17-ديسمبر-2020

أعداد من المجلة المصرية "اللطائف المصورة" (فيسبوك)

يقال إن الفنون جميعها تطمح إلى أن تكون موسيقى، فهنا، في لغة العالم، يختفي ذلك الفصل الأزلي بين الشكل والمضمون.

وماذا عن الصحافة.. ما هو طموحها؟ ربما تطمح إلى أن تكون أدبًا، أو تأريخًا، أو علم اجتماع. طموحات ثلاثة مشروعة، ولقد استطاعت كتابات صحفية كثيرة أن تحققها، أو على الأقل، أن تقترب من تحقيقها. فكروا في ذلك التحقيق الصحفي الطويل الذي كتبه جورج أورويل عن الحرب الأهلية الإسبانية "الحنين إلى كاتالونيا"، وفي تحقيقات ميشال فوكو الصحفية التي نشرها في جريدة "كوريرا دي لا سيرا"، وفي ريبورتاج ماركيز عن الناجي الوحيد من حادثة غرق مشؤومة "حكاية غريق". فكروا على الأخص في كتابات أحمد بهاء الدين وصلاح عيسى..

تبدو الصحافة اليوم وقد تخلت عن طموحاتها، إذ راحت الصحف الجادة تلهث وراء رواد الفيسبوك وتويتر

غير أن هذا صار حديثًا من الماضي، فالصحافة اليوم تبدو وقد تخلت عن طموحاتها هذه، إذ راحت الصحف الجادة تلهث وراء رواد الفيسبوك وتويتر. وبذريعة التحديث ومواكبة الزمن والتماشي مع سنّة التغيير، باتت تتشبه بالميديا المراهقة وتستخدم أدواتها: عناوين ملعلعة لا صلة لها بمضمون المادة المقدمة، وكبسولات صحفية لا طعم لها ولا رائحة، ومقالات تقدم التفاهة والفراغ عن سبق إصرار وتعمد.

اقرأ/ي أيضًا: طارق علي: عزل الأدب عن السياسة ضرب من الوهم

صحيفة عربية كبيرة تضع في صدارة موقعها الإلكتروني هذا الفيديو: امرأة تخرج من منزلها وتصوب حذاءها نحو ابنها الراكض أمامها، وتتمكن من إصابته رغم ابتعاده عشرات الأمتار! صحيفة أخرى وضعت هذا المانشيت: ما سر الإطلالة الحزينة للمطرب "سين". وصحيفة ثالثة تصدرها هذا العنوان المزلزل: حقيقة طلاق النجم "عين" من زوجته!

ولا تفطن هذه الصحف إلى حقيقة بدهية: إن كثيرًا من روّاد السوشيال ميديا لم يكونوا يومًا من قرائها، وبالتالي فليست هي من خسرهم، بل الصحافة الصفراء والمجلات الفنية الهابطة، ومنشورات الصور العارية..

وهكذا فقد صارت الصحافة أشبه بالعجوز المتصابية التي تخسر وقارها دون أن تربح أي عاشق.

في كتاب بعنوان "الصحافة حرفة ورسالة"، يكتب المفكر والصحفي المصري سلامة موسى (1887 ـ 1958) قائلًا: "يقرأ أفراد الجمهور الصحف كي يستنيروا بالأخبار ويسترشدوا بالمقالات.. فالصحيفة إرشاد وتربية وإمتاع، ولكن إذا كانت الصحيفة تعمد إلى التضليل بدلًا من الإرشاد، فإن حقها في البقاء يسقط". وأكبر أوجه التضليل، في رأي موسى، هو تملق الجمهور "وهنا الضرر العظيم، وبكلمة أخرى نقول إن هذا الصحفي بدلًا من أن يربي الجماهير ويرتفع بهم ويصلح نفوسهم ويرشدهم، بدلًا من هذا يعمد إلى تملقهم".

لندع جانبًا كلمة "تربية" التي صارت اليوم تثير حساسيتنا، ولنا أن نستعيض عنها بأي مفردة معاصرة نشاء، ومع ذلك فجوهر الرأي لن يتغير: يعتقد موسى أن تملق الجمهور هو الرذيلة الكبرى لصحافة عصره، دون أن يخطر في باله، ربما، أن هذه الرذيلة سوف تسود وتتعمق بعد نحو ستين عامًا من كتابته تلك الكلمات.

ولا بأس في أن نقلّب مزيدًا من صفحات هذا الكتاب، لنعرف أي مسار سلكته "صاحبة الجلالة" منذ ذلك الوقت. في فصل بعنوان "كيف نرفع الصحافة إلى مقام الأدب"، يحكي موسى هذه الواقعة: كتب ناقد ذات مرة أن صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور"، كبرى الصحف الأمريكية وقتئذ، قد انحط شأنها لأنها لم تعد تبالي بالآداب والعلوم، وأنها "كانت تعنى قبلًا بتثقيف قرائها أكثر مما تعنى الآن". لم ترد الصحيفة على النقد مباشرة، بل عمدت إلى جمع كل المقالات العلمية والأدبية المنشورة في عدد اليوم الذي نشر فيه هذا النقد، وكانت الحصيلة كتابًا من مئة صفحة "فكان كتابًا رائعًا لا يزال يباع إلى الآن". هذا هو المعيار الذي يضعه رائد الاشتراكية المصرية للصحيفة كي تغدو صحيفة بحق، أما الصحفي الذي يريد أن يكون صحفيًا بحق فهو "الذي يكون قد وصل إلى الصحافة بعد أن انصهر في بوتقة الآداب والعلوم والفنون".

هكذا فقد صارت الصحافة أشبه بالعجوز المتصابية التي تخسر وقارها دون أن تربح أي عاشق

من الواضح طبعًا أن حلم موسى بالصحافة الرفيعة قد لقي المصير نفسه الذي لقيه حلمه بالاشتراكية!

اقرأ/ي أيضًا: 2020 سنة "غير سعيدة" على الصحافة الورقية

نكثر من التباكي؟ هذا صحيح، ولكننا في زمن انتقالي صعب حيث القديم يحتضر والجديد لا يزال بلا ملامح، وفي أزمنة كهذه يسود الخوف والإحساس بالضياع، ويشتعل الحنين، ويكثر الرثاء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرجل الذي شوّه الصحافة

الصحافة.. جريمة!