26-يونيو-2022
غرافيتي لـ بانسكي

غرافيتي لـ بانسكي

لا تنمو الرغبات في أجسامنا، والأرجح أنها تنمو في ذاكراتنا وخيالاتنا. تبدو الرغبات في حقيقتها كما لو أنها ارتجال لغوي يبدأ بوصف أقرب ما يكون إلى المتع المتأتية عما نقترفه يوميًا، وسرعان ما يتحول، في تصعيد لغوي وحسي، إلى مشاعر حارة تبدو في كل تجلياتها حاملة لمعان ومشاعر أكبر من حقيقة المتع وما تحققه من إشباع.

تاريخنا كبشر هو تاريخ ما وعدنا به، هذا ينطبق على الأديان السماوية ووعودها، وينطبق على شؤون فانية مثل الحب والزواج وإنجاب الأطفال، والتمتع بأطايب الطعام والشراب

الرغبات بهذا المعنى تبدو شأنًا ثقافيًا. أجسامنا لا تفرق بين سرير وآخر إذا استبد بنا النوم، وبطوننا لا تفرق بين طعام وآخر إذا تم إشباعها بعد جوع. وواقع أننا ننمّي الرغبات على نحو لا يتوقف منذ بدايات التواصل بين البشر، فإن الطريق لتحقيق المتعة يصبح هو المرجو والمرغوب وما نحسب أنه متع خالصة. تاريخنا كبشر هو تاريخ ما وعدنا به، هذا ينطبق على الأديان السماوية ووعودها، وينطبق على شؤون فانية مثل الحب والزواج وإنجاب الأطفال، والتمتع بأطايب الطعام والشراب. رائحة الشواء في حديقة مطعم تعدنا بتحقيق متعة لا تضاهى. لقد دربنا ذاكراتنا على استحضار كل ما يحيط بالتحضيرات التي تسبق الإشباع، الشموع في المطعم الفخم، الراقصة التي تتمايل على أنغام الموسيقى، رائحة الطعام على الطاولة المجاورة، الشاب الذي يأكل طعامه بشهية جائع مزمن. كل هذه التحضيرات تحرضنا على تقليد الآخرين، كل الآخرين، في تطلب المتع قبل تحقق الشبع.

مع ذلك فإن اللذة وتحقق المتعة مضمونان تقريبًا. يحدث مع العمر والتجارب والخيبات، أن يصبح نومنا قلقًا، لكن تحقق الغفلة هو لذة أكيدة. ومع العمر والتجارب والخيبات يحدث أيضًا أن يصاب جهازنا الهضمي بالإعياء، فيصبح تناول الطعام شأنًا منهكًا، لأن ذاكراتنا تستطيع دائمًا توقع ما يعقبه من تعب وألم. إنما وفي والزمن الممتد من أعمارنا نحقق متعنا ونحتفي بلذائذنا على نحو دائم. ذلك أن تعريف الكائن البشري، وربما كل كائن آخر، يمكن تلخيصه بالقول: هو كائن جائع. ولأنه جائع أبدًا فهو يبحث عن إشباع جوعه، وفي حالة البشري، ينفصل الجوع والإشباع عن كونهما تلبية لحاجة وتوخيًا لشبع، ويتحولان إلى صناعة معنى لأعمارنا. نحن كائنات جائعة، ونبحث دائمًا عن إشباع أجسامنا حتى حين لا تعلن عن حاجتها وتطالب بإشباعها. لقد نجحنا، بواسطة اللغة وإدراك الزمن وتصفح الماضي والتاريخ، أن نصنع مواقيت للذة وذاكرة. فحين تحين ساعة العشاء، نتذكر عشاءاتنا السابقة، وننتظر أن نحقق متعة تشبه المتعة التي سبق لنا وحققناها حين كنا جائعين، وكان الطعام رائعًا، وكان الجو المحيط بطاولة الطعام باعثًا على السرور. هذا ما نختبره كل يوم حتى ونحن نتناول طعامنا الفقير على مقعد في حديقة عامة.  

لكن الجسم، وهو صانع المتع ومتلقيها، يجهد في اجتماعنا البشري في طرد المتع من خلال الإفراط في صناعة الرغبات. فنحن نطرد عن أجسامنا روائحها وطعمها، ونتبلها بروائح وطعوم محايدة ولطيفة، توخيا لإعادة استنبات روائحنا ومذاقاتنا ما أن نتصل بموضوع المتعة والمساعد على محققها، أكان، في حالة الجنس، جسمًا آخر، أو كان، في حالة الأكل، المواد المؤسسة للأطباق، فنضيف إليها توابل نعتقد أنها تلغيها أو تجعلها محايدة. وفي الأثناء نتمتع بعطر الورود على جلد الحبيب من قبل إطلاق العنان لجسمه وفك أسره، ونتذوق طعم الملح والتوابل في قطعة اللحم التي نتناولها، قبل أن تذوب في أفواهنا ولا يبقى لنا غير التمتع بنسيج اللحم الذي يقاوم أسناننا.