10-أغسطس-2020

يحيى مصطفى/إيران

1

معظمُ الرجال الذين وضعتهم الصدفة في وجه أقداري كانوا على ما يرام إذا ما تعلّق الأمر بالنساء، جلّهم كانوا رجال دنجوانيين متعددي العلاقات النسائية، أرادوا إغوائي للدخول في معمعة علاقاتهم تلك. أذكر أنّ أحدهم قال لي ذات مرة: "أنا قلبي مساكن شعبية"، ثمّ أضاف: "وكلها فاضية"، فتذكّرتُ أنني أخبرته في وقتٍ ما أنّ الأمكنة الفارغة تُمثّل مصدر فتنة وإغراء خاصّ بالنسبة لي، لأنّها تفتنني دائمًا بما تحمله في قلبها من جماليات الاحتمال، وأنّني أحبّ احتمال جذبها نحوي واحتكارها لي ماً أن تقع عيني عليها، وأحبّ فكرة حجزها وملئها وتصدّرها.

 فكّرتُ عندها بأنّ ذلك الرجل أراد أن يُغويني بمساحات قلبه الفارغة من أجلِ أن أدخلَ مع غيري في معركة محاولة احتكارها وحجزها وتصدّرها، وحدثتُ نفسي بأنّ تلك المعركة تحتوي في داخلها ألعاب احتمالية مغرية (إما أن أربح وإما أن أخسر)، وأنني على استعداد لكيْ أدخلها بلا أسلحة عدا فكرة صفرية واحدة تغيبُ عنها كلّ الاحتمالات، أخسرُ فيها معركتي قبل أن أبدأها، وأقطع على ذلك الرجل خطة تسلله إلى قلبي إن ربحتُ وملأت قلبه، بحيث أثبت لنفسي أنّني امرأة منحازة دائمًا لقلبها الفارغ إلا من احتمال الامتلاء!

2

كلّ رجالي الذين أحببتهم تركتهم في المنتصف، قبل النهاية بكثير، بلا تفاصيل ذاكرية تكفيهم ليشكلوا منها ملامح حكاية كاملة. دائمًا ما كانت حكاياتي معهم مبتورة الأطراف، تحتاجُ منهم أن يكونوا صانعي أطراف جيدين وأن يُعيدوا بناءها وتركيبها كما يشاؤون.

إنّ النقص في الذكريات يجعل هناك إمكانية ما لابتداعها، هذا ما كنتُ أؤمن به دائمًا، وهذا ما أردتُ أن أصيّر عليه كلّ الرجال الذين أحببتهم، أردتُ أن أجعل منهم خالقين صغار يلجؤون إلى فنّ الابتداع، ليبتكروا ملامحًا ووجوهًا لكلّ ذكرياتي التي لم أعشها معهم، والتي يفتقرون إليها ويَشعرون إزاءها بافتقادٍ حادّ. 

إنّ افتقارهم ذاك سيجعلهم بالضرورة يرتادون فِعلَ الخلق، فيخلقون كلّ تفصيلة ولحظة عجزوا عن عيشها معي لمحدودية الحكاية وقصرها، وإنّ افتقارهم ذلك سيجعلهم ملتَهمين جيدين للتفصيلات التي خلقوها في لحظات جوعهم وحنينهم الشديد إليها. ثمّ إنني هذه الحالة أكون قد أسديتُ معروفًا لكلّ الرجال الذين أحببتهم، لأنني جعلتهم يذهبون بي ومعي في رحلة ذاكرية كاملة، بلغوا أقاصيها متخففين من أعباء مرافقتي لهم وقد تركتهم أصلاً في المنتصف!

3

لم أعد أذكر كم هو عدد الرجال الذي جاءوني معَبئين بافتراضاتهم القَبلية عني، لكني أعرفُ أنّ أولئك الرجال جميعاً كانوا مفتقدين لحسّ الاستكشاف، وأعرفُ أنّ افتراضاتهم القَبلية تلك لم تكن أكثر من جرعة معرفية كاذبة، يشربونها في كلّ مرة قبل الدخول إلى عوالمي لتريحهم عناء البحث في غاباتي ودهاليزي.

أذكر أنّ أحدهم قال لي ذاتَ مرة: "ما أقواكِ"، وأنني لم أملك ردًا على قولته التي تفترضُ فيّ شيئًا يُسمى"القوة"، وماذا تكون قوتي غيرَ افتراضٍ خاطئٍ تكوّن في ذهنِ رجلٍ يتكاسل عن اقتحام عوالمي وتتبّع آثار الحفر الملحية العميقة التي تظهرُ في وجهي كعلامة دالة على كثرة لحظات هشاشتي البكاءة. كما وأنني أذكر أنّ أحدًا منهم قال لي في موضعٍ آخر: "انتي كتير هشة" وأنني –كذلك- لم أملك ردًا على قولته التي تفترضُ فيّ شيئاً يُسمى"الضعف"، إذ ماذا يكون ضعفي–أيضًا- غيرَ افتراضٍ خاطئٍ تكوّن في ذهنِ رجلٍ لم يبذل جهدًا في التسلّل إلى معالمي الجسدية وملاحظة آثار قلع الجلد الذي أشعرُ أنّي أنزعه عني –طواعية- مع كلّ عزيز أو صديقٍ يرحلُ عني بعد أن كان قريبًا مني وملتصقًا بي كجلدي، إذ أنني أرفعُ مع كلّ حادثة من حوادث الرحيل تلك شعار قوتي الوحيد الذي أقول فيه: "أنا لو جلدي وجّعْني مستعدة أنزعه عني وأشيله".

أجل، هناك من مروا وافترضوا فيّ القوة، وهناك من مروا وافترضوا فيّ الضعف، وهناك آخرون كثيرون مروا وافترضوا فيّ ما لم أعد أذكره من أسماء الصفات والسمات، لكنني رغمّ أولئك الكثيرون الذين جاءوني محملين بالافتراضات، أفترضُ دائمًا أنني أذهبُ عندَ رجلٍ آخر لا أعرفُ منه غير ما أحمله من افتراضات قَبلية لا تَقول عنه شيئًا وتُجبرني على اقتحام عوالمه كامرأة عزلاء، تُدخلُ إليه متسللة من ثغرة اللامعرفة المطلقة، دون أن تشربَ جرعات معرفية كاذبة، وتُحاربَ في مجاهله وليس في يدها غير سلاح الاستكشاف.

4

لا أجيدُ رياضة الجري وراء الرجال الراحلين، لكنني أجيدُ القفز وراءهم، قد تبدو مشهدية مضحكة كثيرًا، أقصد مشهدية امرأة تقفز وراء رجلٍ يمشي بخطوات ثابتة ملوحًا بيده وسائرًا نحو البعيد، إنّ هذه المشهدية بالذات هي مشهدية فيها من الغموض الشيء الكثير، كلّ من سيشاهدها سيسأل نفسه أسئلة كثيرة، لكنّني أجزم بأنّ غالبية هذه الأسئلة ستكون حول مشهدية هذه المرأة المجنونة، هل تحاول اللحاق برجلها الراحل مثلاً أم أنّها تتحرّك وراءه بلا هدف؟ هل تحاول الدخول معه في سباقٍ من نوعٍ ما أم أنّ حركتها هذه هي حركة عبثية بالكلية؟ لا أحد من مشاهدي هذه المشهدية سيلتفت إلى الرجل الراحل، لا أحد سيفكّر فيه أو سيلجأ إلى محاولة استكشاف أسباب رحيله ودوافعه، ستكون المرأة المتروكة هي المتن في هذه المشهدية، وسيُدفع بالرجل الراحل إلى الهامش؛ إلى ذلك المكان الذي ظنّ أنّه قد ينفي إليه المرأة المتروكة دون أن يُفكّر باحتمالات أخرى، كأن تكون بارعة في فنون الاستعادة؛ استعادة نفسها في مشهديات الرحيل التي تبنيها وتكون فيها متنًا يظهرُ على هامشه رجلٌ يمشي بخطوات ثابتة ملوحًا بيده وسائرًا نحو البعيد.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

شمس دموية

لا أحد يرى قدمه حين تسقط في الفراغ

دمٌ في العقل

دلالات: