23-أكتوبر-2015

تنفق إسرائيل الكثير على الدراسات (Getty)

لم يكن خبر اعتذار الموقع الإلكتروني لقناة الجزيرة الإنجليزية لإسرائيل قبل أكثر من أسبوع مفاجئـًا بالنسبة لبعض المراقبين، خاصة مع الحملة الشرسة التي شنها الإسرائيليون ومؤيدوهم لإجبار القناة على تعديل تغريدة نشرها موقعها عبر حسابه على تويتر، بل والاعتذار أيضًا. وجاء في نص تغريدة الجزيرة، التي تضمنت رابطًا لخبر عملية طعن: "مقتل فلسطيني بعد تنفيذه عملية طعن في القدس، ضحيتان إسرائيليتان قتلتا أيضًا".

لقد أثار النص السابق غضب مؤيدي إسرائيل، وسرعان ما نظموا حملتهم الإلكترونية مطالبين الجزيرة الإنجليزية بتعديل نص التغريدة، معتبرين أن عنوان الخبر يهمش الضحايا الإسرائيليين ويقلل من شأنهم. القضية نفسها أثيرت ضد الموقع الإلكتروني لـهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في نفس اليوم، والتي عنونت خبرها بالتالي: "مقتل فلسطيني بعد هجوم في القدس أودى بحياة شخصين".

لقد كان رد موقع الجزيرة الإنجليزية سريعًا متداركًا "هفوته التحريرية"، فتم تعديل العنوان، وتقدم الموقع الإلكتروني باعتذار لجمهوره جاء في نصه: "لقد كان نقدكم صحيحـًـا وشرعيًا، نحن نأسف لصياغة التغريدة التي نشرت تحت الضغط الكبير من الأخبار العاجلة". لكن الـBBC)) بدت أكثر ثقة بصياغة عنوانها ومهنيته، رافضة إجراء أي تعديلات تذكر، لتتواصل الحملات الإلكترونية الإسرائيلية المنددة، ويستمر توقيع العرائض ضد (BBC) على مواقع مختلفة.

في حقيقة الأمر، لم تكن تلك الحملات الإسرائيلية الإلكترونية المذكورة عشوائية، ولم تأت محض صدفة، فما الحادثتان المذكورتان أعلاه إلا مثال بسيط يجسد الجهود الإسرائيلية الرقابية على وسائل الإعلام العربية والعالمية.

رقابة بلا حدود

لا يتم الحديث هنا عن رقابة إسرائيلية حكومية، ولا عن عمل استخباري تنفذه إحدى أجهزة أمن الدولة، بل عن مؤسسات لا حكومية (NGOs) ومعاهد أبحاث ودراسات، لعل أشهرها (PAL MEDIA WATCH) المتخصص بمراقبة الإعلام الفلسطيني، إضافة لـ (Honest Reporting) والمختص أكثر برصد الإعلام العالمي، والذي قاد الحملتين الأخيرتين ضد الجزيرة الإنجليزية و(BBC).

أينما ترد كلمة "إسرائيل" تجد هؤلاء، وهناك تبدأ مهمتهم. إذ يتم تحليل مضامين الأخبار الإلكترونية والتقارير المتلفزة ورسوم الكاريكاتير، بحثـًا عن "التشويه ونزع الشرعية عن إسرائيل في المضامين الصحفية" على حد تعبيرهم، بالإضافة إلى "المضامين المعادية للسامية"، لتصاغ على شكل تقرير إلكتروني مكتوب، مدعمًا بـ"الأدلة والبراهين"، لتبدأ بعدها مرحلة توقيع العرائض الإلكترونية والضغط على وسيلة الإعلام المستهدفة عبر إرسال آلاف الرسائل لرئيس تحريرها، والتشهير بها، للضغط تجاه تنفيذ التعديل المطلوب.

لم تسّلم كبرى الصحف والوكالات والفضائيات العالمية من حملات مؤسسة (Honest Reporting) الإسرائيلية، منطقية كانت اعتراضاتها أم غير منطقية، ابتداءً من الغارديان البريطانية ونيويورك تايمز الأمريكية، وصولًا إلى وكالة الأنباء الشهيرة رويترز، وفضائية (CNN) الأمريكية، وغيرهم الكثير. ولطالما تمكنت المؤسسة الرقابية من إجبار وسائل إعلام على إجراء تعديلات في العناوين والمضامين الصحفية، بعد حملات ضاغطة حُشد لها عشرات الآلاف من المحتجين. فاستراتيجية المؤسسة كما تصفها "هي تثقيف الرأي العام بالأخبار المنحازة ضد إسرائيل، وتقوية القاعدة الجماهيرية الضاغطة للرد بشكل فعال".

ويمتد عمل المؤسسة لضرب جهود حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها المعروفة اختصارًا بحركة (BDS)، والتي باتت قوة ضاربة ذات تأثير دولي كبير تؤرّق الإسرائيليين، إلا أن نجاحها في هذا المجال لا يزال محدودًا.

توصف المؤسسة بأنها "جماعة ضغط مناصرة لإسرائيل"، وقد توسعت لتطلق فروعًا لها في كل من بريطانيا (Honest Reporting UK) وكندا (Honest Reporting Canada)، إذ يرأسها في الخارج شخصيات إسرائيلية، أو يهودية مقربة من إسرائيل.

رصد الإعلام الفلسطيني

لنعترف هنا وبشكل عام أن الإعلام في فلسطين هو "إعلام وطني" إن صحت التسمية، فمعظم وسائل الإعلام الفلسطينية تعتبر نفسها جنديًا مقاتلًا في ساحة المعركة، هدفها "فضح جرائم الاحتلال ومحاربته بالكلمة والصورة"، وهو ما قد يبعدها عن المهنية والتوازن أحيانًا في تغطيتها الصحفية، رغم عدالة قضيتها. طبعًا ناهيك عن قلة الإمكانات، وعدم الجدية والإنفاق على هكذا مشاريع.

ولهذا كانت بيئة الإعلام الفلسطيني بيئة خصبة لمعهد الدراسات والأبحاث الإسرائيلي المدعو (PAL MEDIA WATCH)، والذي تخصص فقط بمراقبة وسائل الإعلام الفلسطينية، المرئية والمسموعة منها، إضافة إلى المكتوبة.

اقرأ/ي أيضًأ: فصائل البريد الإلكتروني

تصف (بال ووتش) هدفها بـ "دراسة المجتمع الفلسطيني على نطاق واسع من خلال رصد وسائل الإعلام الفلسطينية والكتب المدرسية"، وتركز على تحليل مضامين خطابات قادة الحركات الفلسطينية كفتح وحماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرها.

وتسهم التقارير اليومية التي تعدها (بال ووتش) في دعم "البروباغاندا" الإسرائيلية، إذ تسعى جاهدة لنشرها على نطاق واسع عالميًا، مستغلة هفوات مهنية في الإعلام الفلسطيني في بعض الأحيان، وترتكز في أحيان أخرى على تحليلها وفهمها الذاتي لحقائق ومعلومات معينة، وتفنيدها من وجهة نظر صهيونية. وفي واقع الأمر، للتقارير الصادرة عن (بال ووتش) أثر بالغ، إذ عَرضت نتائج دراساتها عدة مرات أمام أعضاء في الكونجرس الأمريكي، وتمكنت المؤسسة من عرض دراساتها أيضًا أمام أعضاء برلمانات أوروبية عديدة، كبريطانيا وفرنسا وسويسرا والنرويج وهولندا وغيرها.

وتباهت المؤسسة أخيرًا بتمكنها من دفع الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لانتقاد "تحريض الرئيس الفلسطيني محمود عباس ضد اليهود" على حد تعبيرها، بعد أن رصدت خطابًا إعلاميًا للرئيس عباس جاء في نصه: "الأقصى لنا، وليس لهم حق بتدنيسه... سنفعل ما بوسعنا لحمايته... رحم الله شهداءنا".

تعمل المؤسسات الفلسطينية أيديولوجيًا لا مهنيًا ما يسهّل اصطيادها

تتابع المؤسسة كل ما يصدر عن الإعلام الفلسطيني باستمرارية مدهشة، حتى أن لعبة الكلمات المتقاطعة المنشورة على الصحف الفلسطينية لم تسلم من تقاريرها، فعلى سبيل المثال، سلط أحد التقارير الضوء على مفتاح حل لغز الكلمات المتقاطعة المنشور على أحد أعداد صحيفة الحياة الجديدة الفلسطينية، وقد جاء في نصه "مدينة ساحلية فلسطينية من أربعة حروف، تقع شمالي فلسطين المحتلة"، والكلمة بأحرفها الأربعة عموديًا كانت "حيفا". وروج التقرير لمحاولة الصحيفة الفلسطينية "إنكار وجود دولة إسرائيل وعرض المدن الإسرائيلية وكأنها فلسطينية محتلة خلافًا للاعتراف الدولي بشرعية دولة إسرائيل" على حد وصف التقرير.

ويتابع معهد الأبحاث باستمرار ما يصفه "بالتحريض على العنف عبر الفضائيات الفلسطينية"، والتباهي والافتخار "بالإرهابيين المخربين" كما يسميهم، ويركز على صور أطفال فلسطينيين يحملون السلاح، ويرصد حتى التصاميم الجرافيكية، كخارطة فلسطين الانتدابية الكاملة من النهر إلى البحر، والتي تعرض باستمرار على معظم الفضائيات الفلسطينية. ويحاول تصوير بعض المضامين على أنها انعكاس لـ "حقد ديني" و"كراهية لليهود" و"اللاسامية" وغيرها، متجاهلًا حقيقة مسبب العداء والكراهية الأول، ألا وهو الاستعمار.

هل من دروس مستفادة؟

بما أن "بال ووتش" وأشباهها يركزون في الغالب على الأخطاء المهنية لوسائل الإعلام الفلسطينية، فإنه لا بأس من معرفة الثغرات التي يستغلونها لمحاولة سدها. فليراجع "الإعلام الوطني" أسلوب عمله ومصطلحاته، وليدرك موقعه من "الإعلام المهني"، خاصة إذا ما أراد مخاطبة جمهور أجنبي غير عربي. فهل من الصواب إعلاميًا أن يوصف المستوطنون الإسرائيليون بـ "القطعان"؟ والإسرائيليون/اليهود بـ "أحفاد القردة والخنازير"؟ واقتحامات المسجد الأقصى بـ "التدنيس أوالتنجيس"؟ القضية الفلسطينية عادلة، وعلى الإعلام أن يكتفي بنقلها بأسلوب مهني متوازن، دون حاجة إلى "التبهير والتشذيب"، هذا إذا ما أراد الخروج من دائرة "مخاطبة النفس"، والتفكير بعقلية الجمهور المتلقي، باختلاف إطاراته المرجعية. لنتذكر أن الحديث هنا لا يدور عن ما نحمله من أفكار ومعتقدات شخصية يؤمن بها كل منّا، بل عن "اللغة واللهجة" الإعلامية كصحفيين، وبين ذلك وتلك فرق شاسع.

اقرأ/ي أيضًأ:  أقوى العلاقات التجارية العربية مع إسرائيل

لا بد من التطرق هنا أيضًا إلى ضرورة تقوية الإعلام العربي المهني الناطق بالإنجليزية، فمن الملحوظ مثلًا أن موقع صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية باللغة الإنجليزية بات مقصدًا لغير الناطقين بالعربية لمعرفة أخبار فلسطين والشرق الأوسط. نعم، إنها "هآرتس"، وهنا يجب التساؤل، لماذا لا تكون صحيفة عربية؟

هل نمتلك أجهزة رقابة ورصد للإعلام كتلك الإسرائيلية؟ حكومية كانت أم لا حكومية؟ هل من مُعترض على بعض المضامين الصحفية "المجحفة" بحقنا كعرب؟ نــُوصف دومًا بالـ "الإرهابيين"، وتوصف القضية الفلسطينية بـ "نزاع فلسطيني-إسرائيلي"، دون التطرق إلى سياقها الاستعماري الكولونيالي الاحتلالي، تمامًا كما تجرد بعض قضايانا العربية من ظروفها وسياقاتها الصحيحة. هناك تجارب صغيرة تستحق التقدير في منطقتنا، كبعض مراكز الدراسات المختصة بالشؤون الإسرائيلية المتواضعة، وإعلاميين اختصوا بمتابعة الإعلام الإسرائيلي، لكنها لم تواز قوة "جماعات الضغط الإعلامي" الإسرائيلية تلك بعد. 

اقرأ/ي أيضًأ: فلسطين.. نسوية وتمويل