22-يونيو-2022
حفلة راب

حفلة راب

كانت الحشود تتدافع للدخول إلى قاعة السينما لاستماع إلى أم كلثوم وهي تغني. الحشود هذه كانت تظل حشودًا إلى أن تبدأ أم كلثوم بالغناء. في هذه اللحظة تتحول إلى مستمعين، يشبهون في انتباههم طلابًا في قاعة تدريس، أو مشاهدين في قاعة سينما مظلمة، أو حتى مصلين في كنيسة أو جامع. أم كلثوم من جهتها كانت تغني لتصل إليهم، تتواصل معهم، وتنشد منهم إخراج الكلمة المغناة التي استوطنت آذانهم إلى أهات في حناجرهم. العلاقة بين الطرفين عضوية ومتبادلة، لا غناء بدون مستمعين، ولا طربًا من دون آهات تتوالى.

أم كلثوم كانت تغني لتصل إليهم، تتواصل معهم، وتنشد منهم إخراج الكلمة المغناة التي استوطنت آذانهم إلى أهات في حناجرهم

 

في تلك العقود كان يحدث أيضًا أن يغني وديع الصافي ويشجينا بصوته، يطلق الآهات ويفرّد في الأبيات قبل أن تغلبه الخفة، فيغني أغاني ذات إيقاع سريع. وما أن تلامس هذه الخفة أجساد الجمهور الخاشع، حتى تأخذه بكليته ويبدأ بالرقص، في لحظة الرقص أو الدبكة يتحول الجمهور من مستمع للصوت الشجي إلى مستمع لوقع أقدام الراقصين على الأرض. أيضًا في هذه اللحظة تكون العلاقة بين المغني والمستمعين متساوية الأركان، لا رقص بدون صوت وديع الصافي مغنيًا، ولا غناء من دون استماع وديع الصافي إلى وقع أقدام الراقصين. وأيضًا وأكثر من ذلك، لا يتكامل صوت وديع الصافي المحمول على خفة اللحظة من دون وقع أقدام الراقصين الذين يسمعون وقع أقدامهم وصوته في لحظة واحدة.

هذه العلاقة بين الفنان المغني ومستمعيه، كانت على الدوام علاقة تشبه الغرام. نستمع إلى أم كلثوم، ونعجب باللحظة التي توصلنا فيها إلى نشوة الطرب، لكننا ما أن تغيب، حتى نسكنها في ذاكرتنا ونبدأ باستحضارها، لنسمعها في رؤوسنا ونحن ندندن أغنيتها وحدنا أو مع آخرين. هذا ضرب متقدم من الغرام، الذي يجعل كل لحظة من لحظات اللقاء قابلة لأن تصبح ملك السامع الذي يخزنها في ذاكرته بوصفها جزءًا من تجربته الحياتية التي تصنع منه ما هو عليه.

لكن مثل هذه العلاقة تبدو شبه معكوسة مع فنون الراب المنتشرة اليوم. المغني يريد أن يحدث ضجيجًا، لا يريد أصلًا أن يستوعب المستمع إليه الخطاب الذي يلقيه، وهو في لحظة الأداء يريد أن يثبت أنه الأعلى ضجيجًا باعتبار أن المستمعين هم صناع ضجيج أيضًا. هذا فن تصح ولادته ويترعرع في المدن المكتظة عمومًا، تلك التي يندر أن نستمع فيها في مقهى إلى محادثة كاملة بين الذين يتحادثون قرب طاولتنا. والتي يندر في أرجائها أن يُسمح لنا بالنظر في وجه عابر وحفظ تفاصيله في ذاكرتنا. والتي تتحاور فيها أجسامنا العابرة والمتأهبة بالصمت الذي يجبرنا على النسيان. كل الذين يمرون بقربنا غرباء، وكلهم صانعو ضجيج، ويندر أن يتحول بعضهم إلى صانعي لغو شجي كلغو عصافير الصباح المكرر كل صباح.

فنون الراب لا تريد من السامع أن يتواصل معها، لا تتطلب منه إخراج الآه من حنجرته، ولا تدعوه للرقص وسماع وقع أقدامه. جل ما تريده تنبيه الآخر، كل آخر، إلى وجود المغني

فنون الراب لا تريد من السامع أن يتواصل معها، لا تتطلب منه إخراج الآه من حنجرته، ولا تدعوه للرقص وسماع وقع أقدامه. جل ما تريده تنبيه الآخر، كل آخر، إلى وجود المغني، إعلان فج بحق هذا المغني في أن يرفع عقيرته بالصياح، قول حاسم بأن المغني يملك خطابًا، لكن فحواه ليست مهمة في حد ذاتها، المهم أن يدرك السامع أن الخطاب موجود وقد يكون خطابًا مهمًا ومؤثرًا، لكننا في وقتنا الضيق لا نستطيع تبين ملامحه.

هذا فن يناسب العالم المعاصر. فن لا يستطيع الفنان أن يعلن فيه خطابًا أبعد من فجاجته في إعلان حقه بأن يكون له خطاب. خطاب موعود، للسامع والفنان على حد سواء، وعلينا أن ننتظره، لكن قدومه يتأخر لأن العالم الذي نعيش فيه لم ينفجر بعد. الراب بهذا المعنى هو الأغنية التي نعرف أنها موجودة، لكننا نعجز عن سماعها لأن العالم ما زال حيًا ونابضًا ومكتظًا.