكاليف والمخاطر على المجتمع بأكملِه، في حين تُخَصخَص الأرباح. هذه هي الفكرة الرئيسيّة التي تسري في ثنايا الكتاب، وكذلك في تاريخ السياسة الخارجيّة الأستراليّة في الواقع".

يتابع فرناندس: "تظهر دراسة الكتاب لحوالي 230 عامًا من العلاقات الخارجيّة الأستراليّة أنَّ المصالح الوطنية هي مصطلح يرمُز لأهداف أولئك المُسيطِرين على القطاع الخاصّ. يعاني عامّة الشعب ويتحمّلون التكاليفَ والمَخاطِر، في حين تستفيد على نحوٍ غير متكافِئ فئةٌ صغيرةٌ متحكِّمة. عادةً ما تُرفَض هذه الفكرة باعتبارها نقدًا راديكاليًّا، لكنَّه نقدٌ يوجِّهه آدم سميث نفسُه، الذي قال إنَّ المهندسين الأساسيّين للسياسة موجودون في القطاع الخاص، وأنَّ مصالحَهم بالغةُ الأهميّة، في حين تُقدَّم مصالحُ الآخَرين قرابينَ لهم".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الإمبريالية وسوق العالم.. الوحش الذي "يداعبنا"

مستقبل الديمقراطية والرأسمالية.. بربرية التضليل